سياسة مجتمع

تحمّل المسؤولية والضغط لوقف العدوان مدخل إنقاذ لبنان وبقائه وطناً

زكـي طـه

بيروت 11 تشرين الثاني 2024 ـ بيروت الحرية

انتهت الانتخابات الرئاسية الاميركية، وفق طموحات حكومة العدو الاسرائيلي ورئيسها، بفوز المرشح الجمهوري الذي يرى فيه حليفاً استراتيجيا استثنائياً لاسرائيل، ومزيداً من الدعم لتحقيق اهداف حربها المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه، كذلك في المواجهة المشتركة لدور ايران في المنطقة ولمشروعها النووي في آن. أما القمة العربية الاسلامية في الرياض فإن ما سيصدر عنها لن يتخطى المطالبة بوقف الحرب والتأكيد على حل الدولتين وتأمين المزيد من مساعدات الاغاثة لضحايا الحرب في لبنان وغزة.

في المقابل فإن المخاطر الوجودية والمصيرية الزاحفة على لبنان بلغت مستويات من الوضوح لم تعد خافية على أحد. كما وأن أهداف الحرب الاسرائيلية المفتوحة عليه برعاية اميركية، تحت راية “تصفية حزب الله” والنيل من الدور الايراني فيه وفي المنطقة اصبحت مكشوفة. وأن الإعلان عنها من قبل حكومة العدو ونتائجها المتحققة لغاية الآن، يؤكدان مدى خطورتها التي لم يعد بالإمكان الاستخفاف بها. خاصة وأن الحرب مرشحة للتوسع والتصعيد وفق كل المؤشرات الميدانية، والمعطيات القائمة على أكثر من صعيد محلي وإقليمي ودولي.

وليس جديداً القول إن التعامل الجاد والمسؤول من قبل اللبنانيين جميعاً، مع الحرب ومفاعيلها ومضاعفاتها الخطيرة على بلدهم ومصيرهم، أصبح أولوية ملحة لا تحتمل التأجيل، وتتقدم كل ما عداها. وأنهم مطالبون بتحديد وجهة التعامل معها والعمل من أجل وقفها. لأن الاكتفاء بالتحليل والتنظير لا يعدو سوى هروب من موجبات التحديات المصيرية التي تعصف بلبنان. ولا يختلف عنه انتظار النتائج التي يستحيل تقدير طبيعتها ومدى خطورتها، لأنه يقع في باب التحلل من المسؤولية الوطنية عن مصير الكيان.

وخطورة الوضع مردها تشابك أوضاع لبنان على نحو غير مسبوق مع الأزمات المتفجرة في سائر ساحات المنطقة، في لحظة احتدام الصراع الاميركي ـ الايراني على رافعة الحرب الاسرائيلية المفتوحة. بدءاً من الحرب التي تستهدف الشعب الفلسطيني في وجوده وقضيته وحقوقه، إلى تصعيد المشاركة في الحرب المتعددة الأوجه المحلية والاقليمية والدولية الدائرة في سوريا وعليها، بالإضافة إلى ساحتي العراق واليمن، وما يحتشد فيهما من نزاعات مزمنة ومستجدة بعضها محلي وأكثرها اقليمي ودولي، وصولاً إلى الميدان الايراني الداخلي والخارجي في آن.

لم تعد الاسئلة المتعلقة بأهداف الحرب الاسرائيلية على لبنان، بحاجة إلى براهين وأدلة. والمعلن منها تجاوز مطلب إلزامه بتنفيذ القرار 1701، نحو محاولة إخضاعه لشروط الامن والسلام الاسرائيلي. هذا ما ينطق به قادة العدو، وفي امتداده يقع ما تنفذه آلة حربه من عمليات قتل واغتيالات وتهجير وتدمير تطال سائر مناطق الجنوب والضاحية الجنوبية للعاصمة، والبقاعين الغربي والاوسط وصولاً إلى منطقة بعلبك والهرمل وجميع المعابر بين لبنان وسوريا. ما يعني أن الحرب ليست محصورة بالمنطقة الحدودية، ومخطط إقامة منطقة عازلة فارغة من السكان كما يظن البعض، نظراً لعمليات التهجير والقصف الجوي والمدفعي التدميري مقابل الهجمات الصاروخية التي تستهدف المواقع والمستعمرات الاسرائيلية، أو بفعل المواجهات البطولية المباشرة بين مقاتلي حزب الله وجيش العدو، والتي لا فائدة مطلقاً من التقليل من أهميتها، ولا من نتائجها، سواء تعلق الامر بالخسائر الاسرائيلية، أو بخسائر حزب الله ولبنان.

