زهير هواري
بيروت 5 شباط 2024 ـ بيروت الحرية
أقر مجلس النواب موازنة العام 2024 في موعدها السنوي، بعد أن أحدثت لجنة المال والموازنة واللجان المشتركة والهيئة العامة تعديلات على العديد من بنودها وأرقامها، لكن جملة هذه التعديلات لم تغير من الطبيعة الفعلية للموازنة بما هي موازنة خالية من أي نوع من أنواع الإصلاحات الفعلية اللازمة في بلد يعاني من انهيار مالي ونقدي واجتماعي ومعيشي. وبعيداً عن المناكفات التي شهدتها الجلسات وتعبيرها عن غطرسة من جهة، واحتقان سياسي عام بين مكوناته من جهة ثانية، يمكن القول إن حجم التعديلات التي أجريت على النسخة الواردة من الحكومة ظلت قاصرة عن علاج الوضع الذي تعانيه البلاد اقتصادياً والموازنات العامة منذ اتفاق الطائف، والتي تجعل منها مجرد بيانات مالية تتضمن نفقات الدولة ووارداتها فقط، دون أي أمل بالخروج من الكارثة المستفحلة. والمعضلة الآن تتمثل في وضع المالية العامة للدولة ومجمل الوضع العام المالي والاقتصادي للقطاعين العام والخاص، واستحالة الخروج من محنة الانهيار ضمن المنحى الذي عبرت عنه المعادلات السياسية والموازنة الراهنة، وكذلك ما سبقها من موازنات. وعليه، تبدو الدولة كقاطرة تسير على غير هدى، فلا الإصلاحات الاقتصادية ممكنة التحقيق، ولا الحلول السياسية في مرمى النظر، خصوصا متى تأكد أن أقطاب السلطة هم خارج وارد الاستجابة لمشروع إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، طالما أن العملية هذه تأكل من أرصدتهم التي راكموها خلال أعوام من الانهيار والنهب المنظم وغير المنظم، الذي تمت ممارسته خلال السنوات الثلاثين المنصرمة، وقاد إلى ما قاد إليه من انهيار مالي ونقدي واقتصادي ومعيشي، وعجز كامل عن استعادة بعض الأسس التي تمكن من الانطلاق منها نحو الخروج من الأزمة. وهو ما توافقت عليه الطبقة السياسية والمالية الممسكة بزمام الأوضاع، وتمنع من خلال شراكتها هذه القيام بأي خطوات ملموسة، نحو مغادرة المستنقع الذي يدفع بأبناء الوطن إلى مغادرته كمركب يتعرض للغرق، ويندفع ركابه إلى اخلائه علَّهم ينقذون أنفسهم من المصير المحتم.
الموازنة وغياب الانفاق الاستثماري
وموازنة العام 2024 لم تترافق مع قطع حساب عما سبقها، أو فذلكة تقدم فلسفة الحكومة التي تترجمها بالأرقام المالية وتوزيعها على البنود. وفيما اقتصرت الموازنات في السنوات السابقة على ثلاثة مجالات هي: نفقات الرواتب والأجور، وأكلاف الطاقة الكهربائية (فيول ومستلزمات ملحة وفروقات أسعار واكلاف)، وفوائد الدين العام التي تراوحت بين 38 و42% من مجموع الإنفاق الحكومي. وجملة هذه النفقات الإستهلاكية كانت تعادل 93% من الحجم الإجمالي للموازنة، في حين لم يبلغ الإنفاق الإستثماري ( البنى التحتية ) الـ 7%. لم تلحظ الموازنة الجديدة رفع أسعار الطاقة الكهربائية وسائر خدمات الدولة من مياه ورسوم وضرائب، وتوقف لبنان عن دفع فوائد الدين العام منذ العام 2020. ومن المعروف أن النفقات الجارية تصل إلى ما مجموعه 95% من إجمالي الموازنة وتتضمن دفع أثمان المواد الإستهلاكية التشغيلية مثل( لوازم مكتبية وملابس ومحروقات وأدوية وبدلات المياه والكهرباء والإتصالات وخلافه )، ويدخل في باب الخدمات الإستهلاكية ( الإيجارات – الصيانة – البريد – الاعلانات – المطبوعات – تأمين وبدلات الأتعاب ) و موظفي الدولة (المخصصات والرواتب والأجور وملحقاتها والمنافع والتقديمات الإجتماعية كمعاشات التقاعد وتعويض نهاية الخدمة، والإشتراكات والمساهمات في صناديق التعاضد) ، مساهمات للرواتب والأجور في المؤسسات العامة ومساهمات وعطاءات لهيئات لا تتوخى الربح ، النفقات المختلفة ( نقل وإنتقال ونفقات إستشفاء )، والنفقات المالية وهي فوائد الدين العام بالليرة اللبنانية والعملات الأجنبية. ومن خلال المقارنة بين ما كان ينفق على هذه البنود قبل العام 2019 وبعده يتبين أنها تساوي 29% فقط من القدرة الشرائية عندما كان سعر الصرف 1507.5 ما يعني أن رواتب القطاع العام فقدت ما بين 85 الى 90% من قيمتها الشرائية. أكثر من ذلك يمكن القول إن تباهي رئيس الحكومة من أن الموازنة الحالية لا تعاني من صفر عجز في غير محله بالنظر إلى ما تضمنته من ارتكابات مجحفة بحق المواطنين.
