زكي طه
على وقع خسارة معركة توريث رئاسة الجمهورية، والفشل في تشكيل حكومة على نحو يسمح لتياره السياسي التحكم بها، وتعطيل دورها ساعة يشاء في ظل فراغ موقع الرئاسة. لم يكن مستغرباً أن يتصدر رئيس العهد القوي الجنرال ميشال عون احتفالات التيار بنجاحهما معاً في معركة دفع البلد للإقامة المديدة وسط الفوضى السياسية والدستورية وفي فراغ رئاسي وحكومي، وسط معركة مفتوحة حول حكومة تصريف الاعمال، بالتوازي مع شلل مؤسسات الدولة وأجهزتها وقطاعاتها، وبالتزامن مع الإنهيار والإفلاس الاقتصادي والمالي، وتصاعد الانقسام الأهلي والفلتان الأمني وانتشار الأوبئة.
لقد شكلت احتفالات شد عصب التيار المهدد بالتفكك، نهاية عهد التعطيل وحكومات تصريف الاعمال، وعودة البلد إلى فراغ موقع الرئاسة الذي شكَّل رافعة فرض انتخاب قائده رئيساً. وهو الذي حاول أن يحكم بقوة الصلاحيات المُدّعاة وفق معادلة “أنا ولا أحد”. لكن نهاية العهد لا تعني مطلقاً نهاية معاركه المفتوحة، حول الحق الحصري لتياره السياسي في رئاسة الجمهورية، كما في الاستئثار بالسلطة والهيمنة الطائفية والفئوية، وحقه بالانقلاب على دستور الطائف وفرض تعديله بقوة الأمر الواقع.
انتهى عهد الاستقواء بحزب الله وتبادل المصالح والارتهان لسياساته المحلية والخارجية، لكن التحالف مع التيار لم ولن ينتهِ، فكلاهما يشكل سنداً للآخر في ما هو قادم من صراعات بين سائر اطراف الطبقة السياسية الحاكمة، التي لا ترى سوى مصالحها الفئوية. وهي الجاهزة دوماً للتفريط بمصالح الوطن وأهله في سبيلها. وما اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي سوى مثل صارخ عن ذلك. ما يعني أن الصراعات المفتوحة مرشحة للاحتدام حول مختلف شؤون البلد وقضاياه المتفجرة، والتي لا قبل لأحد في تصور مساراتها، أو تقدير نتائجها نظراً للترابط القائم والمستمر بين أزمات الداخل ومحيطه المتفجر.
ومع انتقال إدارة شؤون البلاد بما فيها حكومة تصريف الاعمال، إلى أحضان رئيس المجلس النيابي منفرداً، باعتباره الرئيس الوحيد دستورياً والتمهيد لاطلاق طاولة حوار بين الكتل النيابية، وتعطيل دور المجلس النيابي وحقه الديمقراطي في انتخاب رئيس بانتظار التوافق عليه، ومعه التقرير بشأن مختلف قضايا البلد.
لذلك ليس مفاجئاً أن يتجدد طرح الأسئلة حول مستقبل لبنان وتحديات خروجه من الهاوية التي دُفع إليها ومدى قدرة قواه على تجاوز خطر التفكك والزوال. وهو ما يتشاركه راهناً مع العديد من الكيانات العربية المجاورة، التي تعصف بكياناتها ودولها الوطنية الحروب والنزاعات الأهلية التي تسعرها التدخلات الإقليمية والدولية المُدارة أميركياً.
وما يجعل طرح الاسئلة أكثر حدة عما سبق، أن الطبقة السياسية لم تغادر ما كان دأب قواها، في الاستهتار بمصالح البلد الوطنية ورهن مصيره لمحاور الصراع الاقليمي والدولي المتحاربة بشعوب المنطقة، والممعنة في تفكيك مجتمعاتها سعياً منها لتقاسم كياناتها واخضاعها لشبكات سيطرتها ونهب مواردها. وهذا ما يؤكد انعدام المسؤولية الوطنية والانسانية لدى اطراف السلطة التي تتحصن بإشكالية الانقسام الأهلي الموروثة والمستمرة.
