كتب جورج هاشم
يتبارى أفراد الطبقة السياسية الحاكمة، بجميع فروعها المذهبية، بالتباكي على مصلحة المغتربين. يريدونهم أن يشاركوا في الحياة السياسية، ولكن من منظارهم الطائفي المناطقي الضيِّق. ويتنافسون في المزايدة في اقتراح الحلول وكأنهم وجدوا حلولاً للأزمات التي هندسوها للمقيم، ليتفرَّغوا ليعمِّموا هندساتهم على المغترب في أربع جهات الأرض. وكلّهم لا يريد من المغترب الا “الفريش دولار”، اضافة الى نقل أمراضهم المذهبية الى بلدان الاغتراب. والمضحك انهم يغلِّفون أكاذيبهم بالادعاء انهم لا يريدون تهميش المغتربين، ويريدونهم ان ينتخبوا ال 128 نائباً بدل ستة ممثلين عنهم من القارات الست.
بداية يجب الاعتراف ان المغترب مأكولٌ اقتصادياً، مذمومٌ سياسياً من جميع أحزاب السلطة. انه البقرة الحلوب. ويريدونه أن يبقى كذلك. قدّرَ أحد الخبراء الاقتصاديين اجمالي مدخول لبنان العام السنة الماضية بِ 11 مليار دولار. منها أكثر من سبعة مليارات من أموال المغتربين (بين أموال مرسلة كمساعدات إلى أهلهم وأقاربهم وأموال صرفها المغترب بنفسه جرّاء زيارته إلى لبنان). أي أكثر من 63% من دخل لبنان كان من المغترب. بالمقابل ما هو دوره السياسي؟ صفر. أو ما يقارب ذلك. فهل الاقتراع، كما في انتخابات الـ 2018، يمنح المغترب دوراً مشاركاً وفاعلاً في الحياة السياسية اللبنانية كما تدّعي أحزاب السلطة؟
وسنة 2018 ليست بِبَعيدة. والجالية اللبنانية في استراليا، على سبيل المثال، خاضتها. وبعض الدوائر شهدت معارك حامية تركت آثاراً سلبية على وحدة أبنائها لا زالت تتفاعل حتى اليوم. ولكن نتيجة التأثير على النتائج العامة في لبنان كانت صفراً. فأغلبية أبناء الجالية فقدت ثقتها بكامل أحزاب الطبقة السياسية، ومعظم الدوائر لم تفرز بدائل مقبولة، مما دفع الأكثرية للامتناع عن المشاركة. أقلية مرتبطة بأحزاب السلطة، أو بالزعامات المناطقية هي التي نشطت. ورغم الحملات الدعائية المكثفة، ورغم زيارات الأقطاب المتكررة، ورغم الاتصالات الشخصية لبعض الزعماء بالكثيرين من أبناء الجالية، لم يتسجَّل أكثر من 12 ألف ناخب. انتخب نصفهم في جالية من حوالي نصف مليون لبناني، وفيها ما لا يقل عن مئة ألف ناخب (لا يوجد احصاء رسمي). الستة آلاف الذين انتخبوا توزّعوا بشكل شبه متساوٍ على جميع القوى المتنافسة. وبالتالي لم يكن لهم أي دور مرجِّح لأي لائحة على اخرى. فهل هذا الصفر تأثير هو المطلوب؟
الطبقة السياسية، المتحكمة بكل مفاصل الوطن، تحاول سد أي ثغرة للتغييرعند المقيم إن بالترغيب أو بالترهيب. بينما لا تستطيع التحكّم بالمغترب لو خصصت له عدّة مقاعد ليمثّل نفسه بنفسه. حتى ولو كانت ستة مقاعد بالبداية. فالمغترب سيخرج حتماً من تحت عباءة الطبقة السياسية لما يختزنه من حقد عليها. حقد شخصي لأنه أُجبر على الهجرة بحثاً عن حياة أفضل خارج الوطن، وهذا لم يكن خياره بالأساس. وثانياً لسرقتها المباشرة لأمواله التي أودعها المصارف اللبنانية. وثالثاً للوضع المأساوي الذي أوصلت اليه أهله وأقاربه وأبناء وطنه. ورابعاً لأنه يعرف بالضبط الفرق بين ان تعيش في وطن يحترم الانسان وبين ان تعيش في مزرعة مذهبية. وخامساً لأنها نكَّست رأس اللبناني أينما تواجد. و..عاشراً لأنها وضعت عليه أعباءً ماديّة اضافية بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، مما اضطره لمضاعفة مساعداته للأهل والأصدقاء ولمشاريع المساعدات الانسانية… لذلك، ولإبقائه تحت السيطرة، تدّعي اعطاءه الفرصة “للمشاركة بانتخاب ال 128 نائباً”. بينما هي في الواقع تعطي امتداداتها في الاغتراب، أي محازبي أحزاب السلطة هذا الشرف. انه قرار مدروس بعناية لسد أي طاقة للتغيير. فأحزاب السلطة، كما أثبتت انتخابات 2018، هم أقلية صغيرة جداً قياسا بالقوة الانتخابية المغتربة والتي هي، دون أدنى شك، قوّة تغييرية، لو أُحسن تنظيمها. فالانتخابات الماضية لم يتحمَّس لها الا أحزاب السلطة ومن يدور في فلكها.
اذا كان النظام الانتخابي الهجين، المطبَّق حالياً في لبنان، لا يعكس التمثيل الحقيقي للمقيم، فكيف سيعكس التمثيل الحقيقي للمغترب؟ وبما ان المغترب يلعب دوراً هاماً في اقتصاد البلد لذلك فدوره السياسي، ان لم يكن موازياً لدوره الاقتصادي، فيجب ان يكون على الأقل وازناً. وذلك بأن يتمثل بنفسه في المجلس النيابي. شرط ان يكون عدد نواب كل قارة يتناسب وعدد المسجلين للاقتراع فيها، وأن لا يخضع نواب الاغتراب للمحاصصة الطائفية. فلتبتدىء العلمنة من الاغتراب ومن المغتربين بالذات الذين عاش معظمهم، ويعيشون، في ظل أنظمة علمانية. أما عندما يصبح لبنان كله دائرة واحدة خارج القيد الطائفي عندها يمكن أن يصبح لبنان والاغتراب دائرة واحدة.
كفاءات وامكانيات لبنان المغترب كثيرة وكبيرة وفي كل المجالات. معظمها غير مرتبط بأحزاب السلطة. واذا مثَّلَ المغترب نفسه بنفسه، فهناك امكانية كبيرة أن يحمل معه بعض بوادر التغيير إلى المجلس النيابي. واذا التقت هذه القوى التغييرية المغتربة مع القوى التغييرية المقيمة والصاعدة، ويجب أن تلتقي، فهناك الطامة الكبرى على سلطة ستفعل المستحيل لتبقى متحكمة بمفاصل الوطن، ومنها تهميش دور المغترب السياسي والابقاء على دوره الاقتصادي فقط، لأنه بنهاية المطاف يصب لمصلحتها. فهل ستلتزم أحزاب السلطة بقانون الانتخابات الذي خصص ستة مقاعد للمغتربين سنة 2022؟ أم أنها ستجد الأعذار للتخلص من هذا العبء؟ خاصة وأنها حتى الآن، ورغم قصر المسافة الزمنية المتبقية، لم تتخذ أية اجراءات عملية لوضع هذا القانون قيد التطبيق.
Leave a Comment