يمكن وصف الخلل الذي تعانيه مؤسسات القطاع العام بأنه نتيجة مباشرة لوضع الموازنات العامة التي وضعتها الحكومات المتعاقبة، فالواضح أن النفقات الاجتماعية في الموازنات تتراجع تباعاُ، وهو ما ينطبق على الصحة والتعليم والضمانات الاجتماعية إضافة إلى الرواتب والأجور. لذا لا يدخل في باب العجائب أن تتعطل مرافق أساسية والحصول على أدوية الامراض المزمنة وتعذر الحصول على قطع غيار يجب أن تدفع أثمانها بالدولار الأميركي في قطاعات الكهرباء والمياه والجسور، وكل ما يرتبط بالاشغال العامة من أعمال صيانة وتجهيز واستعداد لمواجهة الأجواء المناخية ( تعطيل المرافيء والمطار ووسائل النقل العام، طوفان مياه الامطار وتعطيل المرور تحت الجسور وفي محاذاة الشواطيء، انهيارات في الجبال المحاذية للطرقات الدولية، تراكم الثلوج، غياب الصيانة عن الشوارع وما شابه).
ومن شأن غياب الانفاق الاستثماري على هذا النحو المعتمد أن يعمق الخلل في الموازنة العامة للدولة وجملة الاقتصاد، التي وفقاً لما هو معمول به في كل دول العالم هي قانون تحدد بموجبه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة. ومعها المتوجبات الانفاقية لقيام مؤسسات الدولة بواجباتها الدفاعية والأمنية والخارجية والعدالة والوظائف الإقتصادية والإجتماعية، ولا سيما في مجالات الصحة والتربية والتعليم والخدمات الأساسية مثل تأمين الماء والكهرباء والمواصلات والإتصالات والمدرسة والجامعة وغيرها. وتحصل الدولة على الأموال اللازمة لتغطية أكلاف هذه المجالات من الضرائب والرسوم ومن أملاك الدولة العامة والخاصة. وتتحدد وظيفة الموازنات العامة في كل دول العالم بتحقيق الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي وما يتطلبه من توزيع الثروة ومكافحة البطالة والفقر والجوع، وفق منطق العدالة الاجتماعية التي تتيح لسائر فئات المجتمع، ولا سيما الطبقات الفقيرة والمتوسطة الحصول على حاجاتها من التعليم والصحة وباقي الخدمات الحيوية بما فيها الرفاهية. أي أن الدولة تستطيع من خلال الموازنة وما تتضمنه من واردات ونفقات أن تقلص من معدلات الفقر والبطالة والحاجة من خلال زيادة النفقات المباشرة، ورفع نسبة الانفاق على المناطق الأكثر حاجة للتنمية لتجاوز إعاقات الاقتصاد في المناطق المتخلفة. ومن غرائب موازنات الدولة في لبنان أنها باتت أعجز عن تسيير القطاع العام لأكثر من يومي عمل من أصل خمسة أيام أسبوعياً، أي أن قوة العمل في الإدارات العامة معطلة بنسبة 56% ، هذا مع العلم أن الكثير من مرافق الدولة تعاني من نقص في الكادر الوظيفي (تصل في بعض الوزارات الحيوية إلى أكثر من ثلث قوتها العاملة) نظرا لخروج أعداد من الخدمة الفعلية إلى التقاعد. وقد انسحب مثل هذا الوضع من الإدارات العامة ليصل إلى مؤسستي الجيش وقوى الأمن الداخلي، اللتين بات بإمكان المنتسبين إلى صفوفهما من ضباط وجنود العمل في مؤسسات القطاع الخاص لتأمين دخل إضافي يساعد على تأمين مصارفات عائلاتهم الضرورية.
