هذه المرة “الجوع” ليس رواية عالمية حاضرة على منصة التتويج في جوائز “نوبل” للآداب. ولن يسمع بعد ذكر هذا العنوان التصفيق لكاتبها كنوت هامسون، وإبداعه في وصف آلام الجسد والروح، وتجسيد مستويات الجوع وتفرعاتها داخل عروق وأحاسيس نفس ممزقة بين عفة النفس، وبين توقها إلى بعض زاد يحمل جسده من على سريره إلى سفينة تقله إلى عالم آخر، لا يسمع فيه وجع أمعائه الخاوية فتعود الطمأنينة لتحتضنه كطفل أنهكه طول بكاء.
في غزة، الجوع لا يصرخ داخل بطون خاوية فقط، هو يأكل من أجساد ضحاياه، كوحش كاسر يتلذذ بكتابة واحد من “سيناريوهات” الموت الجماعي، يفتح الجوع صدره منتصرًا على كل ادعاءات الإنسانية، وقوانينها، وبيانات التنديد، وتقارير الواقع، هو باختصار صاحب الكلمة العليا، فعندما يصبح القتل بالحصار والرصاص والقنابل والصواريخ حقًا مشروعًا للمحتلين، وحين تدمر المدن والقرى والمدارس والمشافي، وتصبح الخيمة حلمًا، واللقمة مشروعًا أمميًا، ونقطة الماء سدرة المنتهى، تكون المجاعة حاضرة لتعلن انتصارها كأسوأ صور الموت في زمن النقل الحي والمباشر.
ليس ببعيد عن هذا التوقيت كانت مناطق في سورية تعاني من حصار النظام السوري لها، وأهلها يستنجدون من وحش البطون الخاوية الذي يستبيح أرواح أبنائهم، كانت الصرخات تعلو، والسباق في حصد الضحايا مستعر، بين الموت بالسلاح، أو الموت بالجوع، وعلى الرغم من عمق المأساة وارتفاع أرقام المستهدفين في هذه الحرب من كل الجبهات، ونسب الفقر غير المسبوقة في المجتمع السوري، إلا أن السوريين كانت لهم نوافذ مفتوحة على جوارهم من جهات عدة، سواء تلك التي يسرت عبورهم، أو التي دفعتهم لركوب “بلم” الموت في البحار. في المحصلة، كان ثمة أمل للناس للخروج من فم المجاعة، والفوز بالحياة رغم صعوباتها، ومشاقها، تحت سماء مفتوحة، أو بين أعمدة واهية لخيم من أقمشة بالية. بعضهم صاروا طعامًا لحيتان البحار، وآخرون وصلوا لبلاد تغريبتهم آمنين، ربما لحكمة ينقذون من خلالها أبناء جلدتهم من جوع لا يزال يترصد مصيرهم في بلدهم سورية.
في غزة، لا أبواب مفتوحة، ولا نوافذ مواربة على جوارهم، لا مكان يهربون إليه من تحت القصف (إلا) إلى تحت قصف آخر، من مجزرة تتناقلها وسائل الإعلام، إلى أخرى تأتي على جناحي خبر عاجل، وفي حدود مغلقة من كل الجهات، والسكان بين موت وموت لا ثالث يختارونه، بل يدعون الله من أجل أن يرزقهم أسهل الموتين، فيما يصبح الجوع أقساهما، وأصعبهما أمام آباء يتضرعون ليستعجلوا دفن فلذاتهم، إلى جانب دفن ضمائر مجتمع دولي لم يدرك حتى اللحظة أن صمته هو شراكة بالقتل، سواء بالسلاح، أو الجوع، أو التجاهل.
تقدم المنظمات الأممية تقاريرها عن المجاعة في غزة، تشعل الضوء الأحمر، أحيانًا، بأنها مستويات غير مسبوقة من ظروف تحاكي المجاعة، لسكان قطاع غزة، وتضعها بين مزدوجتين للتنبيه، وتستدرك أسبابها بأنها “استمرار الحرب بين إسرائيل وحركة حماس”، كأن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) هي الأخرى تردد مقولة إسرائيل بأنها حرب موجهة ضد “حماس”، في حين يشهد العالم جميعه، وعبر شاشات تلفزتهم، وبعيون المراسلين التابعين لها، على الرغم من التجميل والتحوير والتزوير، أحيانًا، بأنها حرب على الفلسطينيين، جميعهم، وأن ضحاياها هم من المدنيين رجالًا ونساء وأطفالًا.
إن اعتراف المنظمة الأممية بأن الأرقام الحالية التي تفيد بأن أكثر من ربع سكان غزة (550 ألفًا) “يعانون من مستويات كارثية من ظروف تحاكي المجاعة”، أي انعدام الأمن الغذائي، فيما تؤثر الأزمة على جميع سكان القطاع، “2.2 مليون نسمة مصنّفون بين أعلى ثلاث فئات للجوع، من المستوى الثالث الذي يعدّ حالة طوارئ”، أي أنهم يسيرون إلى الهاوية ذاتها منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، منذ ما يزيد على أربعة أشهر، يؤكد أن الحرب تستهدف إبادة شعب فلسطين، بقتله، أو إزاحته من المشهد، أو من الحضور في الزمان والمكان والمعنى، بكل الوسائل المتاحة، السلاح، أو التجويع والتهجير، أو التشريد.
لم يسبق لغزة رغم حصارها الذي دام لسبعة عشر عامًا مضت، أن عانت ظروفًا تحاكي المجاعة، واستطاعت الجهود المحلية والمساندة المحدودة من دول عربية وصديقة أن تأخذ بيد أهالي غزة نحو الاكتفاء الذاتي في القطاعات المعيشية الضرورية، وهو ما أكدت عليه نائبة المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة بيث بيكدول “أنه قبل الحرب، كان لدى سكان غزة قطاع إنتاج فواكه وخضار ذاتي الاكتفاء ومليء بالبيوت البلاستيكية، كما كان لديهم قطاع قوي لتربية الماشية”، أي أن الأمم المتحدة تدرك أن إسرائيل تعمل على محو ملامح الحياة في غزة بتدمير كل مقومات البنية اللازمة لاستمرار العيش في القطاع كاملًا. تروي وسائل الإعلام جميعها قصصًا مأساوية على ألسنة أصحابها، أب يبكي طفله الذي مات جوعًا، وأم تعيش على أمل كسرة خبز تنفذ إلى أمعاء طفلتها الخاوية، هؤلاء ليسوا هامسون ليكتبوا سيرتهم الذاتية، والشاشات التي تنقل صرخات جوعهم لا تمنحهم جوائز عالمية، لكنها تأخذنا إلى عمق المأساة، ليست مأساة جوعهم وحسب، ولكنها كارثة جوع البشرية إلى إنسانيتها، تلك التي تصيح بنا “انتبهوا إنها النهاية”.
*نشرت بتاريخ 16 شباط / فبراير 2024 العربي الجديد/ضفة ثالثة
Leave a Comment