في عالم السياسة الدولية، حيث تُصاغ القرارات بعناية، وتُنسج العبارات كخيوط العنكبوت الدبلوماسية، يطل علينا دونالد ترامب بين الفينة والأخرى ليُعيد تعريف الهندسة الجغرافية بحس طفولي مدهش، حتى تكاد تتخيله ممسكاً بقلم تلوين، يعيد رسم الحدود كما يحلو له، في لحظة تجل عبقرية لا تراها إلا في كراسات الرسم الابتدائية.
ولأن الفانتازيا لا تكتمل إلا مع نفحة من الاستعلاء الإمبراطوري، فقد خرج علينا ترامب ذات مساء مشرق وقال بكل ثقة: «إسرائيل بحجم القلم، بينما الشرق الأوسط بحجم المكتب» وهذه الجملة، لمن لم يدرك بعد عمقها الفلسفي، ليست مجرد وصف جيومورفولوجي بائس، بل هي دليل قاطع على أن الرجل يرى العالم كما لو كان غرفة اجتماعات في «ترامب تاور»، حيث يقرر المالك من يجلس وأين، ومن يحصل على أي قطعة من الأرض وكأنها كعكة عيد ميلاد.
في خطاب ترامب، ثمة شعور طفولي بالأحقية الكونية، كما لو أنه ورث الكرة الأرضية مع أبراج نيويورك وكازينوهات لاس فيغاس، ومن باب الكرم، قرر أن يُهدي إسرائيل جزءاً جديداً من الضفة الغربية، وكأنها إرث من جده الذي اشتهر ببناء العقارات.. لكن يبدو أن الحفيد أخذ الأمر إلى مستوى آخر، وقرر أن يبني دولاً ويهدم أخرى بمزاجه الشخصي.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يوزّع ترامب الأراضي بهذا السخاء؟ هل أصابه الملل من توزيع الأوسمة في البيت الأبيض، فقرر أن ينتقل إلى توزيع الجغرافيا؟ أم أنه يظن أن الضفة الغربية قطعة أرض مهجورة بحاجة إلى مشروع تنموي من صنف «ترامب ريزورت»، حيث يمكن إقامة فنادق خمس نجوم ومستعمرات فاخرة بشرفات تطل على أنقاض السلام الدولي؟
إن المتابع الجيد لسياسات ترامب سيلاحظ أن الرجل لا يرى العالم إلا من خلال معيار واحد: الحجم. فهو يعتقد أن أمريكا عظيمة لأنها كبيرة، والصين خطيرة لأنها ضخمة، والشرق الأوسط مجرد مكتب. وبما أن صاحب المكتب يملك الأدراج، فمن الطبيعي أن يقرر أين يضع القلم، حتى لو اضطر إلى محوه ووضعه في مكان آخر.
لماذا يرغب ترامب بضم أراض فلسطينية جديدة إلى إسرائيل؟ لماذا لا يضم شيئاً من فلوريدا إلى المكسيك؟ أو يمنح ولاية ألاسكا إلى كندا، بدل أن يطالب بضم كندا إلى امبراطوريته؟ لماذا لا يهدي جزءاً من تكساس إلى كوبا، فهي أيضاً دولة صغيرة، وأمريكا كبيرة، أليس هذا عدلاً؟ أم أن العدل لا يُقاس إلا بمزاج السيد الرئيس؟
ربما كان الأجدر بترامب أن يعرض على بنيامين نتنياهو فكرة جديدة أكثر إنصافاً: أن يأخذ كل محبّ لإسرائيل شيئاً من أرضه الشخصية ويهديها لها! فما دام ترامب مغرماً بها إلى هذه الدرجة، فلماذا لا يُخصص لها بضع ولايات أمريكية؟ لماذا لا يعلن ولاية نيوجيرسي مستوطنة إسرائيلية؟ أو يمنح شواطئ كاليفورنيا هدية للمستوطنين؟ فبهذه الطريقة، يمكنه أن يحقق الحلم الصهيوني دون الحاجة إلى تفكيك جغرافية الشرق الأوسط كما لو كانت لعبة «ليغو» عملاقة.