من تطال الضرائب؟
أما فيما يتعلق بالواردات في مشروع موازنة العام 2024 فيتبين أن مصدرها يتمثل في إيرادات الضرائب والرسوم، وكذلك إيرادات غير ضريبية من حاصلات إدارات ومؤسسات عامة وأملاك الدولة العامة والخاصة ومن القروض ( الدين العام ). والملفت أن هذه الضرائب والرسوم ارتفعت بنسب خيالية قياساً إلى ما كانت عليه العام الماضي، ولعل الحد الأدنى لهذه الارتفاعات هو 10 أضعاف إلا أنها بلغت في المتوسط 46 ضعفاً ووصلت في بعض البنود إلى مائة مرة وأكثر. وبالطبع لم تتم مراعاة المداخيل العامة وجملة الأوضاع الاجتماعية التي تعاني منها أكثرية فئات المجتمع اللبناني التي ستقع في عجز عن دفع فاتورة الكهرباء ورسوم البلدية والمياه والميكانيك والمعاملات من أبسطها إلى أعقدها.
ومن بين الضرائب والرسوم المعدلة في موازنة 2024 زيادة القيم التأجيرية على المساكن 10 مرات، وعلى غير المساكن ما بين 10 – 20 مرة، ورفع طابع المختار من5 الآف ليرة إلى 50 ألف ليرة، وعلى الغرامات غير المنصوص عنها بشكل صريح 40 ضعفاً شرط ألا تقل عن250 ألف ليرة، ورفع الضريبة على طن الاسمنت من 6ألاف إلى 300 ألف ليرة، وزيادة غرامة التأخير في تنفيذ وثيقة الوفاة من 100ألف إلى 1.5 مليون ليرة، وزيادة رخصة السير من 200ألف إلى 2 مليون ليرة، ورسوم امتحان رخصة السوق من 30 ألف إلى 300 ألف ليرة، ورسم الطابع على الفواتير بمقدار 20 ضعفا، وكلفة السجل العدلي تصبح 50 ألف بدل 5 الآف ليرة، وكلفة اخراج القيد الفردي أو العائلي تصبح 100ألف ليرة، والمصادقات والافادات التي تصدر عن وزارة الخارجية والمغتربين تصبح 250 ألف ليرة، ورخصة البناء تصبح100 ألف ليرة عن كل متر مربع وبحد أقصى هو 12.5 مليون ليرة للرخصة، و50 ألف ليرة عن كل تلميذ في المدارس الخاصة على أن تدفع في شهر كانون الثاني سنويا، و 15ألف ليرة كرسم استهلاك داخلي عن كل ليتر من مشروبات الطاقة، ورسم عن كل طلب مقدم لمصلحة حماية الملكية الفكرية إلى 2 مليون ليرة، وضريبة 3% من أموال المتوفي قبل توزيعها على الورثة. ورسم الترشح للانتخابات النيابية 200 مليون ليرة، وللانتخابات البلدية 50 مليون، وللاختيارية 20 مليون ليرة، وإخضاع الإيرادات التي حققها الأشخاص والشركات نتيجة عمليات صيرفة لضريبة استثنائية نسبتها 17%، واستحداث بدل خدمات سريعة وطارئة لدى الإدارات العامة. وفرضت رسم خروج على المسافرين بطريق الجو أو البحر ورسم دخول على غير اللبنانيين على الشكل التالي:
– 35 دولاراً عن كل مسافر من الدرجة السياحية.
