سياسة مجتمع

ايران ضحية سياسات ورهانات ومغامرات النظام المدمرة

  زكـي طـه

بيروت 18 حزيران 2025 ـ بيروت الحرية

تعيش المنطقة مرحلة تحولات تاريخية. لا مكان فيها ولا فائدة  ترتجى خلالها من الشعارات الكبرى التي ظللت عقوداً طويلة من الحروب والصراعات، التي نشهد ذروتها على نحو كارثي في قطاع غزة، ودراماتيكي في ايران، بعدما عبرت على امتداد ساحات بلدانها العربية بدءاً من فلسطين مروراً بلبنان وسوريا واليمن والعراق وسواها، التي تعيش حروباً أهلية لا نهاية لها، كما هو الوضع في السودان وليبيا واليمن و.. . وتواجه ايران الآن الحرب الاسرائيلية الدائرة عليها. ومعها يكتمل عصر السيطرة والتحكم الاميركي ببلدان ومجتمعات تبحث عن دولها فلا تجد سوى هياكل خاوية، وفي موازاتها يتكرس أيضاً خضوع الدول والنظم القائمة وفق شروط الهيمنة القائمة على نهب مواردها.

وعلى أهمية بيانات الادانة والمواقف المبدئة التي توصف بأبسط اشكال التضامن. إلا أن ما آلت إليه أوضاع المنطقة دولاً وشعوباً على نحو اجمالي، لا يمكن احالة المسؤولية عنه فقط على السياسات الاميركية وانحيازها المطلق للعدوانية الاميركية، ولا على  نتائج حربهما المفتوحة منذ ما يقارب العامين على سائر جبهات المواجهة. لانها اولاً نتاج عقود طويلة من الصراعات والنزاعات. وثانيا وهو الاهم أنه لا يمكن اعفاء الدول والقوى السياسية والمجتمعية العربية من مسؤولياتها عن سياساتها وخياراتها في جميع المحطات، سواء تحت راية تحرير فلسطين ومواجهة الاطماع الاسرائيلية، أو في معالجة إشكاليات مجتمعاتها ومعضلاتها البنيوية الموروثة، وفشلها في التصدي لمشكلات العلاقات فيما بين دولها.

تصدير الثورة الايرانية

ولا يختلف الأمر مع النظام الايراني، الذي كان ولا يزال شريكاً في السياسات والرهانات الخاطئة، كما في المغامرات القاتلة التي تحوّلت بلاده الآن ضحية لها. وهو النظام الذي لم يكد يستلم السلطة حتى رفع شعار تصدير الثورة. واول تداعيات محاولات تنفيذه كانت القطيعة مع السعودية ودول الخليج العربي. قبل أن تبدأ الحرب مع ايران من العراق، بغطاء دولي وبدعم وتمويل عربي. وهي الحرب التي انتهت بعد ثماني سنوات باستسلام النظام الايراني، استناداً لفتوى الامام الخميني وتجرعه “كأس السم” الذي عنى: الموافقة على وقف الحرب. قبل أن يجد فرصته الذهبية للانتقام من العراق، بعد تدمير دولته وجيشه ومؤسساته الوطنية  من قبل الاحتلال الاميركي بذريعة اسلحة الدمار الشامل. وتبع ذلك العثور على ضالته السياسية لتوسيع دائرة نفوذه، في استراتيجية السيطرة الاميركية القائمة على تعميم الفوضى الخلاقة على سائر دول المنطقة ومجتمعاتها. ولذلك اعتمد النظام الايراني، التدخل في الشؤون الداخلية لأوضاع البلدان العربية، على روافع طائفية ومذهبية. ودعّم وموّل تأسيس تنظيمات مذهبية فيها.

