معاذ حسن *
تتتالى يومياً، منذ قرابة خمسة أشهر، مشاهد الصور المأساوية الكارثية للتدمير الممنهَج لمدن قطاع غزّة الذي يسكنه أكثر من مليونَي إنسان، سواء بالقصف الجوّي أو بالتوغّل البرّي الإسرائيلي، بتشجيع سياسي ودعم لوجستي على الأرض من أغلب حكومات الغرب الأميركي والأوروبي، مع ما يرافق ذلك إقليمياً من موقف إيراني مريب، وتنديد حكومي عربي رسمي لا يتناسب مع حجم الكارثة التي تقع على المدنيّين الفلسطينيّين، بأرقام الشهداء المهول والتي تتزايد يومياً، خصوصاً بين الأطفال والنساء.
تُعيدنا هذه المَشاهد بالذاكرة إلى ما حدث للمدن العربية وما زال يحدث، منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما رافقه من قصف جوّي عشوائي تدميري على بغداد، لمبرّرات واهية جدّاً، ثم ما استتبع ذلك، منذ 2011، من قصف وتدمير عشوائي للعديد من أعرق المدن العربية وأقدمها في سورية والعراق واليمن وليبيا والسودان، قصفٌ لا يزال مستمرّاً حتى اليوم بفعل قوى خارجية وداخلية بسبب الانفجارات المجتمعية الكبيرة التي حدثت فيها. لا يُستثنى من ذلك الدمارُ الكبير الذي لحق ببيروت وطرابلس طيلة الحرب الأهلية (1975 – 1990) في لبنان الذي لا يزال مُهدَّداً بتجدُّد هذه الحروب التدميرية، لأنّ مقّدماتها ما زالت موجودة في نسيجه المجتمعي وبُنيته السياسية.
يستدعي ذلك أسئلة عديدة وكبيرة: لماذا كلّ هذا الحقد الدفين على المدن العربية؟ لماذا هذا الاستهداف التدميري المُمنهَج للمدينة العربية في زمننا المُعاصر، خصوصاً في منطقتَي شرقي المتوسّط أو ما كانت تُسمّى بلاد الشام، وبلاد ما بين النهرين، العراق اليوم؟
تجريفٌ ممنهج استهدف أعرق الحواضر الثقافية العربية
بعيداً عن الأسباب السياسية الحديثة والراهنة، بتفاصيلها المتشابكة والمعقّدة، والتي تشكّل غطاءً واهياً لهذا الاستهداف، سنحاول الكشف، إن جاز التعبير، عن الخلفيّة التاريخية العميقة التي ولّدت جُرحاً نرجسياً تاريخياً كبيراً عند العديد من القوى في العصور القديمة والوسيطة، ما زال يفعل فعله حتى اليوم.
في هاتين المنطقتَين، إضافةً إلى مصر، قامت بعض أقدم الحواضر البشرية المدنيّة في التاريخ، بعد أن استوطنت فيها على الدوام الجماعات والقبائل المهاجرة من عدّة مناطق صحراوية من أبرزها جزيرة العرب، فظهرت الإرهاصات الأُولى لمُدن أريحا وغزّة والقدس ودمشق وحلب والرقّة والموصل وبيروت والإسكندرية وجبيل وصيدا وغيرها الكثير. ورغم الغزوات والحروب التي استمرّت بين مختلف الممالك والإمبراطوريات، بقيت تلك المدن تتطوّر وتلعب دورها الاقتصادي التجاري والثقافي بين مختلف الشعوب والجيوش التي مرّت بها.
وعندما دخل العرب المسلمون هذه المناطق ومدنها، وبعد أن استتبّ لهم الأمر، عملوا على توحيد هذه المناطق تحت راية الدين الجديد، وأطلقوا مبادرات كلّ الجماعات الدينية والإثنية الأقدم في مجالات التجارة والعلوم والثقافة، مع استمرار فتوحاتهم لأقاليم أُخرى، في مختلف الجهات في الشرق والغرب بالآلية نفسها، فجرى بذلك، طيلة قرون العصر الوسيط، ربطُ حضارات العالَم القديم بعضها ببعض، وإعادة إحياء التراث الفلسفي الإغريقي اليوناني القديم بترجمته إلى العربية، في أقدم عاصمتين عربيّتين: دمشق الأموية وبغداد العباسية.
ونتج عن ذلك مخاضٌ ثقافي فكري كبير ومديد استمرّ قروناً، من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر الميلادي، ظهرت من خلاله أسماء هامّة من مختلف القوميّات والإثنيّات، يجمعها الانتماء إلى مجال الثقافة العربية الإسلامية، ما زالت تشغل رجال الفكر والثقافة في عالمنا الحديث والمعاصر، مثل: الكندي، والفارابي، وابن الهيثم، وجابر بن حيّان، وأبي بكر الرازي، والبِيروني، وابن سينا، وابن الراوندي، والحلّاج، وجلال الدين الرومي، وابن عربي، وابن حزم، والجاحظ، وأبي حيّان التوحيدي، وابن رشد، وابن خلدون، والإمام الغزالي، وأبي العلاء المعرّي، والمتنبّي، وأبي تمّام، والسلسلة تطول جدّاً.