لكن الحقيقة أن ترامب، رغم كل تصرفاته الغريبة، لم يكن يومًا رجلًا كريمًا بما يكفي ليمنح أرضاً من ممتلكاته. فطالما أن الأرض الموزعة ليست جزءاً من أمريكا، ولا من منتجعاته الفاخرة، فإن توزيعها على الأصدقاء أمر لا بأس به. إنه منطق الملوك المستعمرين في القرون الماضية: اقتل، صادر، وزّع، ثم ألقى خطبة عن العدل والسلام.
ففي عالم ترامب، لا حدود للجغرافيا، ولا قيمة للتاريخ، ولا معنى للعدالة. كل شيء يمكن تعديله، تغييره، وبيعه وفقاً لمتطلبات المرحلة. وكما يُعدّل ديكور البيت الأبيض ليناسب ذوقه الذهبي الفاخر، يمكنه تعديل الشرق الأوسط ليصبح أكثر راحة لإسرائيل، حتى لو كان الثمن شعوباً اقتُلعت من جذورها، وحقوقاً تاريخية دُفنت تحت ركام المستوطنات.
لكن المشكلة الحقيقية ليست في ترامب وحده، بل في العالم الذي سمح له بأن يتحدث وكأنه إله الجغرافيا الحديثة، يضم، ويفصل، ويقرر مصائر الشعوب بجرّة قلم. والمفارقة العجيبة أن هذا القلم، قد كتب ذات يوم أمراً تنفيذياً بفصل الأطفال المهاجرين عن عائلاتهم على الحدود المكسيكية، ووقّع عقوبات اقتصادية على الدول التي لا ترضخ لمزاجه، واستخدمه أخيراً في إعادة رسم حدود الشرق الأوسط كما لو كان مهندساً فاشلاً يعبث بخريطة عشوائية.
الدبلة التي لم تُخلع والوفاء الذي لم ينكسر
خمسة وعشرون عامًا، ربع قرنٍ من الزمن، والسجن يُحاول أن يطوي الأيام، أن يُحيل الذكرى إلى غبارٍ يتلاشى في زوايا الزنازين. لكنّ شيئًا واحدًا ظل صامدًا مثل صاحبه، لم تنله يد الجلاد، لم تفلح القضبان في انتزاعه، ولم تقدر السنوات على إضعاف بريقه. دبلة زواجه.
كان علي صبيح شاباً في مقتبل العمر حين جروه إلى السجن بعد عامين فقط من زواجه، وكأنهم أرادوا أن يسرقوا منه الحلم قبل أن يكتمل، أن يطفئوا الفرحة قبل أن تزهر، لكنهم لم يعرفوا أن بعض القلوب لا تُؤخذ بالقيود، ولا تُنسى خلف الأسوار. في اللحظة التي شدّوا فيها وثاقه، كانت يده لا تزال تقبض على شيء صغير، بسيط في حجمه، لكن عظيم في معناه… دبلته، رمز وعدٍ لم يقدر السجن على كسره.
في ليالي العتمة، حين كان القيد يضغط على معصميه، كانت يده الأخرى تمسك بتلك الدبلة، كأنها حبل يربطه بالحياة خارج الأسوار، بشيء لا يمكن للزمن أن يمحوه. لم يسمح لأحد أن ينتزعها منه، كما لم يسمح للاحتلال أن ينتزع منه الأمل. كان يعلم أنها هناك، خلف الزمن والمسافة، تنتظره، كما ينتظرها. كانت تعلم أنه هناك، يحتضن صبره كما يحتضن تلك الدبلة في يده. وحين جاء يوم الحرية، حين انفتح الباب أخيراً، لم يكن يخرج وحده… كان يخرج بصموده، بحبّه، بتلك السنوات التي بقي فيها وفيًا لوعده. سار نحوها بخطوات ثقيلة، كأن الزمن لم يتركه دون ندوب، لكنه حين اقترب منها، حين رآها بعد ربع قرن، تلاشى كل شيء، ولم يبقَ إلا يقين واحد: لم أنسَ… ولم أتخلّ عنكِ يومًا.
هكذا وبكثير من المحبة أعاد الدبلة إلى إصبع زوجته… لم يحتج للكلمات، فالدبلة وحدها قالت كل شيء. قالت له إن الصبر لم يكن عبثاً، وإن الوفاء ليس خرافة، وإنها انتظرته بقدر ما انتظرها، وإن خمساً وعشرين سنة ولا حتى مئة تستطيع أن تقتل الحب.
* نشرت على موقع القدس العربي بتاريخ 6 شباط 2025
Leave a Comment