ولإكساب سياساته شرعية اسلامية أعلن عن يوم القدس العالمي في آخر جمعة من شهر رمضان كل عام، إلى جانب دعم التنظيمات التي وجدت فيه ممولاً وراعياً سياسياً لها، وخصوصا تنظيم الجهاد الاسلامي وحركة حماس اللذين انقلبا على السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وفي السياق أبدى انفتاحاً شكلياً على التيارات الاصولية السنية، ولاسيما فروع الأخوان المسلمين في مصر والسودان وتونس وسواها. لكن تحالفاته الاهم كانت مع النظام السوري، ومع الحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وفي الدور المميز لحزب الله في لبنان. ولتأكيد نجاحاته المحققة تحت أعين الرقابة الاميركية، أعلن قادة إيران انهم يحكمون أربعة عوصم عربية.

طوال ما يزيد عن عقود ثلاثة، استغل النظام الايراني القضية الفلسطينية والأزمات الداخلية للبلدان العربية، التي تسببت بها نظم الاستبداد الحاكمة من أجل تعزيز وتوسيع نفوذه. وساهمت تدخلاته في تزخيم تلك الأزمات، وفي تسعير الانقسامات الاهلية وتجديد النزاعات الطائفية والمذهبية بين مكوناتها. والنتيجة تضخم دور ايران على رافعة المشاركة في تعميم الفوضى وعبر تفكيك المجتمعات العربية، وتجويف دور دولها ومؤسساتها والتحكم بها. كما أفرط قادتها في تعزيز قدرة الاحزاب الطائفية الموالية لهم، والتي ترفع راية المقاومة ومدوها بالمال والسلاح بلا حساب لتكريس هيمنتها بقوة الامر الواقع. والهدف أن تُقبل ايران شريكاً في السيطرة على المنطقة بقيادة الولايات المتحدة إلى جانب تركيا واسرائيل، وفاتهم أن الاولى هي عضو في الحلف الاطلسي، والثانية ركيزة واداة سيطرة استعمارية بلا منازع.

الاستبداد والقمع الداخلي

في الوقت عينه أبدع النظام الايراني في ممارسة الانغلاق وممارسة كل اشكال الاستبداد ضد شعبه. فلم يكتفِ بتصفية جميع شركائه في الثورة والمعارضين له على السواء. ولم يتردد أمام اعتماد القمع العاري في مواجهة الاحتجاجات الشعبية المتكررة دفاعاً عن الحريات وحقوق الاقليات والمرأة والشباب. أما احتجاز الاجانب ومزدوجي الجنسية بتهم الجاسوسية لابتزاز دولهم، فيكاد يكون ماركة مسجلة باسمه. والاهم في سياسات النظام كان ولا يزال الامعان في هدر مقدرات بلاده على التسلح وإنتاج الصواريخ وفي بناء المفاعلات النووية، وغايته اقامة توازن استراتيجي والتحوّل إلى قوة اقليمية. لكن الحسابات الاميركية  والدولية جعلت من تلك السياسات ذرائع لفرض حصار دولي خانق عليه. كما عرضته لمسلسل لا ينتهي من العقوبات الاقتصادية والمالية، التي أبقت قطاعات اقتصاد ايران في حالة من التخلف الشديد، خصوصا في ميدان الصناعات النفطية.

وإذا كانت الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية المفتوحة، التي بدأت اواخر العام 2023 بذريعة عملية طوفان الاقصى، أتت تتويجاً للنزاعات والحروب الاهلية التي شاركت فيها ايران. لأنها خدمت استراتيجية اميركا ومصالحها، كما صبت الماء في طاحونة الاهداف الاسرائيلية. كذلك فإن الحرب الراهنة على ايران قد استندت إلى النتائج التدميرية لمعارك المساندة التي قررها قادتها في إطار الحرب على قطاع غزة والضفة الغربية وعلى القضية الفلسطينية المهددة بالتصفية. وعلى لبنان العاجز راهناً تحت وطأة انقساماته، عن اجبار اسرائيل على الانسحاب من المواقع التي تحتلها، وعن مواجهة شروط سيطرتها وعدوانها المستمر برعاية اميركية. ولا يختلف الامر في سوريا بعد تدمير جيشها واحتلال مواقع استراتيجية إضافية في جنوب البلاد، أما تدمير اليمن فحدث ولا حرج.

