مجتمع

المشهد من أمكنة النزوح: ديناميكيّات السكن في صور وعالية

الحرب الإسرائيلية 2023: مصائر الأهالي ومسارات المواجهة في لبنان

عمل ميداني: المهندس عماد عامر والعاملة الاجتماعية سارة خليل
بحث وكتابة: كريستينا أبو روفايل 

2023/12/05

منذ بداية العدوان على غزة، الذي ترافق مع اعتداءات إسرائيلية متواصلة على لبنان من خلال القصف والغارات واستخدام القذائف الفوسفورية أو القنابل المضيئة والحارقة، وحتى 12 تشرين الثاني 2023، استهدف القصف الإسرائيلي أكثر من 60 بلدة في جنوب لبنان. وقد كان لهذا العدوان تأثير مباشر على البيئة المبنية والطبيعية وعلى حياة سكان البلدات المستهدفة. وقد تمّ ضرب مقوّمات الحياة والعيش المحلية البيئية والثقافية والزراعية للسكان، ممّا أجبر عشرات الآلاف من سكان الجنوب على النزوح إلى مناطق تُعدّ أكثر أماناً في لبنان.

عقب اتساع نطاق الاعتداءات جنوباً ومعها تصاعد حركة النزوح، كان لا بدّ من معاينة المشهد من المناطق التي شكلّت وجهةً للنازحين/ات، بالأخصّ في مجال السكن: إلى أين نزح الجنوبيين/ات؟ وكيف سكنوا/ن؟ في سياق هذا المقال، نستعرض  نظرة شاملة عن وجهات النزوح وديناميكيات السكن وتأثير النزوح على أسعار الإيجارات فيها، لنعود ونركّز على مدينة صور وقضاء عاليه. وقد ارتكزنا في بحثنا هذا، على الأرقام المتوفّرة عن النزوح الصادرة عن المنظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، إضافةً إلى عمل ميداني في كلٍّ من مدينة صور وقضاء عاليه، إلى جانب مجموعة من المقالات المتاحة التي تناولت هذا الموضوع وتضمنّت أرقاماً متعلّقة بأسعار الإيجارات. نركّز أخيراً على دور السلطات العامة ومسؤوليتها في الحدّ من الاستغلال الذي يطال النازحين/ات ويزيد من هشاشتهم/ن.

أهالي الجنوب في أماكن نزوحهم

مع بدء الاعتداءات الاسرائيلية والتصعيد العسكري على الحدود الجنوبية، لم يكن أمام سكان المناطق الجنوبية سوى ترك بلداتهم ومنازلهم والتوّجه إلى مناطق أكثر آماناً. فقد بلغ العدد الإجمالي للنازحين/ات، بحسب الأرقام الأخيرة لمنظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، الصادرة في 21 تشرين الثاني، حوالي 55,491 شخص1، علماً أنّ هذا الرقم ارتفع في الأيام الأخيرة حوالي 111%2. في ظلّ هذا النزوح الكبير والمتفاقم، نعود ونسأل، كيف سكن/ت النازحين/ات في المناطق التي لجأوا/ن إليها؟

