جهاد بزي*
لا وجه لبشار عبد السعود. رأينا ظهر الرجل السوري فحسب، في لقطة جامدة كافية لتخيل الكابوس الذي عاشه ومات في آخره.
لم نرَ وجهه الميت، ومع ذلك يمكننا أن نرى من الأثر الباقي على الجسد ملامح صاحبه خلال الطقس الجحيمي.
هذا مشهد بحاجة إلى إعادة ترتيب. ترتيب بشار مكبلاً، أو محشوراً في زاوية ما، عارياً محاطاً برجال يحملون سياطاً وكابلات حديدية وسجائر. رجال بسلطة وخيال عقيم. ليس مطلوباً منهم سوى استخدام عضلاتهم في ضربه بلا انقطاع، بكل ما في أيديهم من أدوات غليظة وآلات حادة، وأسلاك موصولة بتيار كهربائي.
نراهم. يتناوبون عليه. مرة بعد مرة. ساعة بعد ساعة. يطفئون سجائرهم فيه كيفما اتفق. يسلخون جلده. يرتاحون قليلاً. يجوعون ربما، يذهبون لتناول غداءهم وتبادل أحاديث مضحكة وصور وقلوب مع زوجاتهم وأطفالهم وحبيباتهم، قبل أن يعودوا إلى نشاطهم بهمة وطاقة متجددتين.
لساعات طويلة. كل هذه الآثار الباقية على الجثة تقول إن العمل تطلب جهداً ووقتاً. لم تنج بقعة من تغير لونها إلى بنفسجي داكن. كأن الصور التي انتشرت ليست لجثة عارية بل لجسد ملفوف بكفن هكذا لونه، بنفسجي داكن.
لغة الطب غنية بمصطلحات علمية لتوضيح الآثار على الجثة نكاد لا نفهمها في العادة، لكنها كافية لأن تشرح ما حدث لبشار. مع ذلك، فالصورة اكتفت بنفسها. الجثة حكت كيف يمكن لجسد أن يتحول إلى عدو لصاحبه تحت التعذيب. تحكي عن استغلال الألم للانتقام من إنسان. لكسره. تاريخ البشرية يحفل بمثل هذه البشاعة. لكن الدول، العادية منها على الأقل، لم تعد تفعل ذلك.
هل يستحق بشار ما حصل له لأنه متهم بأنه ينتمي إلى “داعش”؟ هل فعلاً ينتمي إلى داعش أصلاً؟ كيف نثق بجهاز أمن الدولة أصلاً، وهو الذي عذب الرجل وقتله؟ حتى لو كان بشار ينتمي إلى التنظيم الإرهابي، فأي تهمة تسقط عنه بمجرد أن تطفأ أول سيجارة في جلده. يعود إنساناً منتهكاً. إنسان لا فرق بين وجهه الذي لم نره في الصور، وبين وجوه محتملة للآباء وأمهات وأصدقاء وأطفال. تحت التعذيب، لا فرق بين وجه بشار ووجوهنا، لبنانية كانت أم سورية.
وأيضاً، تحت التعذيب، الجلاد هو الجلاد. السلطة الذي تعذب معتقلاً هي نفسها، أكانت تنظيماً ارهابياً أو نظاماً قمعياً بوليسياً أو عصابة أو جهازاً في الدولة اللبنانية التي تريد لنا أن نصدق أنها دولة، وإذ بها تثبت أنها مجرد نظام همجي.
وبشار، فوق ذلك، سوري. ولأنه كذلك، يمكن لمعذبه أن يكون أقسى، وأن يستهتر به حياً ويستهتر به بعد قتله، إلى درك الابتذال في توليف كذبة من دون أن يتعب عليها حتى: “نوبة قلبية لمتطرف يدير عصابة نتيجة تناوله حبة كبتاغون”.. ثم يفيق عليه ضميره الوطني ليقول إن “البلد في أزمة اقتصادية اجتماعية سياسية”.. بمعنى آخر، لدينا هموم أخرى غير مقتل سوري. غضوا الطرف. إنه مجرد سوري.
هذا ما قاله جهاز أمن الدولة. إن بشار مجرد سوري آخر، بلده في حرب، وهو بلا شجرة، بلا عائلة وبلا حياة. وجوده رخيص وتعذيبه رخيص وروحه قصيرة. مقتله هكذا كان حماسة زائدة من الجلادين، عنفوان شباب زائد عن حده لدى الضابط وعناصره. وبشار داعشي أصلاً وهذا ما يفعله التنظيم الوحشي بمن يقبض عليهم. يقطع رؤوسهم ويحرقهم ويغرقهم ويرميهم من شاهق ويمثل بجثثهم. مقتل بشار وإن لم يكن مقرراً ولا محسوباً إلا أنه كان من حسن حظ اللبنانيين الذين يمكنهم أن يشكروا الله وأمن الدولة ويتفرغوا من الآن فصاعداً لمصائبهم العادية اليومية.
