* شهيد نكد
المصالحات الوطنية على الصعيد الشعبي هي من الأمور الملحّة والمطلوبة
أعطت إطلالة رئيس الحكومة نوّاف سلام عبر تلفزيون لبنان دفعًا للصدمة الإيجابيّة التي ضربت الشعب اللبناني مؤخّرًا والتي كانت قد بدأت مع انتخاب جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، واستمرّت بتكليف سلام تشكيل الحكومة، وتَبعها تأليف الحكومة. خطوة ذكيّة قام بها رئيس الحكومة بإطلالته الإعلامية الأولى، وتحمل أكثر من رسالة؛ مشروع بناء الدولة يبدأ بإعادة الاعتبار لمؤسّساتها، وتلفزيون لبنان هو واحد منها. وكما كلّ نظرائه، ضربه الإهمال وتمّ إفشاله لصالح الإعلام الخاصّ الذي، وبحسب ما رصدت مؤسّسة سمير قصير- سكايز أنّ 80٪ منه تقريبًا مرتبط من خلال الأسهم والملكيّة، بالطبقة السياسية، وأنّ 90٪ من هذه الوسائل يصرّ على إخفاء مصادر تمويلها، والّتي نادرًا ما ترتبط بالإعلانات أو بعائدات الإنتاج. وإذا ما اعتبرنا الجامعة اللبنانية والمدرسة الرسمية والمستشفيات الحكومية، نرى أنّ واقعها مماثل لواقع تلفزيون لبنان.
رسالة ثانية وجّهها سلام عبر تلفزيون لبنان، وهي أنّه يقف على مسافة واحدة من الجميع ويتوجّس من الجميع، ويرفض إهداء أيّ مكوّن من مكوّنات الطبقة السياسية الفضل بإحداث هذه الصدمة الايجابيّة. هو يعرف أنّ التحوّلات الإقليمية هي التي حرّكت الطبقات التكتونيّة للسياسة اللبنانية.
أسقط بإطلالته امكانيّة تحويل اللقاء من سكوب يعطي الأولويّة للترفيه والبحث عن محتوى مثير، عبر تبنّي أسلوب يتّسم بالمقاطعات المتكرّرة والتبادلات السريعة والإثارة على حساب الحوار الموضوعي والهادف.
كانت الخطوة ذكيّة، لكنّها كانت صارمة أيضًا. الثنائيّ عون-سلام يدرك تمامًا أنّ لبنان أمام فرصة استثنائية لبناء دولة “طبيعيّة”. ففي ظلّ نّظام دولي مُعولم تنقسم فيه الدول بين كبرى وصغرى، يتحوّل مفهوم السيادة من مفهوم بسيط الى مفهوم أكثر تعقيدًا. يقول أستاذ العلاقات الدولية والديبلوماسي في هذه الخصوص، ستيفان كراسنر Stephen Krasner، “إنّ السيادة ليست مجرّد مسألة مبدأ قانوني، بل هي متداخلة بعمق مع توزيع القوّة في النظام الدولي. فغالبًا ما تملي الدول القويّة شروط السيادة”. لكن بالرغم من تفاوت توزيع القوّة في النظام الدولي، إلّا أنّه ليس لعبة حظّ بالنسبة إلى الدول الصغيرة حيث تتحكّم تلك القويّة في تحديد مسار الأمور. فإذا أخذنا بالاعتبار ما يُجمع عليه علماء السياسية من أنّه لا يوجد مفهوم مستقرّ للقوّة ويصعب تحديد طبيعتها، فهي لا تنطوي دائمًا على الهيمنة والسيطرة، يمكنها أن تعمل أيضًا من خلال التعاون والانجذاب. وإذا ما درسنا تجارب كلّ من سنغافورة وأستونيا وكوريا الجنوبيّة ومالطا وغيرها من الدول الصغيرة، نستنتج أنّ امكانيّة هذه الفئة من الدول في تأمين مكانة محترمة لها في النّظام الدولي، حقيقيّة وواقعيّة.
