كان المأمون يدفع وزن الكتاب المترجم ذهبًا؛ وكلّ ذلك من أجل نقل علوم وحكم الشعوب الأخرى إلى الثقافة العربية. بهذه الطريقة، هضم العرب النتاجات الفكرية والثقافية للآخر، وطوّعوها، إلى جانب الدين والسيف. إنّ استبصارًا بغايات الرقابة التي مُورست من قبل الجهات المسؤولة عن السوشيال ميديا، من فيسبوك، وإنستغرام، وغيرها، على نقل المجازر التي تُرتكب في غزة، بحيث أصبحت الخوارزميات تمنع نشر الأخبار المتعلقة بغزة، مع أنّها، في الأعم الأغلب، مكتوبة باللغة العربية، فهي مقدّمة من عرب إلى عرب، فلماذا الخوف منها! يكشف لنا هذا الاستبصار عن حجم الخوف من اطلاع الآخر الغربي على التراجيديا الفلسطينية المستمرة منذ وعد بلفور. إنّ تواجد صلاحية ترجمة المكتوب إلى لغات المعمورة على السوشيال ميديا هو ما أرعب تلك الجهات المسؤولة عنها. الأمر الثاني، تحوّلها إلى ترند، وتصدّرها رأس قائمة الأخبار. وهذا سيجعل المتلقي الغربي (الفرد العادي) يطلع على حجم المجزرة، ويشكل ضغطًا على حكوماته. الأمر الثالث هو إجبار المستخدم العربي على التحايل على تلك الخوارزميات، وكتابة الخبر بالرموز والصور، أي إخراج منشوره عن إمكانية الترجمة. كلّ هذه الإجراءات القمعية، التي تناولت منابر الثقافة الشعبية تكشف الخبث الإعلامي المسيطر على وسائل الميديا الشعبية، بإدارة معركة لا تتم بالسلاح فقط، بل بالقوة الناعمة أيضًا.
جهد الإسرائيليون لجعل قانون معاداة السامية متواجدًا في كل مكان، مستندين إلى الهولوكوست إبّان حكم النازية، وما وقع على اليهود من فظائع في المعتقلات الألمانية، مع غيرهم من الشعوب التي فتك بها النازيون، والتي غيّبت عن المشهد المريع، وكأنّ التطهير العرقي لم يحدث إلّا لليهود! هذا القانون لا يتعلّق بالاعتداء الجسدي على إنسان آخر، والذي بطبيعة الحال تطاوله القوانين الجزائية، بل يرتبط بإدارة مصادر الثقافة الشعبية، فهو يتحكّم بالسينما والتلفزيون والكتب، وما شابهها من مصادر الثقافة الشعبية، وكلّ ذلك من أجل تسييد السردية التي يراها الصهاينة مناسبة لهم، خالطين السّمّ بالدسم بالعلن، أو في الخفاء. وكلنا نتذكّر أغنية فرقة البوني إم (Rivers of Babyion) التي رقصنا عليها من الغرب إلى الشرق ـ من دون أن نعرف معانيها ـ والتي تتكلّم عن السبي البابلي لليهود من فلسطين إلى بلاد ما بين النهرين. ليس مهمًا في الثقافة الشعبية التمحيص الأكاديمي عن صحّة هذا السبي من عدمه، ما دامت قد قدّمت بشكل فني جيد. فمن يهتم عندما يقول عالم الآثار الإسرائيلي زئيف هرتزوغ: “إنّ الإسرائيليين لم يكونوا عبيدًا ـ يقصد في مصر ـ ولم يتيهوا في الصحراء، كما أنّهم لم يدخلوا إلى أرض كنعان كأبطال منتصرين”، بل حتى إنّ علماء الآثار الإسرائيليين نخلوا أرض فلسطين ولم يجدوا إلّا أوهامهم. هذه الحقائق الأكاديمية تظلّ حبيسة أذهان المفكرين في دوائرهم الضيقة، ولا تؤثّر على الناخب العادي في الديمقراطيات الغربية.
