سياسة

المحكمة الجنائية الدولية وقرار توقيف نتنياهو وغالانت: الموقف الفلسطيني يحصد في حقول دماء ودموع أهل غزة 2/2 

زهير هواري 

بيروت 4 كانون الاول 2024 ـ بيروت الحرية

اذا كانت إسرائيل قد استقبلت القرار على النحو الذي عرضنا له في الحلقة الأولى، وقد توحدت قواها في السلطة وخارجها على رفضه، انطلاقا من ادراكها مدى خطورته على الكيان وسمعته الخارجية. لا سيما والكل يعلم أنه طالما استند مسؤولوها وقواها السياسية إلى الترسانة الايديولوجية والدعائية المعروفة والتي تزعم أن المحكمة تنطلق من معاداة السامية وتعادي الدولة اليهودية الوحيدة في العالم واستعاد نتنياهو وغيره  قضية الضابط دريفوس وذاكرة المحارق النازية ، وأن المحكمة تنكرت لكونها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وساوت بين الإرهابيين وحق الدفاع المشروع عن النفس ألخ … 

الموقف الفلسطيني على العكس مما ذهبت إليه إسرائيل رأى في القرار بارقة أمل تقدم خطوة نحو تحقيق العدالة التي تأخرت 76 عاما بفعل التجاهل وسياسة الخداع والبروباغندا المتواصلة والمرعية من جانب دول الغرب الاستعمارية. وعليه، توالت البيانات المؤيدة لقرار محكمة الجنايات الدولية؛ إذ وصفته حركة فتح التي يترأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالخطوة الشجاعة، قائلة إن هذا القرار يُعد انتصاراً للعدالة الدولية ولحقوق الإنسان. وقال الناطق باسم حركة “فتح” عبد الفتاح دولة، إن أوامر الاعتقال خطوة شجاعة في مواجهة ما وصفه بالـ”الجرائم والانتهاكات الخطيرة التي ترتكبها حكومة الاحتلال”.

ورأى السفير الفلسطيني في بريطانيا حسام زملط المذكرات بأنها خطوة لاستعادة مصداقية النظام الدولي القائم على القواعد ونظامه القضائي. كما رحبت حركة حماس بالخطوة الجنائية الدولية، داعية دول العالم إلى التعاون مع المحكمة في جلب “مجرميْ الحرب.. نتنياهو وغالانت، والعمل فوراً لوقف جرائم الإبادة بحق المدنيين العزّل في قطاع غزة”.

ردود الفعل الدولية

ومن البديهي القول إن المذكرات أثارت اهتماما دوليا واسعا بالنظر لتأثيرها على جملة الوضع المشتعل في الشرق الأوسط وعلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بالتحديد، وهو الذي يلتهب نارا متواصلة منذ  أكثر من عام، مع ما يتخلله من مجازر يومية وحروب إبادة وتجويع وتهجير وتدمير لكل معالم الحياة ومقوماتها. 

فقد أعلن وزير الخارجية الهولندي كاسبر فيلدكامب أن بلاده ستمتثل لما تستوجبه مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. بالتزامن، قالت وزارة الخارجية الهولندية يوم الخميس إن زيارة الوزير فيلدكامب إلى إسرائيل تأجلت “في ظل الظروف الحالية”. ما دعا وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إلى “الشعور بخيبة أمل” من هذه التصريحات. في المقابل، رفضت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هذه الخطوة، كما توعد مايك والتز المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب بـ”رد قوي” ضد المحكمة في يناير.

ونظراً إلى كون الولايات المتحدة غير موقعة على نظام روما الأساسي، ولا تعترف بقرارات المحكمة، لفت البروفيسور غبريال صوما، أستاذ القانون الدولي وعضو المجلس الاستشاري للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى أن “ترمب قد يلجأ عند تنصيبه في يناير المقبل إلى اتخاذ إجراءات ضد قضاة المحكمة والمدعي العام، على غرار وضع اليد على أموالهم المنقولة وغير المنقولة في البنوك الأميركية، ومنعهم من السفر إلى الولايات المتحدة”. وقال : إن المحكمة الجنائية الدولية لن تكون قادرة على فعل أي شيء لإجبار دولة على توقيف نتنياهو أو جالانت. واستشهد بمذكرة التوقيف الصادرة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي لم تمنعه من السفر عدة مرات دون اعتقاله. وأوضح صوما أن إسرائيل غير مطالبة بتسليم نتنياهو وجالانت لأنها “لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية وبقراراتها”، مشدداً على أن “الحالة الوحيدة التي يمكن أن يتم فيها إلقاء القبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي أو وزير دفاعه هي السفر إلى دولة عضو في المحكمة على أن تكون ملتزمة بتنفيذ القرار”.

قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض في أول تعليق رسمي أمريكي، إن الولايات المتحدة ترفض قرار الجنائية الدولية. وبعد أن أعرب عن قلق أميركا من صدور القرار، مضيفاً أن الولايات المتحدة تناقش الخطوات التالية مع شركائها.  وقال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، المقرب للرئيس المنتخب دونالد ترامب إن “المحكمة مزحة خطيرة. لقد حان الوقت الآن لمجلس الشيوخ الأميركي للتحرك ومعاقبة هذه الهيئة غير المسؤولة”.

وأعلنت دول مثل بريطانيا وإيطاليا التزامها بتنفيذ قرار المحكمة، أما المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر فقال إن بلاده تحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية، ومع ذلك، فهو يرى أنه لا يوجد “تكافؤ أخلاقي بين إسرائيل الديمقراطية وحماس وحزب الله اللبناني، وهما منظمتان إرهابيتان”.

وأكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف ليموين أن رد الفعل الفرنسي سيكون “متماشياً مع قوانين المحكمة الجنائية الدولية”. وقال وزير الدفاع الإيطالي غيدو كروسيتو إن بلاده ستكون ملزمة باعتقال نتنياهو إذا زار إيطاليا. ورأى رئيس الوزراء الايرلندي سيمون هاريس إن أوامر الاعتقال تشكل خطوة “بالغة الأهمية” وأن الاتهامات التي تضمنها القرار تعد من الخطورة بمكان. 

واتفق موقف كل من سويسرا والسويد على أن بلادهما ملزمة بالتعاون مع الجنائية الدولية بموجب نظام روما، وبالتالي سيتعين عليهما اعتقال نتنياهو أو غالانت أو الضيف إذا دخلوا البلاد، وتسليم أي منهم إلى المحكمة. وقال وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إن قرار المحكمة الجنائية الدولية الخاص باعتقال نتنياهو وغالانت ملزم، وأنه ينبغي على الدول والشركاء في المحكمة “احترام القرار وتنفيذه”.

في المقابل، نشر الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي بياناً بعنوان “إعلان الجمهورية الأرجنتينية دفاعاً عن إسرائيل”، يدين فيه قرار الجنائية الدولية، واصفاً إياه بأنه “يشوه العدالة”. ووصف وزير الخارجية النمساوي ألكسندر شالنبرغ مذكرة الاعتقال بأنها غير مفهومة ومثيرة للسخرية، لكن مكتبه قال أيضاً إن النمسا، بصفتها طرفاً في نظام روما، ملزمة بتنفيذ مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.

ترحيب عربي وإسلامي

وأكد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان أن مذكرة الاعتقال تبعث على الأمل من حيث تحقيق العدالة”. واعتبر المرشد الأعلى في ايران على خامنئي القرار غير كاف،  فيما دعمت الخارجية اللبنانية مذكرتي الاعتقال، ورات أنهما يعيدا الاعتبار للشرعية الدولية ولمفهوم العدالة والقوانين الدولية. وبدوره قال وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي إن الشعب الفلسطيني يستحق العدالة. وإن قرارات المحكمة الجنائية يجب أن تحترم وتطبق من دون “انتقائية.” كما رحبت الحكومة العراقية، بإصدار المحكمة الجنائية الدولية المذكرتين.  وحيا الناطق الرسمي باسم الحكومة باسم العوادي هذه الخطوة الكبيرة في سبيل تحقيق “العدالة” في كل أرجاء العالم، ودعا جميع الدول إلى تطبيق هذا القرار، و”تسليم المطلوبين للمحاكم المختصة لينالوا جزاءهم نظير ما ارتكبوه من انتهاكات صارخة ضد الإنسانية”. وصدرت مواقف مماثلة عن مصر وسوريا وليبيا والجزائر وغيرهم. 

الأمم المتحدة والمذكرة

أكّدت الأمم المتّحدة الخميس أن مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا تمنع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وسائر كبار مسؤولي المنظمة الأممية من لقائه في إطار تنفيذهم مهامهم.

وقال ستيفان دوجاريك المتحدث باسم غوتيريش للصحافيين “طبعا نحن على علم بمذكرات التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية” بحق كلّ من نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت وقائد الجناح المسلح لحركة حماس محمد ضيف، وذلك بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وشدّد دوجاريك على أنّ الأمين العام “يحترم عمل المحكمة الجنائية الدولية واستقلاليتها.” وأضاف دوجاريك على أنّه “من هذا المنطلق، يمكن للأمين العام ولكبار المسؤولين في الأمم المتحدة أن يجتمعوا مع الأشخاص الذين وجّهت إليهم المحكمة الجنائية الدولية اتّهامات إذا كان ذلك لأسباب تشغيلية…هذا أمر ليس موضع تشجيع، لكنّه أمر مسموح به بوضوح”.

