بعيد دخول اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان حيز التنفيذ، نام اللبنانيون عموماً وحزب الله خصوصاً على محاولة إعادة إحياء ما جرى “غداة حرب تموز” في العام 2006. قبل مرور 24 ساعة استفاق اللبنانيون على مشهد يذكّر بأحداث آذار العام 2011 في سوريا وتداعياتها. المقصود في الإشارة إلى الصورتين هو الجانب التشبيهي للأحداث، مع اختلاف وتغيّر الظروف بشكل كامل. خصوصاً أنه بعد صدور القرار 1701 والذي يقضي بضرورة مراقبة وضبط الحدود بين لبنان وسوريا لم يطبق، بل استمر خطّ الإمداد. ومع اندلاع الثورة السورية اجتاح حزب الله الحدود بإرسال مقاتليه إلى هناك لإخماد الثورة. سعى حزب الله بعد وقف النار إلى تكرار تجربة العام 2006، لكن الضغوط الإسرائيلية، استمرار الخروقات، والضغوط الأميركية على الحزب ولبنان وإيران وسوريا، كلها تصب في خانة عدم تحقيق ذلك. وهو ما يجعل أجهزة الدولة متشددة جداً في ضبط المعابر البرية والبحرية والجوية، كما أن حزب الله يلتقط الإشارات والرسائل الضاغطة ويتعاطى معها بجدية.
الضغوط على دمشق
في خطاب إعلان وقف النار، وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحذيراً إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد، وقبله كانت قد وصلت رسائل كثيرة إلى سوريا، فحواها قطع طرق الإمداد على حزب الله. وما بعده يتضح أن إسرائيل التي تواصل خروقاتها في لبنان، تصرّ على عدم سريان بنود وقف النار في دمشق، بمعنى أن أي شحنة أسلحة للحزب يتمكن الإسرائيليون من رصدها سيتم استهدافها. وعلى الرغم من تراجع كبير في الغارات الجوية التي ينفذها الإسرائيليون في سوريا، فإن مؤشرات تفيد بإمكانية استئنافها مجدداً في المرحلة المقبلة ضد مواقع ومخازن أسلحة للحزب. ما يتسرب من أجواء ديبلوماسية ودولية يشير إلى أن الضغوط على دمشق تتركز على ضرورة قطع طرق الإمداد في إطار مساع لإعادة تعويم النظام، وأن ذلك سيكون مرتبطاً بتقويض النفوذ الإيراني. إيران في المقابل لن تتنازل بسهولة، لا بل تتحدث الأجواء المحيطة بالإيرانيين عن إرسال مقاتلين، لإبقاء التوازن وللحفاظ على المصالح الإيرانية.
التزامات دمشق
طوال فترة جبهة الإسناد في لبنان، تعرّض حزب الله لتحذيرات كثيرة ولإغراءات أكثر، لا سيما في الأسابيع الأولى لتدخله العسكري حول وقف هذه العمليات مقابل الحفاظ على دوره ووضعيته العسكرية وتحقيق مكاسب سياسية. لكن الحزب رفض كل هذه الضغوط والإغراءات، فتطورت الحرب واتسعت في إطار ممنهج أوصل إلى النتائج الحالية. أمور مشابهة تكررت مع النظام السوري، منذ الانفتاح العربي على دمشق، والذي جرى ربطه بسياق “خطوة مقابل خطوة”. وكانت الخطوة الأولى المقترحة البدء بملف إعادة اللاجئين من الأردن، ليعود وزير خارجية الأردن ويكشف أن دمشق لم تلتزم بالاتفاق ولم تتعاون. كذلك حصل في المفاوضات التي عقدت على أكثر من دولة بين مسؤولين سوريين وآخرين أميركيين في سلطنة عمان، في حينها تم وضع أولويات من قبل كل طرف لآلية التفاوض، أراد الأميركيون البدء بالتفاوض حول الكشف عن مصير الصحافي الأميركي آوستن تايس، ووضعوا برنامج عمل سياسي لدمشق، يتصل بتغيير السلوك العسكري والأمني، والعمل على إعادة اللاجئين، والدخول في مسار إصلاح سياسي ينتج توازناً ووقف عمليات التجنيد الإجباري، وإطلاق سراح المعتقلين. لكن النظام رفض التجاوب مع كل هذه الشروط.
