محمد قدوح
بيروت 22 تشرين الثاني 2024 ـ بيروت الحرية
ليس أمراً طبيعياً أن تدخل مركزاً لإيواء النازحين يضم حوالي 100 شخص من دون أن ترى فية حركة لافتة ، أو تسمع أصواتاً تأتي من كل الاتجاهات، خصوصاً وأن العشرات منهم يجلسون على جوانب ملعب المدرسة ، كباراً وشباباً مع بعض الأولاد. ظننت للوهلة الأولى أنهم في حال حداد على شهيد تبلغوا للتو خبر وفاته.
حدقت في تعابير الوجوه، وفي نظرات العيون، رأيت وجوهاً خالية من التعابير ونظرات شاردة نحو اللامكان، وحركة شفاه تشير الى النطق بكلمات قليلة بالكاد تكون مسموعة عند الاقتراب منهم، لم اجروء على السؤال عن سبب هذا الهدوء ، وعن احوالهم واحتياجاتهم ، لأننى افترضت أن بعضهم يمكن أن يكون قد فقد فردآ من عائلته أو اكثر، أو دُمر منزله، أو فقد مصدر رزقه. افترض، بل أعرف أيضاً أنهم اقتلعوا من جذورهم وباتوا معلقين في الفضاء دون ستر يسترهم، وقد أنكشف حالهم وهم الذين كانوا (سلاطين مكفيين) في بيوتهم وارضهم.
تشير تعابير الوجوه الجامدة والنظرات التائهة إلى أنهم في حال ذهول. لم يصدقوا ما حلَّ بهم، وهم في حال أقرب ما يكونون إلى الانفصال عن الواقع، يسيطر عليهم الحزن الذى فاق قدرتهم على التحمل. ربما لهذا السبب يسيطر هذا النوع من الهدوء وندرة الكلام، وذلك بعد أن ملّوا انتظار مد اليد إليهم، واحتضانهم من قبل الدولة، واعانتهم على مواجهة الواقع، كما ملّوا من المجتمع الدولي الذي خذلهم في تطيبق القوانين والمواثيق الدولية التي يُفترض أن تحمي المدنيين وممتلكاتهم خلال الحروب.
سألت سيدة كيف تمضين يومك؟ اجابت بأنها عندما تشعر بالفقد نتيجة الابتعاد عن المنزل والارض، ابحث عن فكرة غالباً ما تكون حول ما يمكن أن تفعلة فيما لو كنت في منزلي وافكر فيها يوما كاملاً، وكلما زاد الفقد ـ تزاحمت الافكار إلي حدود الضياع، فأحاول عبثاً النوم حتى ينهكني التعب .
رجل خمسيني ظن أنى أسأل عن احتيجاتهم، قال كل ما احتاجة هو أن احتضن بيتي، الشارع ، البلدة ، الجنوب كله، وأنام ملء جفوني. لا اريد مساعدة من احد. اريد فقط أن اكحل عيناي بجمال الجنوب وأهله. أن اعيد الوصل مع جذوري هناك. تدخلت سيدة أخرى فقالت: كلما اشعر أن العودة لا زالت بعيدة أصاب بحال من القلق لا تحتمل، فأتمنى الموت، الموت افضل من أن نبقي معلقين بحبال الهواء.
يُستنتَج من هذه الملاحظات ومما قاله هؤلاء الأشخاص، أن الكثير من النازحين يعانون حالاً من القلق يختلف مستوى حدته بين شخص وآخر بحسب ظروفه وتجاربه الشخصية. ويرجح أن تكون حدتها منخفضة لدى الاشخاص الذين سبق لهم وتعرضوا لظروف مماثلة في حروب سابقة، ويمكنهم تجاوز مشاعر الخوف ونوبات الهلع والتوتر الانفعالي من دون أن يعني ذلك أن هذه المشاعر ليست موجودة لديهم، فهي يمكن أن تستحضر بقوة في حال حصول محفزات مفاجئة تستثيرها، مثل اصوات قوية بشكل فجائي وغير ذلك مما يشبهها.
لكن الواضح أن هؤلاء الاشخاص يعانون من نوعين من القلق:
الأول، هو قلق الانفصال، وهو اضطراب يتميز بوجود قلق مفرط لدى الاطفال من الانفصال عن الوالدين، او الآخرين ممن يتمتعون بأدوار أبوية ، لكن هذا النوع من القلق فيما خص حال النازحين يتعلق بالانفصال عن الأرض، حيث تنغرس جذورهم عميقاً في داخلها، وبما يعادل الحماية من كل خطر يهدد الحياة .
النوع الثاني من القلق الاجتماعي أو الرهاب الاجتماعي يتمثل بتجنب المواقف الاجتماعية التي تسبب لهم الاحراج و القلق من أن يصدر عن الآخرين مما يقلل من قيمتهم أو أن يُنظر إليهم بشكل سلبى.
المرجح، أن النازحين وغير النازحين يعانون من قلق الانفصال عن الأرض بسبب تواتر المعلومات عن خطط لتهجيرهم، لكن تبقى صحتهم النفسية رهن إطالة مدة النزوح، حيث تكون حياتهم النفسية والاجتماعية تكون مرشحة للمزيد من التعقيدات والمعاناة.
Leave a Comment