وفي سياق اهداف الحرب تقع محاولات التلاعب الاسرائيلي بالمعادلة المجتمعية اللبنانية، وعمليات التهجير القسري والجماعي المتواصلة فصولاً كارثية. والتي تستهدف الطائفة الشيعية في اجتماعها وأماكن وجودها وإقامتها واقتصادها، عبر تدمير ممتلكاتها ومصالحها ومصادر عيشها، بذريعة تصفية حزب الله والعمل على النيل من بيئته الاجتماعية. وهو الهدف الذي لا يقل خطورة عن مسلسل عمليات القتل والتدمير المنظم المستمر يومياً في سائر المناطق، سواء تعلق الامر بمفاعيله التدميرية لبنية الطائفة الشيعية المجتمعية والاقتصادية، وهي مكوّن أساسي في الاجتماع اللبناني، أو بما يترتب على ذلك من مضاعفات ومفاعيل تفجيرية في ظل ما هو قائم وموروث من انقسامات وتفكك أهلي، ساهمت في تزخيمها سياسات الاحزاب الطائفية المتصارعة على مواقع السلطة والحكم تحت راية مشاريعها الفئوية، حول الهوية وطبيعة النظام والحصص والمصالح والحقوق.

تتوالى فصول الحرب الاسرائيلية ايضاً في ظل أزمة سياسية مستعصية تتحكم بأوضاع البلد، عنوانها الرئيسي فراغ رئاسي مستدام، وشلل مؤسسات الدولة واجهزتها الادارية والخدماتية، في امتداد الانهيار الاقتصادي والنقدي، ورفض سائر اطراف السلطة تحمّل مسؤولياتهم الإنقاذية ومواجهة التحديات المصيرية المتعددة الاوجه التي يواجهها لبنان والمتعلقة بوقف الحرب وإعادة تكوين السلطة واستعادة الدولة لموقعها ودورها ومعالجة الانهيار الاقتصادي وإعادة الاعمار. بديلاً عن استسهال استمرار الحرب وفق دعاوى قيادة حزب الله والنظام الايراني، بما فيه اشتراط ربط وقف اطلاق النار على الجبهة اللبنانية بوقف الحرب على غزة، الأمر الذي لم يعد يشكل تغطية للمساندة المدعاة لها، في ضوء عمليات الابادة المفتوحة وهول الماساة الانسانية المتواصلة في قطاع غزة، والطبيعة الكارثية للنكبة الوجودية التي وقعت على الشعب الفلسطيني بنتيجة الحرب المستمرة.

هذا عدا أن وقائع الحرب على لبنان ونتائجها الميدانية المتحققة لغاية الآن، وبالقدر الذي تطعن بادعاء حماية لبنان والدفاع عنه، فإنها تدلل على عبثية قرار الاستمرار بها، ليس لأن البلد لم يكن تحت الاحتلال، أو لأنها اطاحت بإنجاز التحرير، بل لأن لبنان اصبح من أقصاه إلى أقصاه محاصراً ومستباحاً بشكل كامل من قبل آلة الحرب الإسرائيلية، وخاضعاً للاحتلال والسيطرة الاسرائيلية الجوية والأمنية التي تتحكم بحركة وحياة اللبنانيين على نحو غير مسبوق.

من الثابت أن الدعوة لاستمرار الحرب، تشكل استسهالاً لتعريض لبنان كياناً وبنية مجتمعية واقتصادية لأفدح المخاطر، وللمزيد من فصول القتل والتدمير والتهجير التي تجاوزت كل ما سبقها خلال الحروب العدوانية المتكررة عليه منذ ما يزيد عن 75 عاماً. وفي السياق عينه يقع الاستخفاف بالحرب الاقتلاعية والتدميرية التي تنفذها اسرائيل في مناطق الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، والتي تستهدف الطائفة الشيعية والتلاعب بمعادلات مكونات البنية اللبنانية والسعي لتفجيرها، عبر استغلال مضاعفات التهجير في ظل الامعان برهن البلد لاستراتيجية النظام الايراني ومحور الممانعة، خلافاً للمصالح الوطنية اللبنانية والفلسطينية وقضايا الوضع العربي.

يؤكد ذلك أن الدعوات لاستمرار الحرب والتنظير لها تتجاهل نتائجها التي تجاوزت كل التوقعات، جراء انكشاف بنية الحزب القيادية والقتالية والامنية والادارية من قبل العدو وأجهزته المخابراتية على نحو كارثي أذهل الجميع. والذي تمكّن بشكل مفاجىء وبسرعة قياسية من إيقاع أفدح الخسائر ببنية الحزب وقواه على كل المستويات المشار إليها. كما اطاح ايضاً بسردية حول توازن الردع وعجز جيش العدو  عن خوض الحرب ضد الحزب، وبسيل التهديدات والتحديات لقيادته. والاخطر أن مسلسل عمليات الاغتيال والمطاردة العسكرية والأمنية لقيادات ومسؤولي الحزب لم تزل تتوالى فصولاً دامية على غير انقطاع.

