كثيرة هي الحروب المندلعة في المنطقة التي لم تعد محصورة بكيان أو دولة، ولا تقتصر المعارك فيها على موقع أو ميدان بعينه. وأكثر من تحصى التهديدات والإستفزازات المتبادلة، مباشرة أو عبر أدوات وأذرع تابعة. كما هي متسلسلة حوادث الإصطدام المقصودة لذاتها والتي تتوزع بين قصف قواعد عسكرية ومخازن أسلحة، أو تفجير بواخر راسية واسقاط طائرات مسيّرة، إلى احتجاز ناقلات نفط. يجري ذلك كله بالتزامن مع منازعات سياسية ــ اقتصادية دولية وإقليمية كبرى، تتضمن حصاراً وعقوبات وحجز أموال ومنع تصدير واستيراد وتجميد استثمارات وتعطيل اتفاقات استراتيجية تطال أكثر من دولة. وهي مرفقة باطلاق شتى منوعات التهديد والوعيد وتبادل الانذارات، في إطار اختبار فعالية عمليات تحشيد القوى الحربية الضاربة، المعززة بالاساطيل وحاملات الطائرات والاسلحة الاسترتيجية. أما رايات الحروب المتداخلة ومعاركها المتدحرجة فتتراوح بين ادعاء مكافحة الإرهاب والأصولية ووقف التدخل في شؤون البلدان الأخرى، إلى منع امتلاك الأسلحة النووية والصواريخ البالستية وصولاً إلى إقامة السلام وتعميم الديمقراطية لمن يصدق.
هذه حال المنطقة بكاملها، وبصرف النظر عن تبدل الخبر الاول في وسائل الإعلام التي تننافس على تكرار بثه، مرفقاً بتحليلات تدعي الموضوعية أو تمارس التعمية، تغليباً لوجهة في قراءة ما يجري او لتوجيه رسائل. لذلك بات مستحيلاً راهناً، النظر لبلدان المنطقة على نحو معزول أو مستقل، نظراً الى حجم التداخل بين أزماتها المتواصلة وتشابك قضاياها، في ظل الحروب التي تعصف بها جميعا وتهدد وجودها ومصير مجتمعاتها.
فالناظر إلى المعارك المتنقلة في الساحة السورية وتشابك القوى المتدخلة فيها، لا يمكنه تجاهل مثيلاتها في ليبيا واليمن، ومضاعفات مشاركة السعودية والامارات فيها، أو دور قطر التي تموّل متفرعات تنظيم الاخوان المسلمين اينما وجدت، في مقابل قلق الاردن وتغطية مخاوف الكويت وعمان بدور الوساطة، واستحالة غض النظر عن انقسامات العراق وممارسات الميليشيات المذهبية ومشاريع الاستقلال الكردية وما ترتبه من معارك واكلاف. والحاضر في كل ما يجري هو سياسات ومصالح كل من إيران وتركيا في مختلف ساحات بلدان المشرق العربي وسعيهما لفرض السيطرة والهيمنة عليها. علماً أن نظامي البلدين لا يكتفيان بتدخلاتهما في سوريا والعراق وليبيا واليمن، بل يتلاعبان بدواخل البلدان الأخرى، بما فيه قضية فلسطين ووحدة شعبها وحقوقه الوطنية، مروراً بلبنان المنقسم والمسترهن للخارج، وصولاً إلى مصر وتونس وغيرها من الدول التي تشهد نزاعات.
لقد تحول المشرق وبعض المغرب العربي والخليج بأكمله ساحة مفتوحة يتداخل فيها الوطني بالاقليمي والدولي، وتختلط فيها وحولها القضايا والملفات المتفجرة، وتحضر كافة عوامل الاتصال والانفصال من الموروث القومي والاثني والعرقي والعشائري والقبلي والديني والمذهبي بكل تجلياته، لتوظيفها في تسعير مسارات التفكيك والدمار تمهيداً لاعادة رسم خرائط المنطقة.
وما يسهّل ذلك أن النظم الحاكمة ومع انفجار أزمات مجتمعاتها وكياناتها المتشابهة والمتداخلة والمتصلة في آن، أصبحت أدوارها الرئيسية تغطية ارتهانها للخارج وتلبية طلباته، كي يتولى حمايتها ويدعم استمرارها، في مقابل استباحته لمقدرات بلدانها ونهب مواردها. والخارج يتجاوز ايران وتركيا، ويشمل أصحاب المصالح القادرين على التدخل، خاصة الدول الكبرى حيث تطلعاتها للهيمنة السياسية والسيطرة تبقى الحاضر الدائم لضمان مصالحها الاقتصادية المتعددة من الموارد والأسواق والإستثمارات، وهذا ما يقرر سياساتها وأدوارها.