كانت المناطق الآمنة الساحلية أو الجبلية المقصد الرئيسي للنازحين/ات، بالأخصّ المناطق المسيحية والدرزية، فقد كان البحث عن شقق للإيجار يحكمه توفّر “بيئة حاضنة” للنازحين/ات، ما يضعهم أمام خياراتٍ محدودة. هذا الواقع جعل من مناطق الجبل، المحسوبة على الحزب التقدمي الاشتراكي، مقصداً أساسياً للراغبين في الاستئجار خصوصاً بعد مبادرة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط للإعلان عن مباشرته اجتماعات لتحضير الجبل والشوف لاستقبال النازحين في حال حصول عدوان على لبنان3 . من جهة أخرى، لجأ العدد الأكبر من العائلات (46%) إلى المناطق الجنوبية التي ما زالت آمنة حتى الآن (قضاء صور وقضاء النبطية)4، بسبب قرب هذه المناطق من قرى الشريط الحدودي ووجود بعض المراكز المخصصة للإيواء5. بالفعل، تبيّن الأرقام المتوّفرة6، أنّ قضاء صور هو القضاء الذي استقبل العدد الأكبر من النازحين/ات (16,990)، يليه قضاء النبطية (8,191)، بيروت (6,113)، صيدا (5,903)، ثمّ عاليه (3,146)، بعبدا (2,555)، وصولاً إلى بعلبك (2,433)، الشوف (1,863)، حاصبيا (1,603)، إلخ.حالياً، وبحسب الأرقام المتوفّرة7، يعيش حوالي 71% من النازحين/ات مع عائلات مضيفة، في حين أن 23% استأجروا مساكن في المناطق التي نزحوا إليها (37% في البقاع، 49% في جبل لبنان، 25% في الشمال، 32% في بيروت، 16% في الجنوب، إلخ)، وانتقل 3% منهم إلى مساكنهم الثانوية. في المقابل، تعيش نسبة منخفضة، بلغت حوالي 2%، في المراكز المخصصة للإيواء، إضافةً إلى 1% يسكنون في مبانٍ غير مكتملة.

وبحسب المستشار العقاري أحمد الخطيب ينقسم النازحون/ات إلى 3 فئات8:

  • النازحون/ات الميسورون/ات: بعضهم يريد السكن في منازل فخمة أو الإقامة في فيلات؛ يقصدون مناطق مثل بيت مري، بعبدات، برمانا، بحمدون، حمانا، فالوغا، بعلشمي، والعبادية.
  • النازحون/ات من الطبقة الوسطى: يطلبون استئجار شقة سكنية متوسطة أو صغيرة الحجم للإقامة فيها لمدة شهر قابل للتجديد لمدة 3 إلى 6 أشهر؛ يقصدون مناطق مثل خلدة، الشويفات، عرمون، والدامور.
  • النازحون/ات الفقراء: ينتظرون إيوائهم في المراكز المخصصة للإيواء أو لدى عائلات مضيفة.

وعند النظر في بدلات الإيجار، تُبيّن الأرقام ارتفاعاً ملحوظاً في بدلات الإيجار في المناطق المختلفة لتتجاوز أحياناً أسعار موسم الصيف، وذلك بسبب ارتفاع الطلب على المساكن من قبل العائلات النازحة. بالتالي، يستغلّ المالكون وأصحاب المكاتب العقارية والسماسرة الوضع لرفع الإيجارات بشكلٍ جنوني، ويدّعون أن السبب هو أنّ هذه الإيجارات هي إيجارات مؤقتة أو موسمية.

فقد تضاعفت الإيجارات في منطقة بيروت، ما أدّى إلى زيادتها بنسبة تتراوح بين 100% إلى 200%. بشكل مماثل، في منطقة عاليه، ارتفعت الإيجارات بنسبة 100% إلى 200%، وفي بعض الحالات، أكثر من ذلك. وقد كانت أسعار الإيجارات أعلى في مدينة عاليه والمناطق المحيطة بها، نسبةً للبلدات الأخرى في هذا القضاء، كالشويفات وبشامون وعرمون. يجدر الإشارة هنا أنّ أسعار الإيجارات تتأثر بلا شكّ بمواصفات الشقة، بما في ذلك ما إذا كانت مفروشة، وحجمها، وغيرها من الميزات. كما ارتفعت الإيجارات في قضائي بعبدا والمتن بنسبة 100%. مع ذلك، يبقى الطلب على الإيجارات في المتن منخفضاً نسبياً. وفي محافظة الجنوب والنبطية ارتفعت الإيجارات أيضاً بنسبة 100% إلى 200%.، أمّا في عكار والشمال، فقد ظلّت أسعار الإيجارات مستقرة نسبياً مع زيادة طفيفة، حيث لا تعتبر هذه المناطق ضمن الوجهات الرئيسية للنازحين/ات.

