سياسة صحف وآراء

النظام العالمي ينقلب

سمير عطالله*

كلما اشتدت المصائب على الانسان كلما تقبّل عبثية اليأس. وإذ تبلغ المحن البشرية ذروتها، يعمّ اليأس الجماعي، وتسلك الجماهير سلوك الأفراد، وتبتعد الحقائق كلما ازداد وضوحها، فيلجأ الضعفاء إلى الخرافة والأسطورة والغيبوبات الفكرية.

وتنطبق هذه الحالة على الظالم، كما تنطبق على المظلوم. وقد رأينا بنيامين نتنياهو، يستعيد نبوءات اشعيا، وهو يشكو أهل غزة ويبرر لنفسه إحراق المدينة في مزيج من نيرون، وهولاكو، وهاري ترومان. ولم يكتفِ كثيرون باستعادة التوراة وأنبيائها المحاطين بالموت والإبادة والحصار وأبواق أريحا. ولشدة فظاعتها لم تعد الحقائق تكفي أحداً، وضاع الإنسان في أزقّة غزة، وشوارعها المنهالة عليها الصواريخ والقنابل والمدافع، ولياقات خليفة شارون في وزارة الدفاع الاسرائيلية، الذي قال إن أهالي غزة مجرد “حيوانات بشرية”، ثم تراجع معتذرا ومحددا أنهم مجرد “حيوانات”، أي لا علاقة لهم بالبشر.

طوال هذا النزاع بين الحركة الصهيونية والعجز العربي الممتلىء جهلاً وخرافة، لم يستخدم الفريقان سلاح الخرافة. ولم يتدخل “يشوع بن نون” مرة أخرى ليوقف الشمس بذراعه، لأن علماء اسرائيل أثبتوا ما أُحرق من أجله غاليليو، من دوران الشمس على نفسها “زواج القمر والاحتفال بعرسه”، أو غيرها من ترسّبات العقود الماضية عند البشر.

كانت غزة في الأسابيع الماضية تشبه القيامة. أو أكثر. ومن حولها عالم سفيه عقيم وعاجز مثل خصيان السلاطين، فقط يتفرج على مهرجان القتل، وأكفان الأطفال، وبعثرة البيوت، وطرد الأمهات، وهو يفتش في الأرشيفات الدولية عن سابقات يسند إليها مطالبةً واهية بـ”ممرٍ إنسانيٍ” من هنا أو هناك. في هذا المعنى كانت الأسرة الدولية أوقح من نتنياهو، وتجاوزت نفسها بمسافات كثيرة وهي ترى أن طاقتها الوحيدة “فيتو” يلوّح به الأميركيون، أو الروس، مثلما تلوّح الندّابات بالمناديل الخاصة. أنهت وحشيات غزة النظام العالمي كما ورثناه بعد الحرب. وبدل أن يتم ذلك في ملتقىً قانوني يمثّل تطلّع البشرية إلى غد أكثر استقراراً، تركناه ينهار بين أقدام عربة خيل، يجرّها حصان اليمين نحو الجنون، وحصان الشمال نحو ما تبقّى من عقلٍ وعقلاء وأشباههم.

