حتى شهر، لم يكن معروفاً خارج إيران، ولم يكن كثيرون قد سمعوا باسمه في إيران نفسها. تقدّم مع نحو 80 مرشحاً لملء المقعد الرئاسي الذي شغر بتحطّم طائرة سلفه، إبراهيم رئيسي، ووحده من خارج المعسكر المحافظ “نجا” من “مقصلة” مجلس صيانة الدستور (كان المجلس نفسُه قد رفض ترشّحه في انتخابات 2021)، ليكون السادس بين خمسة مرشّحين محسوبين على المحافظين على اختلافاتهم. لم يكن بزشكيان يوماً من الوجوه البارزة في المعسكر الإصلاحي، رغم أنه خدم وزيراً للصحة في إدارة خاتمي الثانية (2001 – 2005). ومن المحتمل أن قرار تمريره كان يهدف، في المقام الأول، إلى إعطاء انطباع بوجود درجةٍ ما من التنافس والاختلاف بين المرشّحين، فلو اقتصرت المنافسة على أعضاء النادي الواحد (المحافظين)، لربما حصلت مقاطعة واسعة، وانكشفت عورة النظام، على نحو ما حصل في الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الخبراء التي جرت في مارس/ آذار الماضي، عندما بلغت نسبة المشاركة في طهران 24%، بينها 5% أصوات باطلة، بعد أن قرّر الإصلاحيون المقاطعة بسبب استبعاد أكثر مرشّحيهم.
مع ذلك، يضعنا التمحيص في أحداث أسابيع إيران الستة الماضية أمام احتمالين لتفسير صعود بزشكيان: الأول، أن وجود مرشّح مغمور، يفيد في تجميل صورة الانتخابات، من دون أن يؤثر بنتيجتها في وجود خمسة محافظين، بينهم أسماء معروفة، مثل سعيد جليلي ومحمد باقر قاليباف، وأن النظام الذي “فوجئ” بحصول بزشكيان على أعلى الأصوات في الجولة الأولى لم يكن مستعدّاً للتدخل، وتغيير النتيجة، خشية تكرار ما حصل عام 2009، عندما فرَض أحمدي نجاد، واندلعت أحداث الثورة الخضراء. وهكذا صار على النظام أن يتعامل مع النتائج واحتواء الضرر الذي وقع بخروج الوضع عن السيناريو المرسوم له. الاحتمال الثاني، يرجّح نظرية المؤامرة، التي بدأت تروج منذ مصرع رئيسي في 20 مايو/ أيار الماضي، وهي أن النظام كان يقصد، بالفعل، تغييراً في موقع الرئاسة، لترميم الصدوع في وضعه الداخلي وتعزيز موقفه خارجياً، وأن بازشكيان صاحب الخطاب المعتدل والنظرة الواقعية يمكن أن يفيد في ذلك، خصوصاً بعد الفشل الذريع الذي سجلته إدارة سلفه، سواء في إدارة الوضع الداخلي، الاقتصادي والمعيشي خاصة، وكذلك التسبب في أطول موجة احتجاجات منذ ثورة 1979، بعد مقتل الناشطة الكردية مهسا أميني في سبتمبر/ أيلول 2022، أو في تحسين صورة النظام خارجياً (لم يساعد في ذلك أن الرئيس عضو سابق في “لجنة الموت”). إذا كان هذا ما قصده النظام، فقد يكون نجح مرحلياً، إذ تفاعل الإيرانيون مع خطاب بزشكيان عن توسيع هامش الحرّيات وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وإخراج إيران من عزلتها الدولية والانفتاح على العالم، والدليل ارتفاع نسبة المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات التي قاربت 50%.
هل يستطيع بزشكيان الوفاء بوعوده، وإحداث تغيير حقيقي في أوضاع إيران الداخلية وسياساتها الخارجية؟ الإجابة الأرجح: لا، فسياساته الداخلية ووعوده المرتبطة بتحسين الحرّيات العامة ستصطدم بمراكز السلطة الأخرى، وجميعها بيد المحافظين من البرلمان إلى السلطة القضائية ومجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الخبراء وغيرها. ورغم أن كثيرين في إيران يعتقدون أن سوء الإدارة يُعَدّ العامل الأبرز في تدهور أوضاع البلاد الاقتصادية، إلا أن العقوبات الأميركية تلعب دوراً بارزاً أيضاً، بحسب وزير الخارجية السابق، جواد ظريف، الذي ساند حملة بزشكيان، وأعطى أرقاماً لافتة عن تحسّن نسب النمو وانخفاض مستويات التضخّم بعد التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، ورفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والدولية، مع بدء تنفيذه مطلع عام 2016. بهذا المعنى، لن يكون بزشكيان قادراً على تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية بمعزلٍ عن التوصّل إلى اتفاق بشأن برنامج إيران النووي، والانفتاح على الغرب، وهذا شأنٌ قراره عند المرشد. سياسات إيران الأمنية في المنطقة العربية لا يقرّرها الرئيس كذلك، بحسب جواد ظريف أيضاً، بل المرشد والحرس الثوري. ماذا بقي إذاً؟ الأرجح أنه، رغم الخلاف الواضح في الرؤى والمواقف بين الرئيسين، السابق والمنتخب، إلا أننا لن نلمس التغيير الذي ينشده كثيرون داخل إيران وفي المنطقة.
* نشرت على موقع العربي الجديد بتاريخ 10 تموز/ يونيو 2024
Leave a Comment