تأثير النزوح على الإيجار في قضاء عاليه 

مع بداية الاعتداءات الاسرائيلية على الجنوب، وبالتحديد في الأسبوعين الأولين، زاد الطلب بشكل كبير على الشقق في الجبل بكافة مناطقه لكون مناطق الجبل تعتبر مناطق آمنة، وذلك بهدف توفير شقق للعائلات النازحة من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت. عاد وانخفض هذا الطلب بشكلٍ كبير بعد خطاب الأمين العام لحزب الله في 3 تشرين الثاني، الذي تزامن مع انخفاض الضربات الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية بشكلٍ ملحوظ بين 4 و7 تشرين، لتعود وترتفع بعدها9. فإذا كانت الأرقام المرصودة عن أعداد النازحين/ات دقيقة، يتبيّن أنّ خلال هذه الفترة انخفض عدد هؤلاء في قضاء عاليه من 3,302 إلى 1,622 نازح/ة، ليعود ويرتفع بعدها10. بكلّ الأحوال، ساهم تزايد الطلب على المساكن في المنطقة إلى زيادة بدلات إيجار الشقق بنسبة 100% (الضعف) إلى 150% لتصل الإيجارات إلى 800 و1000 دولار أمريكي شهرياً بعد أن كانت بين الـ300 و 400 دولار أمريكي11. كما وصل إيجار الشقق أو البيوت المفروشة والواسعة التي تضمّ 3 إلى 4 غرف نوم بالإضافة إلى خدمات أخرى كنظام الطاقة الشمسية إلى 2000 دولار أمريكي شهرياً.

وفقاً للقاءات مع 4 سماسرة وعاملين/ات في قطاع العقارات في عاليه وبعض من سكان المنطقة من بلدتي بيصور وكيفون بين 6 و13 تشرين الثاني 2023، امتاز سوق تأجير المساكن بفوضى عارمة دون وجود قاعدة واحدة للتعامل، بحيث التزم العديد من المالكين بأسعار الصيف12 دون طلب زيادات، بينما اعتبر آخرون أنه باستطاعتهم طلب مبالغ أعلى، بحيث ارتفعت بدلات إيجار الشقق بشكل سريع، وقد غيّر بعض أصحاب الشقق الأسعار المطلوبة ثلاثة مرات في اليوم عينه، لتصبح الأسعار بين 1500 و2500 دولار أمريكي للشقق الكبيرة وذات المواصفات العالية.

وقد كانت أغلب الإيجارات شهرية وفي بعض الأحيان انحصرت مدّة الإيجار بثلاثة أسابيع فقط. كما لا يتمّ تسجيل عقود الإيجارات بشكلٍ رسمي في البلديات. وفي الكثير من الأحيان، لم ينتقل النازحون/ات إلى هذه الشقق بل استأجروها على الهاتف وحوّلوا الأموال اللازمة،  واستلم بعضهم مفاتيح الشقق فقط، لتكون هذه المساكن خطةً بديلة وملاذاً آمناً لهم في حال تطور الأوضاع الأمنية. بالفعل، يقول أبناء بيصور، على سبيل المثال، أنّهم سمعوا عن موجات واسعة لتأجير شقق في المحلة، لكنهم لم يشاهدوا وجوه جديدة من النازحين/ات في البلدة وشوارعها. وبحسب السماسرة، إن غالبية النازحين/ات الذين استأجروا في مدينة عاليه أو القرى المحيطة بها مثل شانيه، مجدلبعنا وبيصور، هم من العائلات المقتدرة التي كانت تطلب مواصفات معينة للشقق (مساحة كبيرة، شقق مفروشة، نظام طاقة شمسية، إلخ)، حتى أنّه طُلب تأمين ثلاث فيلات في عاليه. يجدر الإشارة هنا، أنّ العائلات المقتدرة عادةً ما لا تتسجّل في البلديات كعائلات نازحة، رغم وجود تعاميم لدى البلديات لتسجيل النازحين/ات.