من الواضح أن ما يتهدد البلد من مخاطر راهنة، لا يتأتى فقط من الرغبة الجامحة لدى حكومة العدو ورئيسها في متابعة الحرب بهدف تصفية حزب الله، أو تصفية الحساب المفتوح مع لبنان منذ العام 1968، ومحاولة ضمان امن الحدود الشمالية لدولة اسرائيل بشكل دائم، من خلال السعي لفرض معاهدة سلام وفق شروطها. ولا من الضغوط الاميركية ومشاريع الاتفاقات بضمانات دولية وقوات متعددة الجنسية، وحسب. لكنه يتأتى أيضاً من دعوات قادة النظام الايراني حول ضرورة استمرار الحرب وتكرار دعوة قيادة حزب الله وتوفير الدعم السياسي لها من أجل متابعة المعركة التي بدأتها. ومرد ذلك القرار الذي قضى باعلان معارك المساندة تحت راية وحدة الساحات قبل أكثر من عام، للتغطية على عدم مشاركة ايران في الحرب. وسعي قيادتها لتوظيف تلك المعارك لحماية نفوذها في المنطقة وتكريس دورها في أزمات بلدانها، بغض النظر عن المفاعيل التدميرية لتلك المعارك عليها وعلى القوى المعنية بخوض المعارك.

ولذلك يتسابق قادة النظام والحرس الثوري، ومعهم المرشد على تكرار الدعوة لاستمرار الحرب، والسبب الرفض الاميركي والاسرائيلي لاعتبار ايران شريكا في معالجة أزمات المنطقة وتسوية اوضاعها. والنتيجة استمرار وتصعيد مسارات الحرب على سائر جبهات محور الممانعة ومع ايران، لكن الاكثر راهنية هي جبهة لبنان، نظراً لأهميتها لدى سائر الاطراف. وفي هذا السياق تكرر قيادة الحزب الجديدة مقولاتها حول أهداف حربها، مستهينة بخسائره البشرية والمادية المهولة ومعه البلد، واستسهال التفريط بحياة قواته ومقاتليه وقاعدته وبيئته، ومعهم جموع اللبنانيين الذين تمعن اسرائيل في تدفيعهم أكلاف خيارات الحزب، التي قررها بمعزل عنهم جميعاً سواء تعلق الامر  بحرب المساندة واستمرارها، أو برفض كل محاولات وقفها وصولاً إلى اطلاق الدعوات باستمرارها وإن تحت عناوين مختلفة.

وعليه، وفي معمعة الحرب المفتوحة على لبنان، وامام كم المخاطر والتحديات المصيرية التي يواجهها اللبنانيون جميعاً ودون استثناء، تنتصب أولوية وقف الحرب ووضع حد لمسلسل القتل والتهجير والتدمير، مدخلاً لإنقاذ لبنان، ولحماية ما تبقى من مقومات وجوده. إن تحرر البلد من المخاطر وبقائه وطناً موحداً لجميع أبنائه، يتمثل بإعادة الاعتبار لدور الدولة الجامعة، والمبادرة لإعادة تكوين السلطة، بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة واستعادة الدولة لقرارها السيادي وحصر مسؤولية حماية البلد والدفاع عنه بالجيش اللبناني. وهو ما يشكل المدخل الوحيد لوقف الحرب وفتح الأفق امام التعامل الجاد والمسؤول مع موجبات نتائجها الكارثية، عبر إقرار الحد الادنى من الاصلاحات المطلوبة مدخلاً لانهاء الحصار السياسي والاقتصادي والمالي المفروض على لبنان عربياً ودولياً. ما يعني إعادة تقديم أوراق اعتماد لبنان امام المجتمعين الدولي والعربي كدولة مكتملة النصاب الدستوري، وكسلطة سياسية مسؤولة عن وجوده ومصيره، وأن من هم في مواقع الحكم، ليسوا وسطاء بين الخارج وأي جهة، أو حزب يصادر قرار البلد ويبقيه ساحة مرتهنة للخارج.

إن ما نطرحه وندعو له هو تحدٍ مصيري راهن يواجه اللبنانيين جميعاً ونحن منهم، بصرف النظر عن انتماءاتنا الطائفية والمناطقية والاجتماعة، أو هوياتنا السياسية ومعتقداتنا. ورغم الصعوبات والتحديات الهائلة، من المهم أن يثق اللبنانيون بقدرتهم على انقاذ بلدهم، والعمل في سبيل استعادة الدولة لدورها من أجل وقف الحرب. والامر يتطلب مغادرة اليأس والعدمية، وعدم انتظار المجهول ورفض التسليم بالأمر الواقع، أو الامعان في إنكار الوقائع ونتائح الحرب القاهرة والمتوالية فصولاً دامية وكارثية، ورفض الخضوع لآليات الفوضى وفق مشيئة العدو الاسرائيلي واهدافه العدوانية، أو لدُعاة استمرار الحرب خلافاً للمصلحة الوطنية اللبنانية.

هنا تكمن أهمية المبادرة والإقدام لتحمّل المسؤولية، والسعي الجاد لتجميع وتلاقي القوى والمجموعات وسائر الفئات الاجتماعية، وهم الذين يعبرون عن المصلحة الحقيقة في بقاء لبنان وطن لجميع اللبنانيين. والهدف صياغة توجهات برنامج انقاذي جامع، يشكل مستنداً لتنظيم التحركات السياسية الضاغطة على أهل السلطة، ومن هم في موقع المسؤولية، لمطالبتهم بأن يتحملوا مسؤولياتهم التي تخلوا عنها وفرطوا بها طويلاً قبل فوات الأوان.

Leave a Comment