زكـي طـه
لم يتردد محسن ابراهيم في اعقاب انفجار الحرب الأهلية عام 1975، من الوقوف على منبر الاونيسكو في احتفال نظمته حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” بيوم الارض، ومخاطبة قائدها ياسر عرفات، باسم الحركة الوطنية اللبنانية بالقول: “أرضنا أرضكم، لن يبتزكم أحدٌ بعد اليوم”. وهو الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان التي توج تقريرها السياسي عام 1974 شعار: “فليتحول لبنان إلى الحلقة الأقوى في الصراع العربي ـ الاسرائيلي”.
لكن محسن ابراهيم، وفي ضوء النتائج المدمرة التي أصابت لبنان نتيجة هذا الخيار، لم يتردد ايضاً في الوقوف على نفس المنبر في مناسبة ذكرى أربعين الشهيد جورج حاوي في العام 2005، وأن يدلي بنقد صريح لما كان من أخطاء الحركة الوطنية، وبعضه كان قاتلاً؟ وأن يعلن: “أن الخطأ الأول أتى في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني، لأننا ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً”.
صحيح أن النقد أتى متأخراً وبعد مرور أكثر من عقدين على خروج وتشتيت قيادات وقوات فصائل منظمة التحرير من لبنان، في اعقاب اجتياح صيف العام 1982، واحتلال ما يقارب نصف مساحته بما فيها عاصمته بيروت. لكن الصحيح ايضاً أن نضال الشعب الفلسطيني وقواه الحية، أعادا منظمة التحرير قيادة وقوى، إلى موقعهم الطبيعي على ارض وطنهم. هذا النضال الذي لا يزال قائماً ومستمراً، وهو الذي يشكل اليوم منفرداً، التحدي الوجودي للدولة الصهيونية وطبيعتها العنصرية، من موقع مواجهة الاحتلال والعدوان وسياسات العزل والاستيطان ومشاريع التصفية لقضيته، بقوة وحدته وصموده وتضحياته. وهو الذي يعرف كيف يقاوم ويفاوض ولا يستسلم، رغم الحصار والتطبيع، عدا أنه يشكل بمقاومته ونضاله حاجز الدفاع الاول عن الدواخل العربية والبلدان المحيطة بفلسطين.
بؤس خيار المقاومة من الخارج
ومناسبة العودة إلى ما كان، وقد كان مؤيداً من قيادات وقوى واحزاب سياسية متنوعة وذات وزن، ومحتضناً من شرائح وفئات اجتماعية واسعة لبنانياً، هو بؤس محاولات النفخ في حادثة اطلاق عدد محدود من الصواريخ من جنوب لبنان بإتجاه الاراضي الفلسطينية المحتلة، وتقديمه على أنه حدث تاريخي، الأمر الذي يقع بين المهزلة والمأساة. لأن خيار المقاومة من الخارج لتحرير فلسطين، جرى اختباره طويلاً، وتأكد بالملوس عدم جدواه، عدا نتائجه التدميرية على القضية الفلسطينية ودول الجوار ومنها لبنان. وما يطعن بتلك المحاولة اصلاً أن العملية لم تكن تاريخية، بقدر ما هي حادثة تفصيلية مدروسة ومنسقة بين الجهة التي نفذت العملية، والطرف الذي وفر التغطية لها. ولا يمكن النظر لها إلا في إطار وظائفها، التي باتت معروفة ومعلنة من قبل أطراف محور الممانعة، كل من موقعه ووفق حساباته ومصالحه واستدافاته.
صحيح أن العملية نفذت في لحظة تصاعد العدوان الاسرائيلي على المصلين في المسجد الاقصى، وتوالي محاولات اقتحامه من قوات الاحتلال وعصابات اليمين العنصري. في موازاة تجدد العدوان على قطاع غزة المحاصر بذريعة اطلاق الصواريخ على المستوطنات الاسرائيلية. وهذا يقع في صميم توجهات حكومة اليمين المتطرف. لكن الصحيح أيضاً أن اطلاق الصواريخ حدث ايضاً في لحظة تصاعد مأزق تلك الحكومة، في ظل انقسام المجتمع الاسرائيلي الرافض لتوجهاتها الشوفينية والعنصرية على صعيد تنظيم الدولة وتقييد القضاء وحماية الفساد، واضطرارها لمواجهة مئات الوف المتظاهرين الذين احتلوا شوارع وساحات المدن الاسرائيلية، بما فيهم شرائح واسعة من ضباط وجنود الاحتياط الذين اعلنوا رفض استجابتهم لاي استدعاء لهم، ما دفع برئيسها إلى إقالة وزير الدفاع من منصبه.