إذا لم تكن القصّة لعبة حظ، فما هي إذًا؟
إنّ رسم مسار الأمور من قبل الدول الكبرى، لا يعني بتاتًا أنّ نظيراتها الصغيرة لا تملك نسبيًّا مصادر قوّة تخوّلها التعامل مع هذا المسار بما يخدم مصالحها ومصالح مجتمعاتها العليا والاستراتيجيّة. ما قوّض قيام دولة قويّة وقادرة وعادلة في لبنان، هو نظام الزبائنيّة الذي تحدّث عنه برتران بادي Bertrand Badi، والذي يعمل وفقًا له على مستويين: واحد داخلي والآخر خارجي. فالنّخب السياسية رسّخت نظامًا زبائنيًا في الداخل يقوم على التعامل مع الدولة على أنّها امتياز للزعيم والطائفة والحزب، وهي مصدر موارد ومنافع تُوزّع على الحواشي. من جهة أخرى، أسقطت هذه النّخب النموذج الزبائني الذي أرسته داخليًّا على علاقاتها الدولية حفاظًا على مصالحها وديمومتها. طبعًا، لا يمكن إغفال الدور الذي لعبه سلاح حزب الله في السنوات الماضية في تعميق الازمة، وفي المساهمة في حماية المنظومة وترسيخ وجودها، بحيث أضحى مشروع بناء الدّولة ضربًا من ضروب الخيال.
إنّ انعدام القوّة في لبنان إذًا نابع من الداخل، فمسار تشكيل الحكومة أسقط الكثير من الأقنعة، خصوصًا فيما يخصّ شهيّة كلّ الأطراف على التعامل مع التشكيل على أنّه طبخة محاصصة. وما الحملة التي تعرّض لها الرئيس سلام سوى خير دليل على أنّ سقوط السلاح ليس سوى الخطوة الأولى- الضروريّة في رحلة بناء الدولة.
إذا كان مصير الدول الصغيرة مرتبط بإملاءات النظام الدولي من جهة، وبالترتيبات الداخلية من جهة أخرى، فنحن اليوم في لبنان نقف أمام الورشة الداخليّة بعد أن اتّضحت وجهة النظام الدولي فيما يخصّ إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية أو انعدامها.
إذا كان هناك شعور عارم بأنّنا نقف اليوم أمام فرصة، فإنّ لبنان لا يمكن وصفه سوى ببلد الفرص الضائعة. لا يحصل إهدار الفرص عندنا عن طريق الصّدفة أو الخطأ أو عدم الادراك، إنّما عن وعي وسابق تصوّر وتصميم وبراحة ضمير. فاقتناص الفرص دائمًا ما يحصل من أجل إعادة تدوير الطبقة السياسية لذاتها.
وفي حين أنّ على السياسيين أن يتبعوا تطلّعات الناس، أصبح الناس هم الذين يتبعون رغبات السياسيّين. وذلك عادةً ما يحصل عند ممارسة الديمقراطية القائمة على “حكومة عبر الانتخابات”، والتي ترى في الديمقراطية إجراءً مبسّطًا يختار فيها المواطنون القادة بشكل دوري من خلال التصويت، من دون الانخراط بالضرورة في حوار عام عميق أو التفكير في السياسات والقيم. في المقابل، يتكلّم الفيلسوف والاقتصادي الهندي المعاصر أمارتيا سن Amartya Sen عمّا يسمّيه “حكومة عن طريق المناقشة”، معتبرًا أنّ الديمقراطية يجب أن تكون عبارة عن محادثات ومداولات مفتوحة ومستمرّة بين المواطنين وصانعي السياسات ومختلف أصحاب المصلحة حول ما يشكّل مجتمعًا عادلًا.
وإذا كان الأفضل هو الاذكى بحسب أمارتيا، فإنّ هذا الأفضل يمكن تحقيقه فقط عبر الانتقال بمفهوم الديمقراطية من مناقشة كيفيّة اتّخاذ القرارات، إلى إمكانيّة اتّخاذ قرارات جيّدة. انطلاقًا من هنا، لا يمكن إنجاز هذا الانتقال ما لم يبادر المجتمع الى فرض معادلات جديدة تهدف الى إنتاج سياسات مبنيّة على احتياجات الناس وتطلّعاتهم الحقيقيّة، بدلًا من استغلال الديمقراطية من قبل الممثّلين المنتخبين أو النّخب، فارضين تفضيلاتهم على الناس. وتحصل عمليّة الفرض هذه من خلال الانسجام والمصالحة مع خيبة الأمل التي تكلّم عنها غرامشي، النابعة من اللّامبالاة السياسية؛ إنّ شعور الناس بأنّ المنظومة السياسية غير مستجيبة وفاسدة، يصيبهم بخيبة أمل فينسحبون من المشاركة غير المُجدية. هذه الاستقالة الجماعية هي نتيجة سرديّة خيبة الامل السائدة. أضف إلى ذلك، إنّ المنظومة الحاكمة تستفيد من خيبة الأمل العامة هذه، لأنّها تؤدّي إلى إضعاف وعزل القوى التي تبغي التغيير. تتحوّل هنا خيبة الأمل إلى أداة للسيطرة، ما يكبت المبادرات المجتمعيّة الفاعلة والمؤثّرة؛ فالجمهور المستسلم يشكّل تهديدًا أقلّ لمنظومة السلطة الراسخة. مصالحتنا هذه مع خيبة الأمل والتعايش معها، حوّلانا إلى مجتمع يفرط في التحليل. فالتدقيق والنقاش المفرطان هما سمة أساسية من سمات سياسيّي لبنان، وإعلاميّيه، وأكاديميّيه، وحتّى شعبه. أصبح المجتمع عالقًا في حلقة من ردود الفعل: خيبة الأمل تؤدّي إلى الامتثال، ممّا يؤدّي بدوره إلى الإفراط في التحليل، ممّا يؤدّي إلى الشّلل.