وهذه الأسماء كلّها وُلدت في إطار الحضارة العربية الإسلامية الوسيطة، في مختلف مدنها التاريخية العريقة والقديمة التي بقيت راسخةً رغم كلّ الحروب والمِحَن التي مرّت على المنطقة في هذا التاريخ القديم والطويل، في الفترة نفسها التي كانت فيها مراكز التحكُّم المجتمعي في الغرب الأوروبي هي قِلاع الرِّيف التي يسكُنها الأمراء والملوك وكبار الإقطاعيين، قريباً من جماهير الفلّاحين المحكومين بطاعة عمياء لأسيادهم هؤلاء بمؤازرة من سلطة الكنيسة وطغيانها الظلامي آنذاك. تغيّرت المعادلة جذريّاً بالتأكيد في العصور الحديثة في أوروبا لمصلحة الحداثة والتمدّن، وبدأت تظهر المدن الحديثة والكبيرة في الغرب مع التطوّر الرأسمالي الجديد ومع بدايات الثورة الصناعية الأُولى منتصف القرن التاسع عشر.
لكنّ المدينة العربية، ورغم عصور الانحطاط والتراجُع المديدة التي دخلتها منذ القرن الخامس عشر للميلاد، ظلّت تختزل كمُوناً كبيراً من إمكانيات التطوّر والتقدّم، التي بدأت إرهاصاتُها الأولى بالظهور مُجدّداً منذ أواخر القرن الثامن عشر.
واستمرّت في الظهور والتبلور حتى أوائل القرن العشرين، عندما تجلّت مع أهمّ عقول الإصلاح الديني الإسلامي أوّلاً، مثل رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ومن ثم مثقّفي عصر النهضة العربي الثقافي ومفكّريه ثانياً، الذين استمرّوا في الظهور إلى مراحل الدولة الوطنية أيضاً، بعد جلاء المُستعمِر منتصف القرن العشرين، مثل: جرجي زيدان، وشكيب أرسلان، وجبران خليل جبران، ومحمد كرد علي، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا، وعبد الرحمن بدوي، وعلي الوردي، وهشام شرابي، وجورج طرابيشي، وإدوارد سعيد، وسمير أمين، وصادق جلال العظم، وفارس الخوري، وقسطنطين زريق، ونقولا زيادة، وحسين مروة، وأدونيس، وطيّب تيزيني، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وعبد الله العروي، وأحمد شوقي، ومعروف الرصافي. والسلسلة هنا، أيضاً، تطول جّداً.
علاوة على ذلك، كانت قد بدأت تظهر في الفترة نفسها، بعد الخروج من إطار الإمبراطورية العثمانية، فكرة البحث عن لاحِم جديد لكل شعوب المنطقة العربية، فتبلورت مع المثقّفين العرب بمختلف أطيافهم السياسية والدينية المتعدّدة فكرة العروبة، وكان من أبرز من نظّر لها سياسياً وثقافياً المفكّر ساطع الحصري.
لكنّ الحكومات الغربية الرأسمالية الصاعدة في مرحلتها الاستعمارية آنذاك، كانت تُراقب بمَكر شديد كلّ ذلك وهي تُفكّر في الانقضاض على تَرِكة الإمبراطورية العثمانية وتقاسُم مناطق النفوذ فيها، فنجحت خطّتها في رسم خرائط وحدود لدول وطنية جديدة تكون عائقاً أمام تكوّن دولة عربية كبيرة مفترضة، على الأقلّ في المنطقتين اللتين أشرنا إليهما في البداية؛ أي العراق والشام، ثم عملت على إقامة كيانٍ غريبٍ مُصطنع وترسيخه في قلب المنطقة تجسَّد بـ”إسرائيل” منذ عام 1948، بحيث يكون وكيلاً دائماً عن القوى الاستعمارية في محاربة فكرة العروبة كلاحِم مجتمعي وثقافي وسياسي جديد مفترض لشعوب المنطقة العربية.
وهكذا كان من الطبيعي أن يعمل خصوم هذه المنطقة، بمُدنها الولّادة للعقول الكبيرة والمُبدعة، والمدفوعون بجُرح نرجسي تاريخي قديم، على تدميرها فوق رؤوس أبنائها وتسوية منازلها بالتراب، كما يفعل بوحشيّة مُتناهية جيشُ الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة اليوم، بعد الحصار المُحكَم عليه برّاً وبحراً منذ سبعة عشر عاماً.
فهل هو الثأر من هذا الإرث الحضاري الكبير لمُدن عريقة تاريخياً، لا تزال تختزل كموناً هائلاً لا ينضب من إمكانيات العقول الكبيرة، خوفاً من أن تظهر مرّة أُخرى بأيّ مستوى من مستويات المُشاركة الفاعلة في مسيرة الحضارة العالمية الحديثة والمعاصرة؟
لعلّها محاولةُ قتل الروح الولّادة في هذه المنطقة، لأنّ كلّ الأسباب والمُبرِّرات السياسية التي قيلت وتُقال في تدمير المدن العربية اليوم في الفترة المذكورة هي ضعيفة وباهتة جدّاً.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 10 آذار / مارس 2024
Leave a Comment