وهي اللحظة الأصعب في تاريخ دولة العدو، جراء انقسام مجتمعها وقواها، وأزمة علاقة حكومتها ورئيسها مع الولايات المتحدة. وما زاد في الصعوبة، تصاعد حملة الادانة العالمية لممارسات الحكومة والمستوطنين ضد الفلسطينيين، والمطالبة بوقفها. هذا عدا الارتباك الذي وقعت فيه حكومات الدول العربية التي تقيم علاقات مع اسرائيل، سواء تحت راية التطبيع أو في اطار السلام معها.
ولذلك فإن السياسات الخاطئة التي بررت عملية قصف الصواريخ من الجنوب اللبناني، قد وفرت مخرجاً ثميناً لم تكن تحلم به حكومة العدو ورئيسها، سواء بشأن مواجهة ضغوط المعارضين لتوجهاته ومطالبته لهم بالوحدة دفاعاً عن اسرائيل، أو في التصدي للضغوط الخارجية. وهو الذي انبرى في اعقاب الرد الميداني المحدود ايضاً، لاطلاق التهديدات بتدمير لبنان وتحميل حكومته وجيشه وحزب الله المسؤولية عن خطر انفجار حرب واسعة. ما عطل امكانية صدور قرار إدانة من مجلس الامن للسياسات والممارسات الاسرائيلية والمطالبة بوقفها، ليس بقوة الفيتو الاميركي فقط، إنما بذريعة عدم توازن القرار. أما العدو فقد تعامل مع العملية وفق وظائفها المكشوفة، وعلى قاعدة أولوياته التي تبرر سياسات حكومته على صعيد المنطقة ككل.
لبنان ساحة لتبادل الرسائل
المؤكد أننا لسنا أمام مشروع تجديد المقاومة المسلحة من جنوب لبنان. لكن تكرار اطلاق الصواريخ، يبقى أمراً وارداً، باعتبار لبنان والجنوب ساحة مفتوحة لتبادل الرسائل، بإشراف ومعرفة الطرف المهيمن عليه والمتحكم به. وبذريعة حمايته والدفاع عنه وعن ثروته النفطية لتبرير سلاحه. ورغم تغطيته لإتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل بضمانات أميركية، إلا أنه يدرك جيداً مخاطر دفع لبنان مجدداً نحو حرب مدمرة لا مصلحة له فيها. في الوقت الذي يسعى بكل الوسائل لتكريس وشرعنة انجازاته المتحققة في لبنان على امتداد ما يقارب أربعين عاماً.
ولذلك صنفت قيادة الحزب العملية حدثاً تاريخياً، باعتبارها تنتسب لاستراتيجية محور الممانعة في المنطقة، التي ترى في القضية الفلسطينية أحدى أوراقها. ما يعني أن العملية لم تحدث صدفة، رغم اتصالها بما يتعرض له الشعب الفلسطيني على ارضه. لقد أتت في أعقاب تصعيد القصف الصاروخي وغارات الطيران الاسرائيلي المتواصلة على الاراضي السورية، ضد قواعد الحرس الثوري وحزب الله فيها. وهو القصف الذي أوقع مؤخراً خسائر في صفوفهما، ومن الجيش السوري الذي حُمّل مسؤولية ارسال مسيرة واطلاق بضعة صواريخ باتجاه الجولان المحتل. دون إغفال التحضيرات والتهديدات الاسرائيلية المستمرة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، لشن عمليات داخل ايران بذريعة ارتفاع مستويات تخصيب اليورانيم واحتمالات حصولها على القنبلة النووية.
