محمد السيد إسماعيل *
هل ما زلنا في حاجة إلى استعادة مشروع طه حسين التنويري في اللحظة الراهنة؟ هذا هو السؤال المحوري الذي ينطلق منه عمار علي حسن في كتابه المهم “بصيرة حاضرة – طه حسين من ست زوايا” (مركز اللغة العربية – الإمارات). والإجابة الحاسمة التي يقدمها حسن هي أن حالة النكوص والتراجع التي نشهدها على مستويات عدة قد جعلتنا أكثر احتياجاً إلى مشروع طه حسين، وما عاش يبشر به طيلة حياته. والحقيقة أنني قد وجدتُ صعوبة في مقاربة هذا الكتاب؛ لأن كاتبه لم يترك شيئاً – تقريباً- متعلقاً بطه حسين إلا ذكره وعاود النظر فيه، مستهدياً بطريقة العميد نفسه في قراءاته للمتنبي وأبي العلاء المعري وابن خلدون وشوقي وحافظ وغيرهم.
طه حسين إذن ما زال – من وجهة نظر الكاتب – ” بصيرة حاضرة” لا تنتمي إلى تاريخ المعرفة بل تمتاز بانفتاحها على الحاضر واستشرافها للمستقبل. فالحقيقة الناصعة هي أن أثر طه حسين لم ينته ولا يبدو أنه سينتهي حيث “ضرب سهمه في كل اتجاه، وأنتج من الأفكار والآراء والأساليب والطرائق والأذواق بل والتصورات والإجراءات حول التحديات التي واجهت المجتمع في زمنه. وكذلك عن القضايا والمشاغل التي أخذت بعقول الناس ونفوسهم، ما يصلح أن نعود إليه من دون انقطاع؛ نظراً لاستمرار المشكلات قائمة، وبقاء التساؤلات عالقة”، بحسب عمار علي حسن. والحقيقة أن المشكلات ازدادت تعقيداً وأصبحت الأمور أكثر تراجعاً، وهو ما يؤكد ضرورة استعادة طه حسين وغيره من رواد النهضة.
التقديس والتدنيس
التقديس وينأى حسن بهذا عن هذه الثنائية التى باعدت بين طه حسين والنظر الموضوعي إليه، وأعني بها ثنائية “التقديس”، و”التدنيس”. فهناك مَن يرى أن طه حسين فوق النقد وأنه – دائماً- على صواب مطلق ولا يمكن مراجعته. وهناك من كال له الاتهامات المجانية؛ بدءاً من معاداة الدين ، وليس انتهاءً بالعمالة للغرب وللصهيونية. ولنتذكر ما قاله مصطفى صادق الرافعي في كتابه “على السفود”؛ رداً على كتاب “في الشعر الجاهلي”، ناهيك عن عشرات الكتب الأخرى. ونأى حسن كذلك عن “الكتابات العابرة والمكرَّرة عن عميد الأدب العربي والتي دار أغلبها حوله ولم تنفذ إلى جوهر ذاته وفكره وفنه”. وكثيرة هي المناهج النقدية التي يمكن من خلالها معالجة النصوص الأدبية أو الفكرية، سواء كانت خارجية مثل المنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي والثقافي، أو داخلية مثل البنيوية والأسلوبية وما يتفرع عنهما.
غير أن كاتبنا رأى أن طه حسين أكثر شمولاً وتنوعاً من أن يحتويه منهج واحد، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي حاول مقاربة العميد من ست زوايا، كانت كافية للنفاذ إلى عمق أفكاره. وحسن بهذا ينأى أيضاً عما عرف بالمنهج التكاملي الذي يستعير إجراءاته من أكثر من منهج حتى غلب عليه “التلفيق”، لا “التوفيق”. يقدم عمار علي حسن منهجاً متكاملاً يقترح فيه ست زوايا هي: المنهج والنص والذات والصورة والموقف والأفق. وبتأمل هذه الزوايا سنلاحظ أنها تبدأ بالتعرف إلى طريقة طه حسين في قراءة شعر غيره أو فكره (المنهج )، مروراً بسماته الأسلوبية (النص)، وصفاته الشخصية المركبة (الذات)، ورؤية الآخرين له (الصورة)، وما كان يجمعه من طرائق التفكير والتعبير (الموقف)، وانتهاءً بالحديث عما تحقق من مشروع طه حسين وما لا يزال ينتظر، ومصيره هو نصاً ومنهجاً وموقفاً (الأفق).
من المنهج إلى النص
يمتاز منهج طه حسين بالصرامة العلمية، فهو لا يستريح إلى التسليم بما يراه الناس يقيناً غير قابل للمراجعة بل يقوم “بتقليب كل ظاهرة أو حدث على شتى وجوهه وبناء استراتيجيات ناجعة في الحجاج، ورفع الالتباس عن قضايا شائكة وعرض مختلف الآراء حوله، “ولا شك أن هذا قد جرَّ عليه الكثير من المعارك والاتهامات التي أشرنا إليها، إنه – بإيجاز- يعلي من قيمة “الشك” الذي استعاره من كتاب “مقال في المنهج” لديكارت، وصولاً إلى اليقين أو ما يميل إلى كونه يقيناً، وهو درس كبير من العميد لأننا لو اتبعناه لنجونا من صراع اليقينيات وتبادل الاتهامات بالتكفير التي تسود العالم العربي. يضاف إلى ذلك – وهو ما يعد امتداداً له – اعتماده على “الحوار”، والتفاعل والمشاركة، لهذا نراه يأخذ ما وجه إليه من جوانب القصور مأخذ الجد ولا يتردد في التراجع عما كان يراه صواباً، ففي حوار معه انتقد كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، ووعد بإعادة النظر فيه.