وفي بلدة كيفون، على سبيل المثال، لا تتوفّر الكثير من الشقق المتاحة للإيجار، وبعض هذه الشقق مؤجر لعائلات سورية منذ عدّة سنوات. فمع بداية العدوان على الجنوب، سافرت العديد من العائلات إلى الخارج، وتركت شققها ومساكنها لأقاربها في الضاحية أو في الجنوب ليأتوا ويسكنوا فيها في حال تطور الأوضاع الأمنية. مع ذلك، تم تأجير بعض الشقق التي هي معدة أصلاً للإيجار في فترات الصيف لبعض العائلات النازحة.

يُذكر أنّ بعض المالكين يرفضون تأجير شققهم أو يعلّلون طلب بدلات إيجار خيالية، بعدم القدرة على تحديد عدد العائلات أو الأفراد التي يمكنها السكن في المسكن الواحد واستخدامه، ما قد يعرّض ممتلكاتهم للخطر بحيث لن يكون بإمكانهم المحافظة على المقتنيات داخل المساكن من الاستهلاك المفرط، وفي حال وقوع الحرب، لن يتمكنّ المالكون من إخلاء الشقق بالوقت المحدد أو تحصيل الإيجارات في حال عدم خروج المستأجر. من ناحيةٍ أخرى، يستغل السماسرة هم أيضاً الوضع، وفي بعض الحالات يعرضون على المالك المتردد دفع إيجار خمسة أشهر مقدماً لإقناعه بالتأجير.

تأثير النزوح على الإيجار في مدينة صور 

تعتبر مدينة صور والقرى المجاورة لها من المناطق الأساسية التي تستقبل العائلات النازحة لكونها تعتبر آمنة حتى الآن، وتتوفر فيها مراكز إيواء. كما تقصد العديد من العائلات صور بسبب رغبتهم بالبقاء على مقربة من بيوتهم ضمن الجنوب، خصوصاً أنّهم لم يتمكنّوا من أخذ مقتنياتها معهم عند النزوح، أو تركوا أحد أفراد عائلتهم من من لا يرغبون بمغادرة قراهم، إضافةً إلى أنّه حالياً يصادف موسم الزيتون. بالتالي وجودهم في صور يمكنّهم من زيارة منازلهم، أقربائهم ومحاصيلهم وكرومهم عندما تسمح الظروف والحصول على الأغراض التي يحتاجونها بسهولة.

بحسب مقابلة مع عضو اتحاد بلديات صور ورئيس بلدية برج رحال، الأستاذ حسن حمود، المَعني بموضوع الإعلام في وحدة إدارة الكوارث، في 27 تشرين الأوّل، تم تفعيل وحدة إدارة الكوارث في قضاء صور. وقد تمّ تأسيس هذه الوحدة عام 2010، وهي مؤلفة من عدد من الفاعلين والعاملين في القطاعات الإنسانية والتي سبق أن واجهت جائحة كورونا والحرائق وغيرها من الأحداث، وهي على تنسيق مع “فريق المستجاب الأول” الموجود في كلّ بلدة ومع البلديات التابعة للاتحاد. قامت هذه الوحدة بالتواصل مع محافظ الجنوب لفتح مراكز إيواء للنازحين/ات، وتم فتح عدّة مراكز في صور وهي: مدرسة صور الفنية (المهنية)، تكميلية صور الرسمية الثانية (تكميلية حسن فران)، تكميلية البنات (تكميلية عفّت بزي)، الجامعة الألمانية في برج الشمالي. منذ اليوم الأول، بدأت الوحدة تبحث عن جهات لتقديم التجهيزات لهذه المراكز (مراتب، طعام، مواد غذائية، حليب للأطفال وحفاضات، أدوات النظافة الشخصية)، ومن بين هذه الجهات،  مجلس الجنوب، الهيئة العليا للإغاثة، المنظّمات الإنسانية المحلية والجمعيات (UNICEF، NRC، Save the Children، UNDP، UN Habitat، SHIELD، مؤسسات الإمام الصدر)، ووزارة الشؤون الاجتماعية.