المدعي العام كريم خان 

وبعد صدور القرار، حث المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان الدول الأعضاء في المحكمة البالغ عددها 123 دولة على التحرك بشأن أوامر الاعتقال الصادرة ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع السابق، بالإضافة إلى القيادي العسكري بحركة حماس محمد الضيف.

ولا تملك المحكمة الجنائية الدولية سلطة تنفيذ أوامرها، لكن من الناحية الفنية، فإن أي دولة وقعت على نظام روما الأساسي، ستكون ملزمة باعتقال بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت أو ضيف، إذا وصلوا إلى أراضيها.

وقال المدعي العام خان في بيان: “أناشد جميع الدول الأطراف أن تفي بالتزاماتها بموجب نظام روما الأساسي من خلال احترام هذه الأوامر القضائية والامتثال لها”. كما دعا الدول غير الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية إلى العمل معاً من أجل “دعم القانون الدولي. وقال خان “إن تحقيقه في الوضع في غزة مستمر، وإن فريقه يبحث في “خطوط تحقيق إضافية في المناطق الخاضعة لاختصاص المحكمة، والتي تشمل غزة والضفة الغربية، بما يشمل القدس الشرقية”.

وأعرب خان عن قلقه بشأن التقارير التي تتحدث عن “تصاعد العنف، وتقليص وصول المساعدات الإنسانية، واستمرار توسع مزاعم الجرائم الدولية في غزة والضفة الغربية”.

وأضاف خان أن باله منشغل بضحايا هجمات حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بالإضافة إلى أولئك الذين قتلوا في الهجمات الإسرائيلية على غزة. وقال “لقد أكدت أن القانون موجود للجميع، وأن دوره هو الدفاع عن حقوق الجميع”.

نتائج مذكرتي التوقيف

في ضوء العرض الذي سبق وتناول المواقف الإسرائيلية والدولية والعربية يمكن تسجيل العديد من النقاط حول نتائج صدور المذكرات على النحو التالي: 

  • زيادة عزلة إسرائيل دوليا وعربيا وكبح طموحها إلى اختراق المزيد من الدول العربية من بوابة التطبيع وتقييد حركة اتصالاتها المباشرة. 
  • نزع الشرعية عن التبرير الذي تجهر به حول حربها على قطاع غزة بوصفه دفاعا عن النفس، بينما هو في الحقيقة جرائم ضد الانسانية.
  • توجيه اتهام لأعلى مؤسستين في إسرائيل: السياسية ممثلة برئيس الحكومة نتنياهو والعسكرية ممثلة بوزير الدفاع السابق غالانت مع احتمال صدور مذكرات تشمل آخرين. 
  • وضع نتنياهو أمام قضية دولية محكمة من جانب أعلى محكمة أممية، إضافة للقضايا الداخلية العديدة المعروفة ما يضعه في موقع دفاعي ضعيف داخليا ودوليا. 
  • فتح المجال دوليا أمام تنفيذ ملاحقات ضده وسواه من المسؤولين الإسرائيليين الذين أداروا وشاركوا في الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت وترتكب في قطاع غزة على مدار السنوات الماضية، ولاسيما في العام المنصرم. 
  • تقييد الحركة السياسية والدبلوماسية لتل ابيب خصوصا مع هذا العدد الوافر من العواصم التي أعلنت أنها ستعتقل المطلوبين في حال مرورهما في مطاراتهم أو دولهم.  
  • احراج الإدارة الأميركية الحالية والمقبلة في ضوء الانتخابات الأخيرة، ما سيضع أميركا في مأزق قانوني واخلاقي لا تستطيع الدفاع عنه. 
  • دفع الجامعات ومراكز الأبحاث الى رفض التعاون مع المؤسسات المدنية والعسكرية الإسرائيلية ودولتها المدانة بتهم تمس القانون الدولي الإنساني.  
  • تزويد المثقفين والقوى الطالبية والديمقراطية والإعلامية والثقافية في الدول الغربية بذخيرة إضافية لمتابعة نضالهم ضد العنصرية الصهيونية، واسقاط مقولة معاداة السامية التي يجري التذرع بها لممارسة قمع الرأي الرافض للسياسة الصهيونية في فلسطين ولبنان. 
  • التأكيد على عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي وأهمية دعمها و النضال من أجل نصرتها، دون أن يعني ذلك الموافقة على العنف الاعمى الذي تمارسه بعض الفصائل.

Leave a Comment