كذلك لا يمكن عزل العملية عن الحشود العسكرية الاميركية في المنطقة بذريعة مكافحة الارهاب وتصعيد الحصار والعقوبات على ايران، وتصعيد الاشتباك معها في سوريا. كما لا يمكن تجاهل انفتاح السعودية على النظام السوري، رغم مطالبتها بوقف انتاج وتهريب المخدرات عبر لبنان، في موازاة إقرار عقوبات اميركية جديدة طالت جهات سورية ولبنانية تابعة للنظام ولحزب الله. يضاف إلى ذلك الموقفين الاميركي والسعودي حول دور الحزب وحصته الوازنة من المسؤولية عن تعطيل مؤسسات الدولة وأجهزتها، والانهيار الاقتصادي والمالي، وعن العقوبات التي تعرَّض لها لبنان والقطاع المصرفي.
وفي السياق عينه تُقرأ استراتيجية محور الممانعة بقادة النظام الايراني، ومحاولات سائر اطرافه لتحصين مواقعها في اعقاب التهدئة التي رافقت الاتفاق الايراني السعودي، وسعيها لحماية مكاسبها المتحققة على حساب وحدة كياناتها الوطنية ومجتمعاتها، بانتظار موسم البحث عن تسويات للأزمات القائمة.
وما يطعن في تاريخية حادثة اطلاق الصواريخ، أنها موصولة أيضاً بدور وموقع حزب الله، في سوريا أولاً، وعلى الصعيد الفلسطيني ثانياً واستطرادا في العراق واليمن. يؤكد ذلك أن اطلاق الصواريخ حصل اثناء زيارة المسؤول الاول عن حركة حماس إلى لبنان وبالتنسيق معه. عدا أنها تخدم مساعي الحزب لتبرير وتكريس هيمنته على الواقع اللبناني، في امتداد استراتيجية النظام الايراني حيال أوضاع المنطقة.
وظيفة قواعد الاشتباك
وما يؤكد اهداف الحزب لا يغطيه صمت قيادته حول العملية، إنما اصرارها على إبقاء لبنان منصة لاطلاق الرسائل باتجاه الخارج وحيال الداخل. وهي التي تدرك جيداً مخاطر التصعيد في الجنوب وارتداداته السلبية على اوضاع الحزب ولبنان معه. وهنا تقع أهمية تجديد قواعد الاشتباك مع العدو الاسرائيلي لتبرير احتفاظه بسلاحه، باعتباره الطرف الوحيد القادر على ضبط السلاح الفلسطيني أمام اللبنانيين والخارج الاقليمي والدولي على السواء. لكن الاهم يبقى خضوع اللبنانيين لاستراتيجية الحزب الدفاعية وفق معادلته الذهبية المعروفة، وأنه الجهة الوحيدة القادرة على حماية حدود لبنان وثروته والدفاع عنها في مواجهة العدوان والاطماع الاسرائيلية.
يعني ذلك أن الحزب لا يخفي توجهات مشروعه الطائفي والفئوي للتحكم بشؤون البلاد وإدارة الحكم، يؤكد ذلك أداؤه السياسي وممارساته، إلى جانب رؤيته لدور الدولة وآليات عمل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية على الصعيد السياسي أو الاقتصادي والمالي، بما فيها وظيفة الجيش والأجهزة الأمنية في مساندته. وهو المشروع الذي يبرر للحزب، رغم عدم امتلاكه الأكثرية النيابية، تعطيل الاستحقاق الرئاسي، والمطالبة برئيس لا يغدر بالمقاومة أو يطعنها بظهرها. علماً أن ضمانات دوره وسلاحه تكفلها التوزانات الإقليمية والدولية، وهي قائمة ميدانياً عبر فائض قوته وقدرته على إبقاء البلد ساحة. مما يساهم في تزخيم الانقسام الأهلي، ويبقي البلد أسير شبح الحرب الاهلية. هذا عدا رسوخ موقعه ضمن فدرالية احزاب الطوائف العاجزة عن فرض خياراتها من ناحية، ومشاركته انغلاقها على تسويات الحد الادنى السياسية، وفي رفض الاصلاحات التي تبقي البلد في دائرة الامان، مقابل الاستقالة الجماعية من مسؤولية انتخاب رئيس للجمهورية واحالتها على الخارج.
بيروت 20 نيسان 2023
Leave a Comment