سياسة مجتمع

الهجمات الايرانية ـ التركية على أكراد سوريا والعراق: صرف الأنظار عن استعصاء الانتفاضة والمآزق الداخلية

زاهي البقاعي

في يوم واحد لا تفصل بينه حتى ساعات قليلة، كانت القرى الكردية في محافظة أربيل بكردستان العراق تتعرض لوابل من هجمات الطائرات المسيرة وصواريخ أرض ـ أرض ايرانية، بينما كانت القرى الكردية في شمال سورية تشهد بدورها غارات جوية تمهيداً لغزو بري تركي، قال الرئيس رجب طيب أردوغان أنه بات قريباً، ويهدف إلى وصل مناطق التمدد التركي في شمال سوريا بعرض لا يقل عن 30 كلم، لإسكان اللاجئين السوريين فيه. وهو المشروع القديم الجديد الذي يستحضره كلما تصاعد الحديث عن الشمال السوري والوجود الكردي فيه.

نحن امام دولتان عربيتان هما العراق وسورية تتعرضان لهجمات عسكرية من دولتين مجاورتين طامعتين في التوسع والامتداد الحيوي فيهما وتصدير أزمتيهما إليهما. الأولى ايران والثانية تركيا. وكلتا الدولتين قدمت من الضخ والتحريض الذي يستتبع معاقبة ما اقترفته أيدي الجماعات المسلحة في كلتي الدولتين العربيتين. فتركيا نسبت الهجمات التفجيرية التي تعرضت لها استانبول للجماعات الارهابية الكردية  التي أصدرت أوامرها لإحدى السيدات الكرديات لتنفيذ التفجير بعد أن تلقت أوامر جاءتها من كوباني ـ عين العرب، ثم جرى تسللها مع مرافقيها نحو الاراضي التركية، حيث وصلت إلى العاصمة التاريخية، وفعلت ما كلفتها قيادة الحزب بتنفيذه. أما ايران فما إن انطلقت الانتفاضة قبل شهرين ونصف الشهر إثر مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني على يد حراس الاخلاق حتى قامت الآلة الحربية الايرانية بتوجيه القصف على القرى الحدودية في كردستان العراق، ما أثار ردود فعل واسعة داخل البلاد، إلى حد دفع الحكومة في بغداد، التي لا يشك أحد بولائها لايران، إلى اصدار الاحتجاج تلو الاحتجاج على هذا الهجوم الذي عرِّض أمن البلاد للخطر، وخلف العديد من الضحايا والدمار في الممتلكات. كما استتبع استنفار قوات الجيش والبيشمركة، بعد تلويح ايران بشن هجوم بري واسع ، علماً أن الحدود الايرانية تمتد على مسافة ألف كيلومتر تتخللها جبال وعرة . هذا من جهة، ومن جهة ثانية بلغ عدد الاعتداءات الايرانية حوالي600 اعتداء ، فيما سجلت الهجمات التركية رقما قياسياً وصل إلى حدود الـ 4000 هجوم بين جوي وبري.

كان واضحاً أن توجيه أصابع الاتهام في كل من طهران وأنقرة لأكراد سورية والعراق بمثابة عملية انكار لمدى التأزم الداخلي الذي يعانيه نظاميهما على الصعيد الداخلي . ففي تركيا من المقرر أن تشهد البلاد انتخابات مقبلة، لا يبدو من خلال التقديرات بشأنها أن حزب العدالة والتنمية في أفضل جهوزيته لخوضها، والحسم في نجاحه فيها. فالأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد ما تزال في حال من التصاعد، والمباحثات التي يجريها في الداخل حزب اردوغان للوصول إلى عقد تحالفات تتيح له النجاح لم تصل إلى خواتيمها. وهي تحالفات يريد لها من خلال اللوائح الانتخابية أن تضمن له النتائج بما يكفل بقاءه في السلطة. حتى أن بعض المحللين الاتراك لم يستبعد أن تكون عملية التفجير من فعل أيادٍ داخلية لمنع التحالف التركي الكردي الداخلي أن يرى النور. خصوصاً وأن الاعلان التركي عن مسؤولية “قسد” كان شديد الارتباك في رواياته التي شابها الكثير من الوقائع المتناقضة، ما دفع بالكثيرين إلى الطعن بالمسؤولية التي أعلنها الطيب أردوغان ووزارة الداخلية والأجهزة الأمنية.