يقول الكاتب روالد دال، الذي صُنف كمعادٍ للسامية، لأنّه فضح ما يدور في كواليس الثقافة الشعبية في الغرب: “أنا بالتأكيد معادٍ لإسرائيل، وقد أصبحت معاديًا للسامية، بقدر ما تجد شخصًا يهوديًا في بلد آخر، مثل إنكلترا، يدعم الصهيونية بقوة. أعتقد أنّهم يجب أن يروا كلا الجانبين. لا يوجد أي ناشر كتب غير يهودي هنا. إنّهم يسيطرون على وسائل الإعلام ـ وهو أمر ذكي للغاية ـ ولهذا يتعيّن على رئيس الولايات المتحدة أن يقدّم كلّ شيء لإسرائيل”.
في مقال الكاتبة ميسون شقير في “ضفة ثالثة” بعنوان: “نظرة على خصوصية الحراك الأكاديمي الإسباني الداعم لفلسطين” تكشف لنا عن المفارقة المعرفية عن نوعية الاهتمام بما يحدث في غزة، فالاهتمام الأكاديمي سيظل ضمن الدائرة الضيقة حتى ولو تبنّاه الطلاب. سنقول إن الرمد خير من العمى، لكن كم يحتاج هذا النشاط الأكاديمي حتى ينتقل إلى الأوساط الشعبية؟ لننتقل إلى إحدى المؤثرات في الثقافة الشعبية، وهي الفلسطينية جيجي حديد، التي أعلنت على إنستغرام بأنّها ستتبرّع بعائداتها لعام 2022 لمساعدة غزة وأوكرانيا، فما الذي فعلته مجلة فوغ المهتمة بالأزياء والمشاهير؛ لقد حذفت فلسطين من الخبر المتعلّق بجيجي حديد. والسؤال الآن من يهتم بحذف تضامن الأكاديميين الإسبان مع غزة، لا أحد! لكن خبر جيجي حديد له أهميته في الثقافة الشعبية، ولذلك كثرت الاحتجاجات على ما فعلته مجلة فوغ.
ما أقصده من هذه المقارنة أنّ تشي غيفارا بذاته يحتاج إلى الثقافة الشعبية. قام المصور الكوبي ألبيرتو كوردا بعمل روتيني، وذلك بالتقاط صورة لوزير الصناعة في الحكومة الجديدة التي تشكّلت بعد انهيار حكم باتيستا تحت ضربات ثوار (الغوار). هذا الوزير لم يكن إلا أرنستو تشي غيفارا. عنونت الصورة بـ(الثائر البطل)، ولم تجد طريقها للنشر في جريدة الثورة الناطقة باسم حكومة الثوار بعد سقوط باتيستا واستلام فديل كاسترو الحكم في كوبا، بل علّقها المصوِّر على حائط الاستوديو لديه. ظلّت الصورة التي يظهر بها تشي بعينين تنظران إلى الأفق مع البيريه الحمراء والشعر المرسل واللحية غير المشذّبة حبيسة حائط الاستديو. وقد قيل في ما بعد كانت نظرته تحمل معاني الغضب والألم واستشراف حلمه الثوري بتحويل أميركا اللاتينية إلى وحدة يتحقّق بها حلمه، عندما تجول في تلك البلاد على ظهر دراجة نارية.
غادر تشي وراء حلمه إلى الكونغو، ومن ثم إلى بوليفيا، وهناك قال لقاتليه: “أيّها الجبناء لن تقتلوا إلّا رجلًا”، وبعدها انفجرت الصورة لتتحوّل إلى أيقونة لكلّ الحركات الثورية، حيث كرستها ثورة 68 الطلابية في فرنسا، ولعب اليساري الإيطالي جيانجياكو فليترنيللي دورًا محوريًا في انتشار الصورة.