لا تملك هذه الوحدة معلومات عن تأجير البيوت للنازحين/ات في قرى صور حتى الآن. فالعائلات النازحة تسكن بضيافة أهلها ويقوم الخيّرين بمساعدتها من خلال تقديم الغذاء والدواء وغيره، بالإضافة إلى مساهمة إتحاد بلديات صور بتأمين جزء من احتياجاتها. من جهةٍ أخرى، يعتبر عضو اتحاد بلديات صور ورئيس بلدية برج رحال أنّ الإيجارات هي عرض وطلب، بالتالي بالنسبة له، لا يمكن لأي بلدية بأن تضع شروطاً على عملية التأجير أو أن تلزم صاحب ملك بشيء في هذا الخصوص، ويُضيف أنّه لا وجود لظاهرة الإيجارات المرتفعة واستغلال النزوح في صور، بذا، لم تضع البلدية أو الاتحاد أي خطة لمواجهتها. فقد سمع عن حالة في منطقة الحوش طلب فيها المالك سعراً مرتفعاً للإيجار، لكنه يعتبر أنّ هذه الحالة ليست معممة. بالمقابل، هناك بعض العائلات المقتدرة قامت باستئجار الشقق بأسعار مرتفعة في الأيام الأولى من بدء الاعتداءات ومعها بدء حركة النزوح. أمّا العائلات غير المقتدرة التي أتت بحثاً عن مكان آمن لتحتمي فيه، فتأمن لها، إما من خلال السكن في المدارس التي تستخدم كمراكز مخصصة للإيواء، أو من خلال السكن بضيافة سكان قرى وبلدات صور، نظراً لصعوبة العيش في المدارس الغير مجهزة أو مناسبة تماماً للسكنهم.

لكن المشهد بدا مغايراً بالنسبة للعائلات النازحة التي قصدت صور وحاولت البحث عن مساكن للإيجار فيها. فوفقاً للقاءات أجريناها بين 6 و13 تشرين الثاني مع ثلاث عائلات نازحة من الناقورة إلى مدينة صور، تفاجأت هذه العائلات بأسعار الإيجارات المطلوبة في صور وجوارها. وقد توجّهت عائلتان من الثلاث إلى بيروت وبقيت هناك حتى نهاية شهر تشرين الأوّل، فيما نزحت العائلة المتبقية إلى صيدا بدايةً، حيث كان إيجار الليلة الواحدة في صيدا 50$، ثمّ عادت هذه العائلات جميعها ولجأت إلى مدينة صور، كونها تُعتبر منطقة آمنة وأقرب إلى الناقورة.

وقد وصلت أسعار الإيجارات في صور إلى حدود 1200 و1600 دولار أميركي للشقق “المرتّبة” أي الفخمة والكبيرة، والبعض الآخر بين 700 و750 دولار أمريكي للشقق الكامنة في مبانٍ قديمة، خصوصاً أن هذه العائلات لا تملك مصدراً للمدخول، بالتالي لا تستطيع تحمّل عبء الإيجار. واعتبرت العائلة التي نزحت بدايةً إلى صيدا أن وضع الإيجارات أفضل و”أرحم” في صيدا. وشدّدت العائلات الثلاث على أن تعامل المالكين مع النازحين/ات كان متبايناً، ففي حين يستغلّ بعض المالكين الوضع، عُرضت الشقق مجاناً على النازحين/ات في عين بعال على سبيل المثال وفي منطقة الحوش في صور. كما يجدر الإشارة إلى أنّه في القرى المحيطة بصور كالعباسية، الصرفند، البابلية وغيرها، تُقدَّم بعض الخدمات مجاناً للنازحين/ات (كخدمات الإنترنت، أو خدمات المولد الكهربائي).

