وليد نويهض*
كان اللقاء في مكتب مدير تحرير صحيفة “السفير” باسم السّبع في أيلول/سبتمبر 1982. اللقاء حصل مصادفةً حين توجّهتُ إلى مكتب الصحيفة في رأس بيروت، لمتابعة آخر الأخبار التي استجدت بعد إعلان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن موافقتها على مغادرة بيروت بحرًا إلى تونس وبرًّا إلى سورية.
جاء القرار بعد نحو ثلاثة أشهر من الحصار الذي تعرّضت له المدينة بعد اجتياح الجنوب والوسط والالتفاف حولها شرقًا وشمالًا، وقطع المعابر التي تربط بيروت بالطرقات الحيويّة التي تنقل إليها حاجاتها اليومية من الغذاء والدواء والمياه.
أصبحت العاصمة مفصولة عن العالم ومعزولة عن محيطها وبات ما تبقى من سكانها المحاصرين في الأزقّة والأحياء، يعانون من شحِّ الطعام وانقطاع الماء والكهرباء والمحروقات عن العائلات والأطفال والنساء. فالشوارع الرئيسيّة تحوّلت إلى أشلاء مدمّرة نتيجة القصف الجوّي والبرّي والبحري الذي لم ينقطع طوال الأيام والأسابيع، لإجبار أهل بيروت على الانتفاض ضدّ المقاومة الفلسطينية/اللبنانية.
لم تحصل الانتفاضة، إلّا أن معاناة الناس أخذت تظهر في حياة تلك الأُسر، وتنعكس سلبًا على حاجاتها اليوميّة المضافة إلى المخاطر الأمنيّة، والمخاوف من امتداد الحصار الذي بدأ يشتدّ بسبب السكوت الرسمي العربي والصمت الدولي.
باتت القيادة الفلسطينية مُحرجة في تعاملها اليومي مع مآسي أهل بيروت. فهي إن واصلت المواجهة من دون أفق سياسي واضح المعالم ستتضاعف مشكلات الناس، بعد تراجع احتياط مخزون الغذاء والطحين والحبوب والانقطاع الدائم للكهرباء ونفاذ المحروقات، وتوقّف سير المركبات ومحطات توليد الطاقة.
تحوّلت بيروت المستنزفة إلى شبه مدينة أشباح، وبدأت مداخل العاصمة ومخارجها تشهد حركة نزوح ومغادرة هرَبًا من آتون القصف الدائم، وعمليّات الكرّ والفرّ العسكريّة في المعابر ومحيط المطار والضواحي.
آنذاك وفي فضاء التنازع بين قرارَي الصمود حتى الرّمق الأخير أو الانسحاب لحماية أرواح مَن تبقّى من سكان المدينة، قرّرت القيادة الفلسطينية اتخاذ القرار الصعب، والموافقة على خطة مشروع المغادرة من مرفأ بيروت بإشراف دولي ومراقبة قوّات منتدبة من الأمم المتحدة.
كانت الخطوة صادمة، إلّا أنها أصبحت ضروريّة بعد أن طال انتظار التدخل العربي للإنقاذ من دون نتيجة. فالقيادة الفلسطينيّة/اللبنانيّة أدركت أنّه لا مناص من المغادرة وبدء التفاوض مع الدول الكبرى للتفاهم على صيغة عادلة تضمن أمن المخيّمات وحقوق الشعب الفلسطيني.
لم يعد بالإمكان تأخير اتخاذ القرار، لذلك جاءت الخطوة لتلبّي حاجات أهل بيروت، وتوقّف النّزف الدموي الذي تتعرّض له الأحياء والأزقّة والعائلات التي باتت تعيش في الملاجئ والطبقات التحتيّة في العمارات والأبنية في رأس بيروت، بعد أن تحوّلت المدينة كلّها إلى مساحات وأمكنة غير آمنة.
أُتُّخذ قرار المغادرة وبات الأمر يقتصر على الاتفاق على التفاصيل، ومنها إعطاء ضمانات لتأمين حياة وأمن الناس في المخيّمات والمدينة. وبسبب خطورة الموقف والمخاوف من احتمال الغدر بالاتفاق العام، كان لا بدّ من الغوص في التفاصيل التي تضمن عدم اقتحام القوات “الإسرائيليّة” العاصمة بعد رحيل الفصائل الفلسطينية المسلّحة من المدينة.
ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل لعبت القيادة اللبنانية المتحالفة مع قيادة منظمة التحرير دور الضابط الحريص على ضمان عدم الغدر والنكث بالوعود، في اعتبار أن أهالي بيروت سيمكثون في منازلهم حيث هم، وبالتالي سيصبح الناس في مقدّمة الخطوط الأمامية في حال اتّبعت “إسرائيل” سياسة الغدر واختراق الثغرات العسكريّة والدخول إلى الأحياء والانتقام من السكان.
كانت المسؤولية كبيرة على الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنية اللبنانية الرفيق محسن إبراهيم (أبو خالد) في تلك اللحظات الانعطافيّة الرهيبة. فهو في واجهة الصورة بعد تنفيذ قرار المغادرة، لذلك كان عليه أن يتابع مختلف التفاصيل بالتعاون مع قادة ورموز الحركة الوطنية التي أخذت تفكّر في دورها وكيفيّة التعاطي مع تلك المهمّات الثقيلة والمضافة إليها.