وهي الاشكالية التي شكلت انتفاضة 17 تشرين محاولة عفوية لتجاوزها والخروج على أحكامها باعتبارها السبب الدائم في انفجار أزمات لبنان المتكررة، والعائق الرئيسي امام تكريس استقلال الكيان. لأن الانقسامات الأهلية كانت ولا تزال المعبر والركيزة الثابتة لاستمرار التدخلات الخارجية، الممسكة بخناق البلد. وهي الآسرة لمستقبل اللبنانيين، وقد جعلت انتسابهم للعروبة عبئاً عليهم بدل أن يكون مصلحة لهم. ما يعني أن الانقسامات الأهلية هي القيد المانع للافراج عن حقهم في أن يستقيموا شعباً كشعوب العالم ضمن موجبات الهوية الوطنية الواحدة وانتظام الحياة المشتركة بينهم، والحاجز الذي يحول دون حقهم في أن يكون لهم نظام قابل مشرع على امكانية التطور الديمقراطي.
ولذلك لم يكن مستغرباً فشل الانتفاضة في التحول حركة معارضة ديمقراطية، تمتلك القدرة على محاصرة قوى السلطة ومواجهتها، واجبارها على إعادة النظر بسياساتها وتغيير أدائها وصولاً إلى إرغامها على إقرار الاصلاحات الضرورية على نحو يسمح بمعالجة الازمات والمشكلات التي تسببت بها، والتي تستثمر فيها سواء لخدمة مصالحها الفئوية أو للتحكم بحياة اللبنانيين بقوة الاستهانة بحقوقهم وعقولهم في سبيل اخضاعهم لسلطانها من البوابات الطائفية وبقوة الخدمات والمنافع الفردية.
من السهل تحميل المسؤولية عن فشل الانتفاضة، وتنسيب اسباب الفشل لسياسات قوى السلطة الميليشياوية وهجماتها على ساحاتها وقمع تحركات مجموعاتها، وصولاً إلى سقوط شهداء وجرحى منها. ومن السهولة كيل الاتهامات المحقة حول اختراق الساحات والمجموعات واستغلال ما تملكه من اسلحة بما فيها استخدام الاجهزة والمؤسسات الامنية الرسمية. غير أن ذلك لا يلغي أبداً أن عفوية الانتفاضة التي أكدت الاحتفالات بذكراها الثالثة منذ اسابيع أزمة قواها، ومأزق مجموعاتها وعجزها عن تحريك اي من قطاعات المجتمع أو فئاته، ولذلك اقتصر الأمر على اعداد محدودة وانشطة هزيلة، تحولت من قبل بعض قوى السلطة وابواقها إلى مادة تندر واستهزاء بما يجري تحت راية الانتفاضة.
غير أن ذلك لا يعفي أحداً من قوى ومجموعات الانتفاضة ونشطائها من مسؤولية الاقرار أولاً بتواضع النتائج التي انتهت لها انتفاضة تشرين المجيدة بعد سنوات ثلاث على انطلاقتها. والاقرار بالمحصلة، يفترض فتح البحث في الاسباب ومراجعة ما كان وما تخلل مساراتها، وما ساد خلالها من استسهال لتحقيق ما طرح من برامج وشعارات، في ضوء النتائج، باعتبارها المقرر لمدى الصواب والخطأ الذي انطوت عليه الطموحات والممارسات التي ظللتها ورافقتها في آن. وأكثر ما يستدعي البحث والمناقشة هو النزعة الاختزالية للمجتمع وخاصة الفئات المتضررة منه، التي افتقدت للهيئات والروابط النقابية والمهنية والهيئات الاجتماعية التي تدعي تمثيل مصالحها والتعبير عن حقوقها ومطابها، ونعني بها العمال والمستخدمين والموظفين والمزارعين ورجال الاعمال والمعلمين والطلاب والنساء وسائر أصحاب المهن الحرة. ولا يختلف عنها المدن والاحياء والبلدات والقرى التي ام تشكل الاطر الشعبية الناطقة بحقوقها المشتركة، خاصة على صعيد الخدمات العامة التي جرى تلزيمها للمافيات المحمية من اطراف السلطة، أو للبلديات العاجزة عن تأمينها، أما بفعل خواء خزائنها، أو جراء الفساد المتحكم بإدارتها. وفي ذلك تكمن اسباب هامشية قوى ومجموعات وتشكيلات الانتفاضة، وعمومية البرامج والشعارات التي ظللت تحركاتها التي غاب عنها مئات ألوف اللبنانيين الذين ملأوا الساحات والشوارع.