نتيجةً لارتفاع أسعار الإيجارات، لم تستطع إحدى العائلات استئجار منزل، فسكنت بضيافة أقارب في عيتيت. بينما استطاعت العائلتان الباقيتان، وبعد البحث عن شقة كبيرة تستطيع استيعابهما معاً وتحول دون تفريقهما، إيجاد بيت كبير يضمّ ثلاث غرف نوم، صالون، غرفة جلوس، مطبخ، وغرف نوم في الطابق العلوي في مدينة صور، مقابل 900 دولار أميركي وهو سعر لا يشمل نفقات الخدمات. علماً بأنّه عُرضت عليهم بعض الشقق مجاناً، لكنهم لم يقبلوا، لترك المجال أمام العائلات غير القادرة مادياً، وكون وضعهم المادي مرتاح نسبيّاً. تعتبر هاتان العائلتان أنّه “بالنسبة للبيت الذي نسكنه الآن فالسعر مناسب مقارنةً بالأسعار المطروحة في غير أماكن، ونحن ذهبنا ورأينا بيوت بال٨٠٠$ غير مرتبة وصغيرة جداً. ولكن بعيداً عن المقارنة، فنعم إيجار البيت غالي وليس برخيص”. وقد تمّ إيجاد هذا المنزل من خلال معرفة شخصية بين صاحب المنزل وأقارب هاتين العائلتين، وهو ما دفع المالك للمحافظة على الإيجار كما كان عليه قبل بدء النزوح، كما لم تُفرض أي نوع من أنواع الشروط عليهم من قبله.

من خلال تواصل هذه العائلات مع عددٍ من السماسرة قبل الاستقرار في منزل، تبيّن وجود عدد من الشروط المجحفة التي تُفرض أحياناً على العائلات النازحة، فبعض المالكين يجبرون المستأجرين على إشتراك مولد كهربائي 5 أو 10 أمبير مع استئجار الشقق، ما يزيد أعباءاً إضافية على العائلات النازحة قد تصل إلى 300 دولار أمريكي بسبب رفع بدل الإشتراك، كما توضع شروط متعلّقة بفترة الإيجار التي يشترط البعض أن تكون شهرين أو حتى ثلاثة أشهر، ويُطلب دفع عمولة للسمسار بحسب قيمة الإيجار (ما يساوي كامل قيمة بدل الإيجار لشهر واحد، أو نصفها). كما يضع المالكون شروط حول عدد الأفراد في الشقة الواحدة، أو حول عدم استقبال الأولاد، ويُطلب من النازحين/ات دفعات مقدماً لثلاثة أشهر قد تصل إلى ستة أشهر، علماً بأن مثل هذه الشروط لم تفرض فقط في صور، بل فُرضت في مناطق مختلفة في لبنان.

بشكلٍ عام، تواصلت هذه العائلات فردياً مع السماسرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لطلب شقق للإيجار أو استطاعت إيجاد منزل للإيجار بمساعدة الأقارب. وقد قامت عائلة نازحة بتعبئة استمارة نزوح لدى البلدية، لكنّها لم تتلّقى بعد أي نوع من الدعم من أي جهة كانت. بالمقابل، لم تتواصل أي جهة رسمية (البلدية) أو جمعية مع العائلات الأخرى، خصوصاً أنّه من المرجح أن أحداً لا يعلم بوجودها، كونها وجدت منزلاً للإيجار بشكلٍ فرديّ ودون اللجوء إلى أي جهة كانت.