الجهاز الرسمي التابع للدولة اللبنانية الذي لم نر له إنجازاً حتى اللحظة غير ارتكابات وجرائم كهذه، يقول إنه مثل داعش، لا بل أسوأ. فالتنظيم همجي آتٍ من كهوف التاريخ المظلمة. أمن الدولة، في المقابل، جهاز بنظام وتراتبية وأخلاق مؤسسة وهدف نبيل هو حماية الدولة وشعبها من الخطر المحدق، الخطر المتمثل ببشار أو بغيره. جهاز في دولة ديموقراطية تدعي، في ما تدعي، أنها تحترم شرعة حقوق الإنسان. تدعي أنها ليست بعثية. لكن، وفي سبيل تحقيق الأمن، لا بأس بالحكم المسبق على سوري بهذا الإعدام الطويل. لا بأس بسلخه حيّاً، هذا المخلوق من آلهة أقل، كي تتحقق العدالة قبل موعدها. قبل تبيان الحقيقة حتى.
والجهاز قرر بعد الضجة التي ارتفعت لفظاعة الجريمة تحويل العناصر الذين ارتكبوها إلى القضاء. تبرّأ بجبنه المعهود من جنوده الأوفياء ليشيل التهمة عن ظهره. مع أن مقتل بشار ليس تجاوزاً فردياً. ليس سابقة من نوعها. العناصر وضابطهم ينتمون إلى أجهزة تقوم على تنفيذ الأوامر. هؤلاء لم يبادروا إلى التعذيب من تلقائهم. ثمة ضابط يغطي ضابطاً يغطي ضابطاً، وصولاً إلى أعلى السلطتين، العسكرية والسياسية. التعذيب ليس ممارسة شاذة عن القاعدة بل عمل منظم ومسموح ومغطى من السلطة التي تقول إنها لا تملك أقبية مظلمة تُمارس فيها مثل هذه الأفعال، ثم حين تقع الفضيحة تجبن عن الاعتراف بمسؤوليتها وترمى التهمة على من هم في أسفل السلّم، ينفذون ما يطلبه منهم رؤساؤهم بلا اعتراض. ولأنهم تسببوا بقتله تحولوا إلى القضاء، لأن كل المطلوب منهم كان أن يعذبوه فقط. لكن السجين أفسد الروتين المعتمد بالتعذيب فارتفعت ضوضاء حقوقية لا تفهمها الدولة وهي بغنى عنها أصلاً.
مجرد سوري. لكن بشار عبد السعود خرج على العالم بجثته المدويّة، فسارعت الدولة وجهاز أمنها إلى محاولة تخبئة عنفها المنظم أسفل السجادة، ليس خوفاً من اللبنانيين أو السوريين، بل من منظمات حقوق الإنسان الأممية والعالم من خلفها، ومن صراخ الصارخين على وسائل التواصل الاجتماعي. يحال بضعة جنود إلى التحقيق، وتنتهي هنا. قليلاً وينسى الجميع. ويعود كل شيء إلى حاله. وينسى السوري الذي سحق تحت التعذيب. ولا نعلم شيئاً عمن يمر تحت سياط هؤلاء ويكونون أكثر حظاً بقليل، لأنهم لم يموتوا.
من يعنيه هؤلاء “الآخرين” المجهولين المقطوعين من الأشجار، سوريين وفلسطينيين ولبنانيين؟ من يعرف أصلاً ما الذي يحدث لهم، ما دامت تهمة التطرف جاهزة للصقها فوق جباههم يقمع بها أقل شعور إنساني بالتضامن معهم. تهمة أننا إذا تعاطفنا مع حق إنسان بديهي بالمعاملة الإنسانية، فنحن مثله متطرفون.
لا أحد أنقذ بشار، ولا من تعذب قبله، ولا الآتي حكماً بعده. للدولة أجهزتها وأقبيتها المعتمة المخيفة ورجالها المستعدون للانكباب على سجين بكل ما أوتوا من حقد، حتى لا يعود من منقذ له إلا قلبه، يختار التوقف طوعاً عن النبض رأفة بحامله.
*نشرت في الزميلة المدن الالكترونية يوم الإثنين الموافق فيه 2022/09/05
Leave a Comment