منذ توطيد ما يعتبره النظام “انتصاراً عسكرياً”، لم يتمكن من تقريشه سياسياً لا داخل سوريا ولا خارجها. بقي النظام أسير حساباته الأمنية والعسكرية، وأسير حسابات روسيا وإيران. فبدا وكأنه يقف على قدمين، روسية وإيرانية. وفي حال أي اختلال يمكن للنظام أن يقع. وهذا ما قد تؤشر إليه حالة إضعاف إيران في سوريا بالمعاني المختلفة، سياسياً وعسكرياً. لا سيما أن القوى المعارضة التي تحركت بفعالية عسكرية، لها دوافع كثيرة أولها الانتقام لكل ما جرى بحقها ولكل الممارسات التي اقترفها النظام. كذلك فإن رفض النظام لأي مسعى جدي للتقارب مع تركيا، ولتقديم أي تنازلات أمام المبادرات العربية والدولية، كل هذا التعنّت انفجر بوجهه.
عناصر حاسمة
حالياً، تُفرض شروط كثيرة على النظام بعضها قديم وبعضها مستجد، وسيكون بين خيارين إما الموافقة وتقديم التنازلات، وإما استمرار الضغط السياسي والدولي ورفع الغطاء عنه، الذي ستستفيد منه قوى المعارضة في تكثيف وتوسيع هجومها باتجاه محافظات أخرى. في هذا السياق، تبرز عناصر عديدة يمكن لها أن تكون حاسمة في سوريا:
أولها الضربات الأميركية على الحدود السورية العراقية، والتي يمكن أن تتفعل أكثر لقطع طريق الإمداد الإيراني، بالإضافة إلى الضغط السياسي الكبير.
ثانيها، دور تركيا التي ستضغط أكثر على النظام لدفعه إلى المصالحة وتقديم تنازلات، ومحاولة تعزيز الدور أكثر مقابل تراجع نفوذ إيران وتقويض مناطق نفوذ الأكراد.
ثالثها، آلية التحرك الإيرانية، وإذا ما كانت هجومية فعلية مشابهة لما حصل بعد العام 2011، أم أن طهران ستنكفئ وتقدم تنازلات.
رابعها، الموقف الروسي والذي كان واضحاً أن موسكو غضت النظر عن دخول حلب لكنها تدخلت بحسم في حماه، علماً أن روسيا تريد تحضير أرضية تفاوضية مع ترامب حول أوكرانيا وسوريا معاً.
خامسها، المواقف العربية، المختلفة عن مواقف العام 2011. إذ أن هناك اتجاهاً عاماً يميل نحو دعم دمشق في مقابل المحاولة لفرض شروط سياسية ولتقويض النفوذ الإيراني.
سلام مع إسرائيل؟
في هذا الإطار، تدور تسريبات حول مفاوضات غير مباشرة مع سوريا لاتخاذ موقف واضح من النفوذ الإيراني، والعمل على تقويضه وقطع طرق الإمداد عن حزب الله، في مقابل الحصول على المساعدات المطلوبة اقتصادياً ومالياً، وفي إطار إعادة تعويم النظام سياسياً. ما تريده إسرائيل في سوريا هو محاولة لخلق تفاهم مشابه للتفاهمات التي تم العمل عليها في لبنان، أي أن تكون مفاعيل التفاهم مشابهة للقرار 1701 في لبنان، حول منع تنفيذ أي عمليات ضد إسرائيل انطلاقاً من الجنوب السوري، وضبط الحدود ومنع تهريب الأسلحة لحزب الله. في هذا السياق، تشير بعض المعلومات إلى أن ترامب وفريقه يحملون فكرة أساسية حول دفع سوريا إلى السلام مع إسرائيل، وبحال لم يتم الوصول إلى مثل هذا الاتفاق، فالحد الأدنى الالتزام بموجباته من دون الحاجة إلى نسج علاقات، على أن ينعكس ذلك على لبنان، خصوصاً أن القناعة الإسرائيلية، الأميركية والعربية أنه لا يمكن تطويق وتقويض حزب الله في لبنان عسكرياً إلا من خلال قطع إمداده التسلحي من سوريا. وهذا يحتاج إلى قرار سوري واضح.
فكرة السلام المطروحة في هذه المرحلة ليست وفق معادلة الأرض مقابل السلام، بل المال والاستثمار ورفع العقوبات مقابل “السلام”.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 3 كانون الاول 2024
Leave a Comment