في المحصّلة، شكّلت الإيجارات المرتفعة عائقاً أمام العائلات النازحة لإيجاد منزل مناسب، واضطر بعضها إلى اللجوء إلى الأقارب في المنطقة بعد بحثٍ مضنٍ على مسكن دون نتيجة. فلم يتمّ مراعاة ظروف العائلات النازحة بل تمّ استغلال الطلب المتزايد على الشقق لرفع أسعارها. تقول إحدى النازحات: “كأن الحرب علينا بس نحن المناطق الحدودية، حرام استغلال رهيب”، “فليس من المبرر أن يقوم أهل صور والحوش بهذه الممارسات كون الموضوع موضوع إنساني، بحيث نشهد اختلافاً كبيراً في تعاطي بعض أهل صور مع النزوح وتعاطي أهل القرى المجاورة”، كما قالت أخرى.

ضبط الإيجارات والحدّ من التمييز

يتجاهل المسؤولون حالياً مسألة الإيجارات المرتفعة وغالباً ما يزعمون بأن أسعار الإيجارات خاضعة للعرض والطلب. وقد أدّى ذلك إلى قيام العائلات المقتدرة باستئجار الشقق بأسعار مرتفعة فيما تواجه العائلات النازحة الأخرى صعوبات في العثور على سكن، أو تُجبر على القبول بخيارات لا تتلاءم مع حاجاتها. بالمقابل، وفي ظلّ الوضع الاستثنائي، لا يوجد حتى الآن أي جهد رسمي لمراقبة رسوم الإيجار.

غير أنّه وفي خطوة غير مسبوقة، أصدر محافظ النبطية بالتكليف تعميماً في 20 تشرين الأوّل للقائمقامين والبلديات ومخاتير القرى التي لا يوجد فيها بلديات ضمن محافظة النبطية، يطلب منهم فيه مكافحة ظاهرة استغلال أصحاب الوحدات السكنية واعتماد تدبير استثنائي يقضي بتحديد السعر العادل للتأجير المؤقت للنازحين/ات وتفعيل دور شرطة البلدية لتطبيق ذلك. وقد كان واضحاً ضمن التعميم أنّ النزوح أدّى إلى انتشار ظاهرة الارتفاع الفاحش لأسعار تأجير أو استثمار الوحدات المعدة للسكن، ما ينبئ، وبحسب ما ورد في التعميم، “بانعدام الحسّ الإنساني وروح التعاضد وسيادة الاستغلال والاحتكار، ويستوجب التدخل للحدّ من هذا الاحتكار.”

في هذا السياق، وفي ظلّ معاناة الناس عامة والنازحين خصوصاً من الارتفاع الاستغلالي لأسعار الإيجارات، يشدّد المحامي شكري حداد13 على كون “حق الملكية مقدس بموجب الدستور اللبناني، وبالتالي أي مواطن لديه الحق في الاستثمار ولديه أوسع الصلاحيات في ملكيته، المسألة مرتبطة بالعرض والطلب، فلا يمكن ضبط قيمة الإيجار”، ممّا يعبّر عن الخلل المزمن في رؤية لبنان للحق في السكن. في المقابل، فإنّه يؤكد على مسؤولية الدولة، لكن في حالة واحدة، ف”عند حدوث تعبئة عامة، يمكن للوزارات أخذ قرارات لإجراء تعميم يمنع الاستغلال تحت عنوان المصلحة العامة. بالتالي توجد ثلاث وزارات أساسية تلعب دوراً بارزاً في هذا الموضوع، هي وزارة المالية لتحديد قيمة التأجير ووزارة الاقتصاد إلى جانب وزارة السياحة لضبط المرافق السياحية”. يُذكر بأن لبنان أعلن التعبئة العامة عند حصول جائحة كورونا، وبأن الوضع الحالي قد يتطلّب إعلانها مجدداً، نظَراَ لاندلاع حرب، وتأثر عدد كبير من السكان والمناطق بها.