لقد أفرط النظام الايراني في استخدام التنظيمات التي تواليه، وغايته تحقيق طموحاته. وها هو الآن يواجه منفرداً الحرب الاسرائيلية على بلاده. وكما اقتصر الامر على اصدار بيانات التضامن مع غزة ومع الشعبين الفلسطيني واللبناني، يتكرر المشهد عربياً واسلامياً مع ايران، وهي تتعرض لأعتى حرب تدميرية بدعم أميركي مطلق تحت انظار العالم المنقسم، بين من يؤيد ويدعم الكيان الصهيوني في حربه، وبين من يبدي استعداداً للتوسط لوقف الحرب، كما هو الحال بالنسبة لروسيا وتركيا، ومن هم في موقع المتفرج. والأفدح غياب ابسط مظاهر الاحتجاج ضد الحرب على ايران، وانعدام الحد الادنى من اشكال التضامن مع شعبها، من قبل المجتمعات العربية التي تُحمّل قادتها قسطاً وازناً من المسؤولية عن هزيمتها وعن تبديد وطنياتها، وتبدل اولوياتها في ضوء ما آلت إليه أوضاع بلدانها الكارثية.

عصر السيطرة الأميركية -الاسرائيلية

كثيرة هي العوامل والاسباب التي مهدت الطرق لإدخال المنطقة برمتها، في عصر السيطرة الاميركية المطلقة والعربدة الاسرائيلية بلا حدود أو قيود. فيما بلدانها ومجتمعاتها في أسوا أحوالها من التفكك والانقسام والتخلف، إلى جانب ما حل بها من الخراب والدمار، سواء الناجم منها عن ممارسات نظم الاستبداد، أو المتأتية عن السياسات والرهانات الخاطئة والمغامرات الانتحارية القائمة على الأوهام والخرافات والاساطير. ولذلك ليس مفاجئاً أن يكون الشعب الايراني اليوم ضحية سياسات قادته، كما كان الحال مع شعوبنا ومجتمعاتنا العربية.

وليس مستغرباً أيضاً أن يكرر رافعوا رايات المقاومة المسلحة من مواقع الانقسام الاهلي،  ودعاة الانتصارات الوهمية مع كل ضربة توجه لاسرائيل، الهروب إلى الأمام ورفض الاعتراف بالوقائع القاهرة. فيما شعوب وبلدان المنطقة ومنها ايران تُدفع قسراً بقوة عمليات الابادة والقتل والتدمير والتهجير، إلى  مسارات الاخضاع والسيطرة عليها، بانتظار إعادة تشكيل منطقة الشرق الاوسط برمتها على النحو الذي يتوافق مع المصالح الأميركية، ومع تكريس دور اسرائيل كهراوة غليظة لممارسة الهيمنة.

إنها مرحلة التحولات الكبرى والتحديات الصعبة والمستقبل المجهول. لأن بلداننا وشعوبها عاجزة عن تجنب دفع الأكلاف الباهظة للحروب عليها أو الهروب من موجباتها. وهي أيضاً مرحلة الاقرار بالوقائع القاهرة والواقع الصعب، حيث لا يفيد الانكار لأنه أقصر الطرق للوقوع في الهاوية. والاهم راهناً التجروء على ترصيد الحسابات وطرح الاسئلة الصعبة حول قضايا المستقبل، انطلاقاً مما أنتهت اليه الاوضاع مدخلاً للبحث عن الاجوبة حول ما العمل، بعيداً عن التبسيط وشعارات التعمية والتضليل، وعن الاوهام والمغامرات الانتحارية التي تؤبد السيطرة الاميركية والعدوانية الاسرائيلية والتخلف في آن.