إنها شجاعة المثقف المسؤول الذي يعرف دور الكلمة في تنوير المجتمع. ولأنه يعتمد على الإملاء فقد امتاز أسلوبه بمجموعة من الخصائص منها أنه نص شفاهي معتمد على آليات التخيل والاسترجاع والتكرار وحضور الموسيقى بعد أن خلص اللغة من السجع والكلمات ذات الجرس الصاخب، وقد امتلك شجاعة أن يقول: “لغتنا العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما لم يكن مستعملاً من الألفاظ والتراكيب”.
الذات المتكاملة
لم يكن طه حسين أحادي الجانب، فقد بدأ شاعراً كما كتب الرواية والبحث التاريخي والنقد الأدبي وعلم الاجتماع ومارس الترجمة والصحافة والسياسة، وهو صاحب وجوه متعددة فهو الأزهري والمدني والريفي والمديني، وابن الحضارة الشرقية المتحاورة بندية مع الحضارة الغربية. لهذا فقد جمع بين التبصير بالحضارة الغربية وتأسيس تعليم حديث والإصلاح الديني والاجتماعي كما يظهر في كتابه “المعذبون في الأرض” وغيره. وهو – في كل ذلك لا يقول ما يروق للناس بل يقدم لهم الحقيقة عارية من دون لبس ويرجع ذلك إلى اعتداده بنفسه ورباطة جأشه وتمرده على ما استقر عليه الناس من حقائق زائفة. وفي الأوقات التي كان يرتفع فيها سقف الحرية استطاع أن يكون “رجل دولة” ومسؤولاً عن وزارة “المعارف” محققاً حلمه في مجانية التعليم قبل الجامعي لإيمانه أن “التعليم كالماء والهواء”. وكان يحلم أن يمتد بهذه المجانية إلى التعليم الجامعي لكنه لم يستطع لوجود من حالوا دون ذلك. وبسبب آفة العمى فقد وصف نفسه بأنه “مستطيع بغيره مردداً أشهر عبارة غزل حين قال لسوزان: “عندما تغيبين أشعر أني أعمى”. والحق أن سوزان كان لها دور كبير في حياته فقد نظمت وقته بين القراءة والكتابة والراحة كما ظهر في كتاب “الأيام” .
الحقيقة أن طه حسين استطاع بفضل إرادته الصلبة وثقافته الموسوعية ومواقفه الشجاعة أن يخلق أسطورته الخاصة التي أبهرت الناس، من ذلك الفتى الأزهري الأعمى الذي كان إخوته يتندرون على طريقة تناوله للطعام إلى الشاب الذي وصل إلى السوربون والذي أصبح – بعد سنوات ليست طويلة – عميد الأدب العربي ووزيراً للمعارف، وقد ترجم هذا الإبهار، في ما قدم حول حياته من أعمال درامية وما مثل من رواياته الذائعة مثل “دعاء الكروان” و”الحب الضائع”، ويرجع هذا إلى نجابته تلميذاً وبراعته أستاذاً وموهبته الواسعة الخصبة، وإلى ما قام به من تجديد في مناهج الدراسة متمرداً على طريقة الأزهر من دون أن يغض الطرف عن إيجابياتها خاصة عند أستاذه سيد المرصفي.
كثيرة هي القيم التي ينبغي أن تبقى من طه حسين والتي ينبغي أن نحرص عليها إذا كنا نريد مستقبلاً ناهضاً مستنيراً قائماً على العلم الحديث، ومن هذه القيم حرصه البالغ على العدالة الاجتماعية حيث عرف “حياة بسطاء الناس، وتعاطف معهم، فصار وجودهم حاضراً في نصه الأدبي وماثلاً في رؤيته الفكرية”، على نحو ما يظهر في مقاله “من وحي الريف” وغيره. ومن بين القضايا التي طرحها أيضاً اهتمامه بإصلاح التعليم، وتوطيد العلاقة بين الشرق والغرب على أساس الشراكة في صنع الحضارة الإنسانية، ومناصرة الجديد في الأدب، وليس أدل على ذلك من موقفه الإيجابي من حركة شعر التفعيلة، وكذلك مناصرته لحقوق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة السياسية.
إن كل ما سبق يؤكد حاجتنا إلى طه حسين ويؤكد أهمية استعادته كضرورة حضارية ليس على سبيل التقديس بل على سبيل المقاربة الموضوعية، وهذا ما فعله عمار علي حسن، في هذا الكتاب.
*نشرت في الاندبندنت العربية يوم الجمعة 28 تموز / يوليو 2023
Leave a Comment