من ناحية أخرى، صُدم بعض النازحين/ات بحملات تحريضية طاولت الطائفة الشيعية، وبالتعاطي الطائفي والمذهبي وبأسئلة هدفها معرفة مدى التزام النازحين/ات بالطقوس الدينية، وصولاً إلى رفض تأجير شقق لطائفة معينة في بعض المناطق. حتى المكاتب العقارية، عندما يُطلب منها الاستفسار عن إمكانية استئجار منزل في منطقة ذات هوية دينية مختلفة عن هوية النازحين/ات، إما يتمّ تجاهلها أو يطلب منها قيمة تأجيرية مرتفعة جداً. كما فوجئ البعض بأسئلة عمّا إذا كانوا هاربين من الجنوب وبحملات تدعو إلى عدم استقبال النازحات\ين، وقيل لهم بشكلٍ صريح عن عدم رغبة المالكين بالتأجير لكون النازحين/ات سيأتون بأكثر من عائلة في حال اندلعت الحرب.

يعاني اللاجئات\ون السوريات\ون النازحات\ون من الجنوب هم أيضاً من الإقصاء بشكل مضاعف، بحيث لا يتم شملهم في إحصاءات النزوح، ولا في خطة الطوارئ لإيوائهم. بالنسبة للحكومة، فإنّ المؤسّسات الرسمية لن تكون قادرة على تقديم الخدمات لأعداد كبيرة من النازحين في ظل الأزمة الاقتصادية الحاصلة، ومراكز الإيواء لن تكون كافية للّبنانيين والسوريين على حدٍّ سواء، لكن خطة الطوارئ التي طوّرتها الحكومة، تضع المسؤولية المباشرة عن اللاجئين/ات السوريين/ات على عاتق المنظمات الدولية14. كما تقوم بعض البلديات مثل حاصبيا بمنع اللاجئين/ات السوريين/ات النازحين/ات من السكن في البلدة. وقد ساهم هذا الواقع ببقاء بعض العائلات السورية اللاجئة في الجنوب اللبناني رغم القصف المستمرّ على المنطقة، ما يعرّض حياتهم للخطر من جهة، ويمنعهم من تأمين سبل عيشهم.

المشهد والمتأمَّل

تتراوح إذاً تجارب النازحات\ين اليوم بين الأرقام الخيالية أو الخدمات السيئة، أو الرفض لانتمائهم لطائفة معيّنة، أو تحديد عدد العائلات والأفراد الذين يمكنهم السكن في المسكن الواحد، أو دفع إيجار مقدّم لخمسة أو ستة أشهر، وهي خيارات تشكّل الترجمة التطبيقية لمفهوم العرض والطلب التي تعتبره الدولة اليوم، العنوان الشرعي للوصول إلى السكن.

بشكل أو بآخر، فإن هذه الممارسات متوقّعة، في ظلّ ما نراه من انسحاب تام  للدولة من إدارة أزمة السكن عند كل أزمة أو فاجعة. فمع كلّ ما يحصل، لم يصدر عن المجلس النيابي أيّ نصّ قانوني يضع ضوابط على الإيجارات، كما كانت الحال في ظلّ جائحة كورونا حين تمّ إصدار قوانين تمديد المهل لدفع الإيجار، أو بعد تفجير 4 آب حين تمّ منع الإخلاء لمدّة عام في المناطق المتضررة.

عندما نكون في حالة حرب، لا يمكن أن تقتصر خطة الطوارئ المطروحة على تأمين مراكز مخصصة للإيواء في المدارس وغيرها من المواقع، بل لا بد من وضع تصوّر شامل للسكن، يأخذ بعين الاعتبار ضرورة ضبط الإيجارات، كما وضرورة الحدّ من الممارسات التمييزية ضدّ العائلات النازحة ومقاربة النزوح والإيواء بشكل شامل وأكثر عادلاً.

مراجع

  • عمل ميداني في مدينة صور (تشرين الأول – تشرين الثاني 2023): العاملة الاجتماعية سارة خليل
  • عمل ميداني في قضاء عاليه: (تشرين الأول – تشرين الثاني 2023): المهندس عماد عامر
  • نشرت الدراسة على موقع مرصد السكن.

Leave a Comment