بالنسبة لايران كان الهدف الواضح من خلال الهجوم هو الإيحاء أن الانتفاضة التي تشهدها البلاد هي من فعل جماعات الاكراد “الانفصاليين الارهابيين” المقيمين على الحدود الايرانية ـ العراقية، الذين لا بد من تأديبهم في عقر دارهم في الاراضي العراقية، بما فيه التلويح باجتياح اقليم كردستان العراق. وبذلك كانت المراهنة أن تنكمش الانتفاضة حتى حدود التلاشي، ويهدأ بال المرشد الاعلى علي خامنئي ونظامه. ترافق ذلك مع حديث متكرر في وسائل الاعلام الايرانية عن تهريب الأسلحة والمقاتلين إلى المدن الكردية في ايران، التي تشهد مستوى عالٍ من المواجهة مع قوات الحرس الثوري، التي تستعمل أسلحتها ورصاصها الحي، ما يؤدي إلى سقوط المزيد من القتلى والجرحى. لكن الهدف الأبرز يظل هو محاولة تكتيل العنصر الفارسي وراء النظام بعد أن يئس من استقطاب البلوش والأذريين والعرب والتركمان وغيرهم من أقليات. أيضاً لم يكن في تصور المرشد أن يتمرد العراق بمكوناته على سلطته وسلطانه وهو الذي بذل الكثير على تطويعه، خصوصاً مع  انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة موالية برئاسة محمد شياع السوداني مؤخراً في اطار صفقة مع الراعي الاميركي. لذا لم يكن مستغرباً أن يعيد المرشد على مسامع القريب والبعيد حديثه عن جبهات الدفاع عن ايران في وجه المؤامرة الخارجية، بدءاً من دولة الصومال في الشرق الافريقي مروراً بالعراق وسوريا ولبنان واليمن بطبيعة الحال. كون هذه البلدان مجرد خطوط دفاع أمامية لامتداداته التي فاضت عن حدود الدولة الايرانية، وباتت قوة اقليمية يجب أن يحسب لها ألف حساب في دفاتر القوى العظمى وعلى مستوى قوى وصراعات المنطقة.

لكن معضلة كلاً من تركيا وايران تبدو متشابهة بالنظر إلى العوامل الداخلية الوازنة فيهما. صحيح أن أردوغان حاول في الاسابيع والأشهر الأخيرة أن يعيد نسج العلاقات مع كل من مصر واسرائيل، وتأمين تقاسم نفط وغاز البحر المتوسط، الا أن حجم المشكلات المطروحة  وتضارب المصالح أكبر من أن تقلصه النوايا الحسنة. ثم إن الوصول إلى اتفاق مع كل منهما لا يغني عن حل المعضلات الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية المتفاقمة في البلاد، بدليل ما تشهده الليرة التركية من تراجع متواصل، رغم أن التفجير حدث بعد الموسم السياحي الذي جذب الملايين ومعهم مليارات الدولارات. ويبقى الجانب السياسي الأهم هو اضطرار النظام التركي إلى إمساك العصا من وسطها، وتقديم تنازلات متتالية في علاقاته الدولية والاقليمية على حد سواء. وهو في استعداداته العسكرية لاجتياح الشمال السوري راهن على انشغال الولايات المتحدة الاميركية بحرب اوكرانيا وتوتر علاقاتها مع الصين . كذلك رغم كونه في عداد عضوية دول النيتو، لم يقطع علاقاته يوماً مع القيادة الروسية بعد الهجوم على اوكرانيا، وجعل من عاصمته ملتقى للطرفين، ومن نفسه وسيطاً حول توريد الحبوب وغيرها من مسائل عالقة بين القوتين المتصارعتين. لكن كلاً من الاميركيين والروس اللذين غضا الطرف في اللحظة الاولى للغارات الجوية، سرعان ما أعربا عن موقفيهما الرافض للهجوم البري. فالولايات المتحدة التي سبق ووضعت خطاً أحمر حمى “قوات سورية الديمقراطية” – قسد –  من أي تهديد يطالها باعتبارها ضرورة لمواصلة ضبط تنظيم داعش بنسخته القديمة والجديدة، أعلنت اميركا بلسان أكثر من مسؤول إدانتها للاستعدادات التركية لشن الهجوم البري. وكذلك فعل الرئيس الروسي الذي أعرب عن خشيته أن يضاعف الهجوم تعقيدات الوضع السوري. وهكذا لم تنفع الرسائل التي وجهها أردوغان وأعرب خلالها عن استعداده للقاء الرئيس الاسد والتنسيق بينهما، وكذلك عودته إلى اتفاق الاستانة ومندرجاته بأمل تقليص المعارضة لخطوته المزدوجة ولتوجهاته الهجومية.