تكاد تكون هذه الصورة الأشهر على الإطلاق من حيث إعادة الطباعة والقولبة. ولقد أضيفت إليها محاميل أخرى، وإن كانت ثيمتها، الثورة ضد المؤسسة، فقد استخدمها الجيل الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية من دون تمحيص لمن تعود هذه الصورة ولا لأسباب التقاطها، بل كانت لديه معلومات قليلة عن ثائر يُدعى تشي، ثار ضد الديكتاتور باتيستا، وهذا كاف لتتبنّاها الحركات الثورية، فلقد غدت رمزًا للتمرّد بشكل مطلق. مجرد صورة أصبحت أهم من كل الأدبيات الأكاديمية الثورية وأكثر تأثيرًا منها بألف مرة.
لدينا في مواجهة الغرب، المفكّر الأكاديمي إدوارد سعيد، والذي فكّك الفكر الغربي الاستعماري بعمق وقوة، عبر أدواته ذاتها، فنال الاحترام والتبجيل، لكن لنذهب لمن وصفهم أمبرتو إيكو بفيالق الحمقى، فهل يعرفون سعيد وفكره، إذا كان فكره بالنسبة إلينا قد غاب وانتهى. يقول إيكو بأنّ مواقع مثل تويتر وفيسبوك: “تمنح حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلّمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا. أمّا الآن، فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل”. إنّه غزو البلهاء، هؤلاء البلهاء هم قوة ضاربة، لأنّهم المستهلكون ـ حجر العقد ـ في النظام الرأسمالي الغربي، لذلك يطوّعهم، وفي الوقت نفسه، يظهر بأنّه المستجيب لطلباتهم. إنّ مظاهرة صغيرة في بلد غربي تقلق الصهيونية العالمية، ورأس المال الغربي، أكثر بألف مرة من مظاهرة تمتد من الماء إلى الماء في بلادنا العربية. ولنتذكّر أنّ الديمقراطية اليونانية هي من أعدمت سقراط، فقط لأنّ أعداءه سيطروا على الرأي العام في المحكمة.
ولدينا أيضًا شعراء لهم مكانتهم؛ والسؤال إلى كم لغة ترجمت قصائدهم؟ وكم عدد الذين يعرفونهم من الأكاديميين الغربيين؟ لا أقول الناس العاديين في الغرب، كما نعرف نحن شعر بودلير، أو رامبو! هذا ليس استهانة بتلك الأسماء، التي قامت بدورها كما يجب وأكثر، ولكن أدوات الحروب تختلف من زمن إلى آخر. ومن هنا، نتساءل عمّا قمنا به من أجل سرد المأساة الفلسطينية للشعوب الغربية، هل هناك من فيلم عربي، أو فلسطيني، أو رواية، أو أغنية لها تأثير في الغرب؟ ولنتخيل قليلًا: ألّا يحقّ أن يكون حنظلة بطلًا عالميًا، أو ثيمة عالمية، كما حدث في مسلسل: “لاكاسا دي بابل” لوجه الرسام السوريالي سلفادور دالي، الذي أصبح رمزًا للحرية والتمرّد على النظام الرأسمالي. نحن لا نقول بأنّه لا يوجد ترجمات موجّهة للثقافة الشعبية الغربية، لكنّ المدقّق يكتشف بأنّ أكثر ما ترجم يخدم وجهة النظر الاستشراقية، فما نفعه لقضايانا المصيرية.
في نهاية هذا المقال، أقول: ماذا لو كانت أغنية “الغضب الساطع” لفيروز لها نسخة بإحدى اللغات الأجنبية الرئيسية! ماذا لو كانت روايات غسان كنفاني مترجمة إلى كل لغات العالم الغربي! ماذا لو كانت أغاني مرسيل خليفة مترجمة أيضًا! وماذا لو كان لدينا مثل الرسام الغرافيتي “بانسكي” ليرسم في شوارع حي هارلم في نيويورك حنظلة مديرًا ظهره لكل هذا الوجود العفن! وماذا لو كان لدينا مأمونًا يدفع بالذهب لتترجم فجيعتنا الصامتة إلى الغرب!
*نشرت في العربي الجديد – ضفة ثالثة بتاريخ 16 شباط / فبراير 2024
Leave a Comment