أصبحت المسألة أكثر تعقيدًا وتتطلّب المزيد من المعلومات لإعادة دراستها حتى لا تكون الخطوات المقبلة ناقصة، لذلك جاء الرفيق محسن إلى “السفير” للاطّلاع على أخبارها وتداول المعلومات بشأن احتمال نشوء فراغات أمنية تهدّد حياة الناس.
عندما دخلتُ إلى غرفة مدير التحرير كان أبو خالد مطرقًا في لحظات تفكير عميقة وصامتة. فالمكان أشبه بالفراغ على رغم الضجيج الخارجي بشأن الانسحاب وما سيعقبه من انعطافات مصيريّة.
دخلت غرفة باسم السّبع الذي غادرها إلى قسم الأخبار لمتابعة آخر المستجدّات. كان الرفيق محسن لوحده غارقًا في صمت لا يحتاج إلى كلام أو مزيد من التحليلات. فالوقائع الميدانيّة أصدق من الأنباء، وهي بحاجة إلى إعادة قراءة هادئة لترتيب الأولويّات ومنع الانهيار وسدّ الثغرات والحدّ من الفراغات واحتمال الانفلات الأمني في حال وصلت المجاعة إلى حدّ الانفجار.
بعد السلام والاطمئنان عاد السكون يسيطر على أجواء الغرفة. فالرفيق محسن كان على غير عادته ولا يريد أن يغرق في تحليلات لمعرفة خفايا ما حصل، لأن كل الاحتمالات واردة، وهي لم تعد مفيدة لتداولها بعد أن وصلت الأمور إلى النتائج التي توصّلت إليها.
كانت اللحظات مجرّد قراءات صامتة في أيام صعبة آتية وغير واضحة في معالمها وتداعياتها. فالسكوت كان أفضل من الكلام في اعتبار أن التحليلات لن تنجح في الردِّ على أسئلة الغد وما ستنتجه الفراغات من ارتدادات.
جاء أبو خالد إلى “السفير” للاستماع إلى آخر المستجدّات والأخبار، لأن المعلومات تساعد على التفكير الصامت بماذا حدث وماذا سيحدث، وبالتالي ليس هناك حاجة للكلام والمراجعة ما دامت الأنباء تؤشّر إلى تحوّلات انعطافيّة في الساحات القتاليّة والميدانيّة.
كان صمت الرفيق محسن له دلالة، ويُرسل إشارة تفكير عميقة لِما بعد مرحلة الخروج الفلسطيني المسلّح من بيروت. فاللحظات صعبة ولأنّها كذلك أصبح الصمت أكثر بلاغة وأكثر قدرة على استكشاف خريطة طريق لمواجهة المتغيّرات التي سترتسم خطواتها حين تصبح التركة الثقيلة من مسؤوليات القيادة الوطنية اللبنانية.
غادر الرفيق محسن مبنى الصحيفة وهو مُغرق في التفكير، ولا يريد التحدّث بما حصل وماذا سيفعل بعد مغادرة القوات الفلسطينيّة.
كان ذاك هو اللقاء الأخير معه، لأنه بعد الخروج المسلّح الفلسطيني من بيروت ستحصل الكثير من التداعيات والارتدادات منها اقتحام الجيش الإسرائيلي المدينة واحتلالها وارتكاب مجزرة مخيّمات صبرا وشاتيلا.
شكّلت تلك السياسة الغادرة نقطة تحوّل مضافة إلى الانعطافة المصيريّة التي حصلت في صيف العام 1982. فالصّمت ولّد شرارة انطلقت من شعاعها الدائري نار انتفاضة مسلّحة أخرجت قوات الاحتلال من الشوارع والأزقّة والأحياء، لتبدأ بعدها عمليّات التحرير التي باشرتها جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) في مختلف المناطق المحتلّة.
كان للصمت دلالته الرمزيّة ولم يكن يحتاج إلى كلام لتوضيح معالمه بعد أن أخذت الساحات والميادين تُرسل إشاراتها إلى الجوار والمحيط.
جاء سكوت الرفيق محسن في مكانه، لأن الغرف لها آذان وهي تتطلّب التفكير الصامت أكثر من الكلام والتحليل.
غادر أبو خالد المبنى ولم ألتقِه ثانيةً، لأن البلاد تغيّرت وبدأت الاغتيالات المجنونة تحصد خيرة شباب المقاومة الوطنية اللبنانية، ما أجبر شريحة واسعة من “النخبة” على ترك لبنان والتوجّه إلى العواصم الأوروبيّة.
صمد الرفيق محسن ولم يترك مكانه، واستمرّ يناهض تداعيات تلك الانعطافة وارتداداتها السياسية بصمت وجهد حرص على اتّباعه إلى أن غادر الدنيا منذ سنة، وسط سُكوت كان له وقعه وأكثر بلاغة من الكتب.
*مفكر وكاتب وصحافي لبناني
Leave a Comment