وفي هذا السياق تجهد دول اوروبا خاصة فرنسا والمانيا وبريطانيا، للاعتراف بها شركاء، في مقابل تدخل روسيا لتثبيت مواقع نفوذ لها في المنطقة وتكريس دورها في تقرير مصيرها، بينما تحتل الولايات المتحدة موقع القيادة والإدارة المتدخلة في كافة النزاعات والحروب والأزمات مما يمكنها من لعب دور المقرر الرئيسي في استمرار الحروب وصولاً إلى عقد التسويات و تحديد طبيعتها عندما يحين أوانها، بما يكفل لها القسط الأهم من المغانم والنفوذ والسيطرة، حيث لا عداوات مطلقة لدى ادارتها الحالية، ولا حلفاء أو شركاء مقدّسون، بينما تبقى اسرائيل الثابت الوحيد الذي تعمل لأن تصبح شريكا مقرراً في أزمات ومصير المنطقة.
ولأن الأحلاف والتحالفات والجبهات والمحاور، لا تقرأ إلا بصفتها شراكات متنافسة ومتنازعة ومتحاربة في أن واحد، فقد بات الناظر راهناً لخارطة المنطقة يرى لوحة سوريالية اختفت منها الحدود الرسمية للكيانات والبلدان، وبات وجودها يقتصر على الخرائط الرسمية المعتمدة في ارشيف الامم المتحدة، بما فيها ما هو موضع نزاع بينها منذ إعلانات تشكيلها أو تأسيسها عبر اتفاقات سايكس بيكو وما تلاها. أما حدود الأمر الواقع فإنها ترسم كل يوم بالدم والدمار ومن خلال خطوط جبهات المعارك المتنقلة، التي تدور بين الجماعات المسلحة والميليشيات التابعة وبقايا “الجيوش الوطنية” والقوى المشاركة الاقليمية والدولية المتدخلة في الميدان والمنتشرة في المواقع المتقابلة، سواء على جبهات القتال أو في قواعد ثابتة واساطيل متجولة تستعرض ما تمتلكه بلدانها من وسائل القتل والدمار.
وبما أنه لا يمكن فصل السياسي والاقتصادي عن الميداني العسكري لأنهما يشكلان وحدة متكاملة، فإن تبدل الجبهات المشتعلة، واحتدام المعارك فيها، يستند إلى جداول مصالح القوى المشاركة، وخرائط الطرق المرسومة من قبلها والخطط التي تقربها من تحقيق أهدافها، وما تنطوي عليه من تكتيكات ظرفية ومناورات، يسعى كل طرف عبرها أن يكون في موقع الشراكة في القرار، عندما يحين آوان التسويات والحلول التي لا تزال في علم الغيب، والذي لا تكشف خباياه كثرة المؤتمرات والقرارات. لأن الحروب لا تتوقف إلا عند استنفاذ وظائف اندلاعها واستمرارها بالنسبة للمشاركين فيها والمستفيدين منها الذين وحدهم يستطيعون تقرير موعد وصيغة نهايتها. أما المرتَهنون لهؤلاء فليس أمامهم سوى تلبية الطلبات وانتظار ما سيقرر لهم.
حتى ذلك الحين فإن من يدفع الخسائر والأكلاف هي البلدان وشعوبها، التي تواجه دمار كل ما راكمته مجتمعاتها من عمران انساني وحضاري واقتصادي، والتي تتعرض كياناتها الوطنية التي قامت منذ ما يقارب المائة عام للتفكك وخطر التقسيم، وهي التحديات التي تواجه المتضررين من شعوب ومجتمعات، المعنيين بالمطالبة بوقف مسارات القتل والتهجير والدمار وأصحاب المصالح الوطنية والقومية والانسانية للعمل على بناء مسارات معاكسة تبعث الأمل لدى مجتمعاتنا بأمكانية الخلاص وتشركها في تقرير مصيرها ورسم آفاق مستقبل بلدانها.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب سياسي لبناني[/author]