سياسة صحف وآراء

“تحرير فلسطين ولبنان” من شعبيهما

*ناصر السهلي

على عكس التيار الصهيوني، الغالب في تأييده حرب الإبادة في فلسطين وما يقابلها في لبنان، ثمة بعضٌ عربي يروج ويصدق واهماً أكاذيب واشنطن، خصوصاً حول ضرورة “تحييد المدنيين ودخول المساعدات الإنسانية”، تزامناً مع وقاحة منح تل أبيب مهلة شهر لتهجير سكان شمال قطاع غزة. هذا البعض يذهب في تماهيه مع السردية الصهيونية، التي ينفضّ عنها غربيون ويهود معادون لها، إلى القول: “انظروا ماذا فعلت المقاومة بشعبها”.

حرب الإبادة والاستهداف المتعمد للمستشفيات والبنى التحتية المدنية، إن في قطاع غزة أو في لبنان، وبأسلحة وذخائر الولايات المتحدة التي تكذب منذ أكثر من سنة، يردّها رهط مرددي السردية الصهيونية إلى “الإرهابيين المتعصبين”. وقاحة الأمر، واحتقار العقل وبلغة ضاد لا تشبه العرب، تحيل الممارسة التطهيرية المتوارثة من زمن عصابات الإرهاب الصهيوني المنظّم قبل عام نكبة 1948 إلى “ردود أفعال على المتطرفين”، أي على الفعل المقاوم برمته. ليس غريباً إذاً في السياق تحميل الضحايا مسؤولية الجرائم المرتكبة بحقهم. وذلك ربما ينسجم مع ترهات “المتحدثين” باسم جيش الاحتلال.

منذ بداية الحرب على غزة كرر البيت الأبيض ووزير خارجيته أنتوني بلينكن القول إنهما يعارضان احتلال قطاع غزة. التصريحات تلك ليست سوى استمرار لأكبر عملية تحايل دبلوماسي-إعلامي، بل مباركة ومشاركة في حرب الإبادة ونيّة ارتكابها، تزامناً مع اندفاع التيار التوراتي- التلمودي، بياقات صهيونية، للتبشير بالاستيطان.

علنية مشروع توسيع “أرض إسرائيل” شمالاً في لبنان وجنوباً في قطاع غزة والضفة الغربية، وربما شرقاً باتجاه سورية والأردن، وغرباً نحو سيناء المصرية، يزيدها وقاحة اعتبار مجرم حرب، كبنيامين نتنياهو، وأركان عصابته، “محررين” للبنان وقطاع غزة. فهل يتحمّل الواقع العربي الرسمي مسؤولية ما يجري؟

البعض ممن ظن قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن نتنياهو “حليف يُعتمد عليه”، لا يرمش له جفن أمام مشروعه للشرق الأوسط الجديد، وتوسيع مهماته أخيراً نحو “تحرير” لبنان، وبالطبع قطاع غزة.

تلك ليست كوميديا سوداء، بل واقع دامٍ في سياق سكوت وعجز رسمي عربي مرعب النتائج على المديين المتوسط والبعيد، وخصوصاً في التساوق مع التحايل الأميركي لحماية جرائم الحرب، بما فيها التهجير القسري بأوامر استعمارية استعلائية لإخلاء السكان والمستشفيات والمنشآت المدنية، بل وقوات حفظ السلام التابعة الأمم المتحدة، “يونيفيل”، في جنوب لبنان. فسؤال المسؤولية الرسمية العربية هو السؤال الذي يبتعد عنه أصحاب تحميل من يقاوم المشروع الاستعماري الإحلالي التوسعي مسؤولية الإبادة المنهجية.

ومأساوية الواقع العربي، ومن خلفه هذا الركل الغربي للقوانين والقيم والمبادئ العالمية، والاستهتار بملايين الضحايا العرب، تتزايد مع ركون جنوني لتطبيق إرث إجرامي لعصابات إرغون وشتيرن التلموديتين لابتلاع الأرض العربية، ذلك بدعم أميركي ينسجم مع ما اعتبره في 2003 مهمة “تحرير العراق”، بعد حصار دام 12 سنة، ليتكثف ذلك “التحرير” في تدمير النسيج العراقي، ويُختزل في سجون أبو غريب.

يبقى التذكير أن رهط “ذباب” التصهين، بمستوياته المختلفة، ما كان له أن يكون بمثل هذا “الاعتدال” المتسامح لو أن متراً واحداً من حدود بلده جرى التعدي عليه من جار عربي. بالتأكيد كان ليستدعي حمية قبلية لأجل ذلك “المتر السيادي”. بينما في المقابل فإن توسيع حدود أرض “إسرائيل الكبرى” عبر المجازر يصير وجهة نظر، تحت بند “الاختلاف على الوسيلة”، كأزمة تزوير آخر للتاريخ القريب، بوصف خيالي لسلام كان على الأبواب في فلسطين، ومحاولة تزوير أعمق على مستوى الضمير وبوصلة المصالح العربية المشتركة تحت عباءة الصهيونية.

*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 25 تسرين الأول / أكتوبر 2024

Leave a Comment