– 50 دولاراً على كل مسافر من درجة رجال الأعمال.
-65 دولاراً على كل مسافر من الدرجة الأولى.
-100 دولار على كل مسافر على متن طائرات أو يخوت خاصة.
فرض رسم على المنتجات المستوردة من التبغ والتنباك والسيجارة الإلكترونية على الشكل التالي:
-11500 ليرة عن كل علبة سجائر تحتوي 20 سيجارة عادية أو إلكترونية.
– 115 ألف ليرة على الكيلوغرام الواحد من التبغ المعسل وتبغ النرجيلة.
– 20 في المئة من سعر مبيع السيجار بالمفرق.
التهرب والتهريب الضريبي
كما تمت مضاعفة ضريبة الدخل على الرواتب والأجور بنحو 60 ضعفاً، وتم اعتمادها على أساس سعر الصرف الفعلي للدولار أي 89500 ليرة. بالمقابل، ألغى مجلس النواب المادة رقم 93 المتعلّقة بالمعالجة الإستثنائية لتعويضات نهاية الخدمة وفقاً للمادة 51 من قانون الضمان الإجتماعي والتي تحتسب التعويضات على أساس سعر الصرف 15 الف ليرة.
ومن التعديلات الضريبية أيضاً فرض رسوم على المنتجات الكحولية المنتجة محلياً، ورسوم على كافة المعاملات الشخصية لدى المخاتير. كما تمت مضاعفة الرسوم البلدية بين 10 و20 مرة حسب ارتفاع الوحدة السكنية.
ولم يفت وزارة المال إدراج مجموعة من التسويات الضريبية للمتخلفين عن سدادها، كما جرت العادة في كل موازنة عامة، حتى باتت مسألة التهرب الضريبي والتخلف عن السداد، أشبه بنهج معتمد من قبل مجموعة من المكلفين، لاسيما منهم أصحاب الرساميل والمؤسسات الذين تطالهم التسويات الضريبية كل عام.
وقد بلغت نسبة الإيرادات من الضرائب والرسوم 69% ونسبة الإيرادات غير الضريبية 17%، ونسبة القروض 14% . ومعه باتت الزيادة في الضرائب غير المباشرة التي تنوي السلطة تحميلها للبنانيين تساوي ثلاثة أضعاف الزيادة في الضرائب المباشرة، علماً بأن الضرائب غير المباشرة تشكل العبء الأكبر على ميزانيات الأسر الفقيرة والمتوسطة الدخل، بينما الضرائب المباشرة تتحمل عبئها على العموم الطبقات الغنية والميسورة، إذ تمثل الضرائب المباشرة حوالي 20% فقط من إيرادات الموازنة العامة والضرائب غير المباشرة تشكل 80% .علماً بأن الضرائب على الرواتب تطال فئة الموظفين والمستخدمين الذين لا يستطيعون ممارسة التهرب الضريبي كما تفعل الشركات وأصحاب الرساميل، وهذه الفئات المحدودة الدخل باتت على خط الفقر وما دون. خصوصاً مع تراجع القدرة الشرائية لمعظم اللبنانيين نتيجة تراجع أجورهم ومداخيلهم بفعل تدهور سعر صرف الليرة بالقياس إلى الدولار الأميركي، التي قدر صندوق النقد الدولي نسبة تراجعها بحوالي 98.5% ، وبالتالي انخفضت القدرة الشرائية لمداخيل معظم اللبنانيين بهذه النسبة، في اقتصاد يعاني من تضخم وانكماش حادين لا يخفف من وطأتهما أموال المغتربين المرسلة إلى ذويهم شهريا وتمضيتهم إجازاتهم الصيفية في ربوع وطنهم الأم.
دون المزيد من التفاصيل يمكن ملاحظة غياب الكثير من البنود التي تدر على الدولة واردات فعلية تدخل في باب الضرائب غير المباشرة، وهي تطال الفئات التي أفادت من كل ما شهدته سنوات الانهيار المالي والنقدي من تلاعب، إذ الواضح أن الضرائب والرسوم طالت أكثر ما طالت الموظفين والفئات الفقيرة وما تبقى من طبقة وسطى تناضل لتأمين الحد الأدنى من مقومات العيش.
Leave a Comment