إنّ كسر هذه الحلقة يتطلّب قيادة جريئة، وعملًا جماعيًّا، وتحوّلًا في العقلية من القبول السلبي إلى حلّ المشاكل بشكل استباقيّ، والتفكير الاستراتيجي. تحوُّلٌ يواجه من دونه المجتمع خطر البقاء في حالة الركود وعدم القدرة على مواجهة التحديّات أو اغتنام فرص التقدّم.
إنّ كسر هذه الحلقة يتطلّب تحوّلًا سياسيًا، بمعنى إعادة تشكيل العمليّة السياسية في البلد برمّتها، على خلاف المعارضة السياسية التي تسعى إلى تحدّي الوضع السياسي الراهن. في هذا السياق، يقول رئيس الحكومة في مقدّمة كتابه “لبنان بين الأمس والغد” إنّ الغاء الطائفية يحتاج إلى قوى اجتماعية جديدة وتشكيلات مدنية جديدة… بينما يفترض تغيير الطائفية والمحاصصة في السلطة من فوق، تغيير انتماءات القوى الاجتماعية في قاعدة الهرم الاجتماعي والسياسي من تحت. وذلك بانتماء القوى الاجتماعية إلى مصالحها الاقتصادية- الاجتماعية، وبالتالي إلى المصلحة الوطنية العليا”.
وفي هذا توضيح لمفهوم التحوّل السياسي. فمن دون وجود مواطنين مثقّفين ومشاركين ومتمكّنين بشكل جيّد، قد تفشل حتّى أكثر الخطط الاستراتيجية التي تضعها الحكومة. بالتالي يصبح إرساء نظام سياسي أكثر شمولًا وشفافيّة وتشاركيّة، أمرًا غير واقعيّ. على المواطنين الشعور بأنهم ليسوا منفصلين عن العمليّة السياسية، أو انّهم مجرّد متلقّين للخدمات، من هنا إنّ المواطنة الفاعلة والمجال العام السليم ضروريّان لازدهار الدولة وقدرتها على التكيّف مع متغيّرات النظام الدولي.
في خطاب القسم، أعلن رئيس الجمهورية وجوب تغيير الأداء السياسي، معلنًا أنّ الأزمة هي أزمة حكم وحكّام على حدّ سواء. فبناء الوطن يعني أن “نكون جميعًا تحت سقف القانون…وتفضيل الكفاءة على الزبائنية والوطنية على الفئويّة.”
وعندما توجّه إلى النواب قائلًا لهم “أدعوكم إلى أن لا تفكّروا بالانتخابات المقبلة، بل فكّروا بما سيؤول إليه مستقبل أولادكم وكرامة شيوخكم”، فهو بذلك أعطى بُعدًا جديدًا للعمل السياسي في لبنان حيث اعتدنا، وعلى حدّ قول أستاذ الفلسفة فرانسيس وولف Francis Woolf، أن تكون السياسة هي سياسة السياسيّين التي تعنى بكافّة الأساليب والاستراتيجيّات من أجل الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، حيث الشّعار: بالرّغم من كلّ ما يجمعنا، إليكم ما يفرّقنا. امّا البُعد الآخر للسياسة، أو تعريفها الموازي، ودائمًا على حدّ قول وولف، هو عدم ترك الحلبة لسياسيّي السياسة وحدهم. فالشعار هنا: بالرغم من كلّ ما يقسّمنا ويفرّقنا، نحن واحد.