لم يعرف هذا العالم مرحلة قصيرة أو طويلة من دون حروب. ولم تنجُ قارة، إلا أوقيانيا من صراعات الفتك والدمار، وتركت ذلك للسمك في أعماقها، يقلد البشر في التسلط والانقضاض، ورسم الفِخاخ، ونسف الجسور التي يمرّ عليها الناس، واحراق البيوت والسهول والمواسم، ونسف المطاحن واهراءات القمح، كما حدث في بيروت. تتميز المرحلة التي نحن فيها بأن العالم يعيش حربين متوازيتين. الأولى تشتعل في أوكرانيا وروسيا، وهي الأولى من نوعها في تلك البقعة من العالم منذ الحرب، والثانية في الشرق الأوسط، دار الحروب والصراعات الأهلية والصلب. في روسيا أيضاً تُدكُّ مدينة كل يوم، وفي أوكرانيا تفرغ مدينة أخرى. وتطوّل الحرب من حيث الخوف الاستراتيجي إطار التعامل بين الولايات المتحدة وروسيا، وتهدد بانفلات نووي، متعمّد أو غير متعمّد. وقد أصبح هذا الكابوس محتملاً لكثرة ما تحدث عنه فلاديمير بوتين ووزيره المتعب سيرغي لافروف. واستحضر الأميركيون أشباح الموت الشامل بإرسال غواصة نووية إلى المتوسط، الذي عاد ملعباً للأساطيل بعد غياب طويل. وإذ طال الغياب ظنّت الناس أن الأساطيل أصبحت لغة قديمة، وأنها زالت مع زوال الامبراطوريات، التي طافت في المحيطات تقصف الشواطىء، والبوارج المعادية، من أجل تمكنها من احتلال الجزء الأكبر من العالم. لكن اضطراب العالم يشوّهه نوع من المسّ والجنون. فمن يستطيع تفسير هذه الظاهرة الكونية بأن حرب أوكرانيا لم تعد تساوي خبراً صغيراً في صحف العالم، بينما طغى بركان الشرق الأوسط، وفاضت حممه، وها هي تهدد الكرة برمّتها.

كان الكتبة والسياسيون في العواصم يتحزّرون حول ميثاق نظامٍ عالميٍ جديد من حرب أوكرانيا. وصارت الأسماء التي لم يكن يسمع بها أحد، عناوين الصحف كل يوم في القرى والدساكر البعيدة. وبرز “مهرجٌ سابق” على أنه الرجل الذي أنقذ أوكرانيا من هجوم الروس، وأطماعهم القديمة. ودبّ الخوف في الكرملين نفسه ولم يعد بوتين يعرف كيف يبرّر الخسائر اليومية، أو القتل الغامض لضباطه وطبّاخه القديم، الذي عاد فمات بالسمّ، كما قُتل سواه من قبله بهذا الاسلوب الروسيّ الحصري.

فجأةً عادت النار إلى الشرق الأوسط، و#القضية الفلسطينية التي بدت ذكرى منسيّة منذ زمن طويل، ولم يعد يسمع بها أحد، وإذا سمع السامع، لا يُبدي أي اهتمام. فإذا بالمجازر التي كررها نتنياهو في الكنائس، والمساجد، والمستشفيات، والمدارس، تصبح هي مركز الاهتمام في العالم، لا إحصاء إلا لضحاياها، ولا صور من وكالات الأنباء، إلا لأكفانها الجماعية، وجنازاتها التي تقام في الأنفاق تحت الأرض. تولّى نتنياهو تذكير العالم بأن ما يجري ليس مجزرة غزيّة، وإنما هو ذروة الظلم في القضية الفلسطينية. ومن تلقاء نفسها عادت فلسطين تسمى فلسطين، وليس الضفة والقطاع، والشرق والغرب. ثمنٌ هائلٌ طبعا وصورة مريعة وعالم ضعيف وسفيه، يتغاضى عن أسوأ جرائم الانسانية. ونحن، يا مولاي، خائفون. خائفون ليس من الغول الاسرائيلي، وإنما من أنفسنا، وليس من وقاحة الذي يقصف المستشفيات واحدة بعد الأخرى، وإنما من الوقاحات الصغيرة في لبنان، وقاحة بلا حدود، وصِغرٍ بلا قعر. نعيش وكأننا في جوار مونتي كارلو، ونتحدث وكأن الجنوب في أميركا الجنوبية. ما أبشع هذه الهموم والقضايا التي نطرحها على شعب يرتعد من الخوف. الخوف من كل شيء، وخصوصاً من ظلّه، الذي يهرب من مكانٍ إلى مكان. كان كل واحد منا يقول في نفسه: لقد انهار كل شيء، وبقي الجيش، والجيش لن يقربه أحد. فإذا أصحاب الوباء يصرّون على نقله لكي يصبح الدمار تاماً.

*نشرت في جريدة النهار 15 تشرين الثاني 2023

Leave a Comment