ولذلك فإن بقاء نبض الانتفاضة مستمراً كان مرده هذا الفيض من القيادات والناشطين الذين يرون أنهم البديل عن قوى النظام المأزومة. وهم الذين شكلوا سواء كانوا افرادا أو مجموعات نخب المجتمع المتحركة والباحثة عن أدوار لها، ولذلك فإن أكثرهم وجد في التحركات كما في الانتخابات النيابية مخرجاً، أو مدخلاً لدور ما يلبي طموحاتهم. وقد فات الغالبية منهم أن ما يسعون له يستحيل تحقيقه عبر تبرير العجز عن الفعل، والبحث عن اسباب الفشل في غير امكنتها، أو تغطيتهما عبر احالة المسؤولية على الآخر بما فيه قوى السلطة والنظام أو من هو منافس لهم.
وما يسري على النخب، يطال اولا القوى الحزبية لأن افتقادها للقدرة على الفعل والاكتفاء بالاقامة عند ما كان لها من امجاد، وسط عجز متمادٍ عن تجديد الحياة السياسية من موقع المعارضة الديمقراطية المجتمعية المستقلة على قوى السلطة، وغيابها المزمن عن تجديد الحياة والحركة النقابية والديمقراطية بكل تفرعاتها ومستوياتها، وحصر مهامها ودورها بالمشاركة في تحركات مطلبية فئوية، أو اصدار البيانات الموسمية. الامر الذي جعلها خارج دائرة الفعل والعجز عن الانتساب إلى أزمات البلد حيث هي حقاً، بصرف النظر عن ادعاءاتها، لأن النتائج أيضاً تقرر مدى فعاليتها وصواب ما يصدر عنها.
على ذلك، فإن الاسئلة المتجددة ليست مطروحة على قوى السلطة التي قادت البلاد إلى الهاوية، حيث لا مكان في جدول اهتماماتها أو اعمالها لمهام الانقاذ، أو معالجة الازمات التي تشكل بالنسبة لها ميادين استثمار لتجديد بناها ومشاريعها وأدوارها، وتبرير صراعاتها ورهاناتها. ما يعني أن تلك الاسئلة مُلقاة في وجه الفئات المتضررة بكل مستوياتها، وتحديداً النخب والمجموعات والقوى الحزبية بتياراتها بما فيها اليسارية منها، وهي التي ترفع رايات المعارضة والانتفاضة والتغيير. وهي أسئلة لا تتجدد مبرراتها في ما يواجهه لبنان راهناً من تحديات ومخاطر تضعه امام مصير مجهول وحسب، بل لأنه يستحيل تبرير الهروب من موجباتها، وتنكب ما يترتب عليها من مسؤوليات، هي أيضا مقررة لما سيؤول إليه وضع البلد ومستقبله. أما انتظار الخارج الدولي والاقليمي فهو أقصر الطرق لتكرار ما كان من تسويات تعيد انتاج النظام والسلطة بمكوناتها الراهنة، وخدمة مصالح دوله ومؤسساته الاستثمارية.
إن طريق الانقاذ تفترض المبادرة لاطلاق الحوار الجاد والمسؤول حول أزمات البلد ومأزق المعارضة، وسبل تجاوز تفكك وتشرذم قواها ونخبها وهامشيتها من أجل تجديد الأمل في استعادة ثقة اللبنانيين بها.
Leave a Comment