إنّ التأهّب المجتمعيّ أمر بالغ الأهمّية اذًا، إذا اعتبرنا أنّه “لا يجوز إضاعة الوقت والفرص”، كما أشار الرئيس في قسمه. من هنا يصبح مبدأ “التفكير العام” الذي يتعلّق بكيفيّة انخراط المجتمع في المناقشات وموازنة الحجج المختلفة والتوصّل إلى استنتاجات جماعيّة، أمرًا بغاية الأهمّية، حتّى يتحوّل مشروع بناء الدولة مشروعًا عامًا يتخطّى النخب والسياسيّين، ما يعطيه ثباتًا واستدامة بوجه أيّ تغيّر جديد في موازين القوى الإقليميّة والدوليّة. وعندما نفكّر في التحوّل السياسيّ المطلوب في هذا السياق، لا يمكننا إغفال الاستحقاق البلديّ الذي هو أقرب الاستحقاقات الزمنيّة للحكومة، ليس كعمليّة انتخابية وحسب، إنّما كمفهوم وثقافة، باعتبار أنّ البلديات، كما يعتقد مونتسكيو، هي بالنسبة إلى الحريّة كما المدارس الابتدائية بالنسبة إلى العلم، بحيث تضعها في متناول الناس وتعلّمهم كيفيّة استعمالها والتمتّع بها، وقد تؤسّس أمّة ما لنظام حكومة حرّة، لكنّها لن تعرف معنى الحريّة ما لم تكتسب روحيّة المؤسّسات البلديّة.
إنّ روحيّة المؤسّسات البلديّة هذه، هي “الحكومة عبر المناقشة”. ومن أجل تنمية هذه الروحيّة، ينبغي القيام بمبادرات لتلقّف فرصة هذا الاستحقاق المقبل، من خلال إنشاء جمعيّات أهليّة محليّة تعمل على إخراجه من دائرة الانتخابات المُسيَّسة، وتخليصه من المفهوم الضيّق الذي اعتدنا عليه، والسعي إلى تأسيس مسارات محليّة تشاركيّة تمنح العمل البلدي بُعدًا استراتيجيًّا جديدًا. فتغيير انتماءات القوى الاجتماعية في قاعدة الهرم، يبدأ على المستوى المحلّي، عبر إبراز مصالح هذه القوى الاقتصادية والاجتماعية محليًّا.
من جهة أخرى، يجب أن لا ننسى أيضًا دور النقابات الذي يمكنها أن تلعبه في المشاركة في ورشة بناء الدولة، وفي تحريض الناس للانتماء إلى مصالحها الاقتصادية والاجتماعية. كما البلديات، تمكّنت الطبقة السياسية من إخضاع النقابات، متغلغلة فيها، محوّلة إيّاها إلى أداة لتعزيز النظام الزبائني من جهة، وتجريدها من دورها الوطني من جهة أخرى. في هذا الإطار، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ القوى السياسية، من دون استثناء، تعاقبت على رأس النقابات بمختلف ميادينها غير أنّها لم تقدّم أيّ جديد.
إنّها ورشة الجامعات والأكاديميّين عبر تنشيط الفكر النْقدي لدى الطلّاب من جهة، وانخراط الأساتذة من جهة أخرى في البحث والإدارات، وفي تنمية مراكز الأبحاث التي تُعتبر مختبرًا للأفكار والإبداع.
كما أنّ المصالحات الوطنية على الصعيد الشعبي هي من الأمور الملحّة والمطلوبة في هذه المرحلة. فالوضع السياسي القائم، واستثمار القوى السياسية كافّة في زيادة حدّة الاستقطاب، وسّعا الهوّة بين اللبنانيّين. لطالما اعتدنا على مصالحات على مستوى السياسيّين، لكن المطلوب اليوم العمل على مستوى الناس والمجتمع.
إنّ الفرصة التي نحن بصددها، يعترضها تحدّيان: خارجي يتمثّل بالضّغط الدّولي والإقليمي وبتفلّت إسرائيل من أيّ ضوابط، وداخلي تجسّده طبقة سياسية تتغذّى على المحاصصة والزبائنية واستقطاب النّاس. بين مطرقة الخارج وسندان الداخل، يبرز دور لقوى مجتمعيّة جديدة ربّما يكون قد أصابها الإحباط أو لم يكن صوتها مسموعًا، أو مجموعات لم تكن ترى في العمل السياسي سوى عمليّة هندسية بسيطة.
يعرّف الفيلسوف الروماني سينيكا الحظّ بأنّه “ما يحدث عندما يلتقي الاستعداد باللحظة المناسبة”. فإذا كنّا نقف اليوم أمام لحظة مناسبة يجمع عليها معظم الشّعب اللبناني، يبقى أن نهتمّ بجهوزيّتنا من أجل تلقّفها. الورشة هي ورشة كلّ فئات المجتمع. وأن نبادر يعني أن نطلق العنان للعبقريّة اللبنانية وتخطّي النجاحات الفرديّة؛ نحن بحاجة إلى نجاح جماعي، وبهذا قوّة كبيرة للبنان.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 17 شباط 2025
Leave a Comment