وبالانتقال إلى ايران فقد مرّ على الانتفاضة أكثر من 75 يوماً دون أن تنجح قوى ومؤسسات النظام الدعوية والأمنية والعسكرية في وأدها، بما فيها تقديم التنازلات الشكلية حول حرس الاخلاق، وكف يده عن التعديات على النساء والرجال أحياناً في شوارع المدن . وتبدو المعضلة التي يكابدها النظام أنه يرتكز على مصادرة تفسيره للدين والمقدسات التي يتضمنها، وتصدير المذهب من المركز نحو الاطراف، ومن خلالهما تسويق النموذج السياسي بأحلامه وأوهامه الامبراطورية، والذي يعتمده نحو البلدان الأربعة أو الخمسة المستهدفة، اذا أضفنا إليها الصومال كما فعل خامنيئي أخيراً. بالطبع وكما هو مؤكد فقد ضاق الايرانيون ذرعاً بدعاوي النظام الدينية وفتاواه، واكتشفوا أنها تغلف شبكة من المصالح التي تتحلق حول موقع المرشد صاحب السلطة المطلقة، مع ما يديره من الأجهزة والمؤسسات التي ترتبط بقراره في اطار المسعى الامبراطوري الذي يحاول بلوغه. بالمقابل هناك جموع الايرانيين الذين يعانون المزيد من الفقر مقابل تصنيع السلاح وتوريده إلى هذه الجبهة أو تلك، وعسكرة الاقتصاد ورهن مقدرات البلاد للانفاق على السلاح النووي والصاروخي. وهكذا تذهب عوائد النفط التي تشكل 80% من صادرات البلاد لترتد وبالاً عليهم، وعلى شعوب المنطقة على حد سواء. وبالطبع فإن نظاما يدعي امتلاك مفاتيح تفسير المقدس وتأويله، وفرضه على الشعوب الايرانية وسواها، لا يستطيع أن يقدم تنازلات للانتفاضة لأن ذلك سيؤدي إلى انهيار النظام برمته على طريقة أحجار الدومينو المعروفة، فالمقدس أصلاً في نظر المؤمنين به غير قابل للتفاوض أو التنازل أو التسويات.

اللقاء الذي عقده السوداني مع كل من خامنيئي والرئيس ابراهيم رئيسي، وعلى الرغم من الأجواء “الايجابية” التي أشاعها الأول أكثر تعقيداً من مجرد تبريد الأجواء في لحظة الاشتباك الراهنة، فبين البلدين الكثير من الملفات المتشابكة والمعقدة. فمثلاً يقود دعوة الايرانيين العراقيين إلى ضبط الجماعات الكردية الايرانية أن تخترق الحدود وتتصل بالشارع المنتفض، قضية مهربي المخدرات من الجانب الايراني إلى العراق كمحطة لارسالها نحو دول الخليج وغيرها، وهناك مسألة المياه بعدما قطعت ايران مياه ما مجموعه 42 مصدراً مائياً تتراوح بين ينابيع وأنهر صغيرة، ما ضاعف من معضلة الجفاف في العراق التي تتناوب عليها مع تركيا، وهناك قضايا الهيمنة السياسية بواسطة جماعاتها الميليشياوية، ومسائل النفط والكهرباء والتجارة وغيرها الكثير. والأهم هو الدور الاقليمي للعراق الذي كان يعمل خلال حكومة مصطفى الكاظمي على تطبيع علاقاته مع دول الجوار العربية على حساب آحادية التبعية لايران. باختصار ونتيجة ضعف الموقف العراقي يمكن لايران أن تنتزع تنازلات منه، لكنها لن تستطيع أن تعالج معضلاتها المستعصية على الحل، ثم كيف بها تحمي خواصرها الرخوة في الخارج والداخل، كونها لن تتمكن من تقديم شيء لشعوبها التي تتابع انتفاضتها رغم النزيف الدموي اليومي المتدفق.

يبقى القول إن ما يعنينا هو مصير دولتين عربيتين باتتا بمثابة مسرح للتوسع والانتهاك السافر لسيادتيهما، تحت أنظار الدول والجامعة العربية التي لم تحرك ساكناً، ولو كما جرت العادة عبر اصدار المواقف والبيانات الاعلامية التي لا تقدم ولا تؤخر.

Leave a Comment