خــالد زيــادة*
المرة الأولى التي سمعت بها باسم محسن إبراهيم، كانت إبان ثورة عام 1958، ويعود السبب في ذلك أن أخي معن قد سُجن في اليوم الثالث من أيام الثورة. وكان آنذاك عضواً في حركة القوميين العرب، التي كان محسن أبرز قادتها بالرغم من صغر سنه. ومنذ ذلك الوقت كان الاسم يتردد في المنزل لسبب أو لآخر. بعد خروجه من السجن غادر معن إلى القاهرة للدراسة الجامعية، وعند صدور مجلة “الحرية” عام 1960، أصبح مراسلها من القاهرة، يغطي الأخبار الثقافية.
أصبحت “الحرية” المجلة التي ننتظر وصولها إلى المنزل كل يوم اثنين، وكنت آنذاك في سنوات دراستي الأولى، فكنت أتهجّى العناوين والأسماء، وأكاد أقول إنني تعلمت القراءة في المدرسة، وفي فك حروف جريدة “الحرية” التي كانت تشغلها فلسطين وأخبارها. وكنت أقرأ رسالة القاهرة والزاوية في الصفحة الأخيرة التي يكتبها (غينكاف) غسان كنفاني قبل أن أبدأ بقراءة مقالات محسن إبراهيم. ولم أدرك حينها أنني أصبحت قومياً عربياً.
انتسبت إلى حركة القوميين العرب بعد حرب حزيران عام 1967، في مطلع العام الدراسي، وكنت في صف شهادة البريفيه. وكان أبرز نشاط آنذاك هو التحضير للانتخابات النيابية التي ستجري في ربيع عام 1968، التي سيشارك فيها مسؤول الحركة في الشمال. وزّعنا منشورات وبيانات وألصقنا صوراً على حيطان المدينة، وحضّرنا اجتماعات ومهرجانات. وأحرز مرشحنا أصواتاً كثيرة.
حضر في شهر أيار على الأرجح محسن إبراهيم إلى طرابلس للاجتماع بأعضاء الحركة، وقد صرت عضواً كاملاً دون مراسم، وذلك لتقويم نتائج المعركة الانتخابية. اجتمعنا في منزل أحد الأعضاء، ولم يكن عدد الحضور يصل إلى الثلاثين.
والأمر الذي كنت أتوقعه، حصل عكسه، ولا أدعي أنني فهمت كل ما قاله في تلك الجلسة. ولكنني فهمت أن المشاركة في الانتخابات لم تكن ذات مغزى، وأجرى نقداً للمعركة الانتخابية شكلاً ومضموناً. كان ذلك اللقاء بمثابة القطيعة مع ماضي الحركة وأعضائها القدامى، وتحولنا بعدها إلى الفصائل الماركسية. في تلك الفترة التي شهدت صعود المقاومة الفلسطينية، وزاد فيها الأمل والتفاؤل بعد النكسة والهزيمة.
كانت المشاركة في تظاهرة 23 نيسان 1969، بمثابة معمودية النار، كان الاتفاق أن نتجمع أمام سينما بيروت، وقد وصلنا مبكراً تحسبًا للمفاجآت. كان محسن يتقدم مجموعتنا، ولم نكن نخطو خطوات قليلة حتى “لعلع” الرصاص فتفرقنا كل في اتجاه. انطلقت بعدها بمهمات عديدة، من بينها التواصل مع بيروت لألتقي بمحسن في مبنى مجلة “الحرية” في رأس النبع لنتلقى التوجيهات، وشرحاً متعلقاً بتطور الأوضاع، كنتُ أتهيب اللقاء، فتضيع مني بعض الأفكار.
في غضون ثلاث أو أربع سنوات من العمل الحزبي في فترة من التحولات العميقة الفكرية والسياسية، تعلّمت الكثير، وكان الأستاذ فيها محسن إبراهيم. وبالرغم من مغادرتي العمل الحزبي نهائيًا عام 1971، بقي محسن إبراهيم بالنسبة لي السياسي الذي يملك الوضوح والنزاهة والشجاعة والمراجعة النقدية. وقد اعتقدت خلال الخمسين سنة اللاحقة أن تجربتي المبكرة تلك هي أغنى ما عشته في حياتي وهي التي جعلتني ما أنا عليه.
*كاتب ومفكر وباحث وأستاذ جامعي لبناني
Leave a Comment