زهير هواري
طوى العام 2022 أيامه ووضعها في خزانة التاريخ، وأطل العام 2023 وهو لا يحمل معه أي بشائر جدية، سوى ما يتحفنا به رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي عن نمو متحقق في العام المنصرم نسبته 2% ونمو متوقع بنسبة 5% العام الآتي، علماً أن البنك الدولي يتوقع انكماشاً في الاقتصاد اللبناني خلاله بنسبة تصل إلى 5.9%. ووسط مناخات الأزمة وتمددها على سائر القطاعات وشمولها أكثر من 90% من اللبنانيين، غاب الحديث عن الثروة الآتية مع تدفق النفط والغاز من تحت مياه البحر. وهي ثروة قيل إنه من شأنها أن تجعل لبنان دولة نفطية، مع كل ما يرافق ذلك من بحبوحة واستثمارات. أما الناس في لبنان فلا يشاركون رئيس حكومتهم التفاؤل، بالنظر إلى الأداء السياسي العام لطبقة سياسية – مالية تستثمر في مصائبهم، وتراكم المليارات في حساباتها الخارجية طبعاً، بدليل أن الرئيس ميقاتي زادت ثروته هذا العام 700 مليون دولار وكذلك شقيقه طه. يمكن التعريج على كل من يندرجون في هذه الخانة من سياسيين ومصرفيين ومستثمرين ليظهر من خلالها أين تذهب أموال اللبنانيين، ومن يحقق المزيد من الثروات على حساب تحقيق الحد الأدنى من معيشة معظم اللبنانيين، الذين يكافحون لضمان تأمين الاوليات البسيطة من المأكل والملبس والأدوية والاستشفاء ودفع إيجارات منازلهم وفواتير الماء والكهرباء والاتصالات وما شابه.
ومرت الأعياد، الميلاد ورأس السنة دون أن تجد في المدن مظاهر طالما تعودها المواطنون، فلا زينة ولا إضاءة للشوارع التجارية والبيوت، ولا سهرات عائلية حتى. فقط شهدت بعض المحال والمرابع السياحية حركة ناشطة استفادت من عودة اللبنانيين المهاجرين إلى البلاد، لاقناع نفسها أولاً والآخرين ثانياً، أن الأمور ما تزال بخير، وأن الانهيار ليس بالحدة التي يتصورها البعض. المهم أن اللبنانيين انقسموا في الايام الماضية إلى قسمين وليس ثلاثة كما كانوا عليه، قسم أنفق مئات وألوف الدولارات على رفاهيته في المطاعم والملاهي ومحال الهدايا والثياب والمجوهرات الفاخرة . وقسم ثانٍ انطوى على نفسه، مستذكراً ما كانت عليه الأوضاع قبلاً لمن هم أمثاله من الطبقة الوسطى، بينما الأكثرية الساحقة كانت تفكر كيف ستؤمن لعائلتها قوت غدها، مع الانهيار المتمادي في سعر صرف الليرة التي قاربت الـ 50 ألف للدولار الواحد قبل عودته إلى التراجع قليلاً ، ما ألهب سائر أسعار السلع سواء أكانت مستوردة أم منتجة محلياً. ولأن اللبنانيين لن يلدغوا من ثعابين هذه الطبقة المجرمة الفاسدة مرات ومرات، كانوا يعودون بالذاكرة إلى وقائع عام مضى، وكيف أمكن لهذه الطبقة أن تُبقي البلاد تدور في حلقة الانهيار المفرغة، دون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، باتجاه لجم الانهيار وإيقافه عند حدوده، ثم الشروع في معالجة أسبابه الجوهرية. والواقع أنه خلال الـ 365 يوماً الماضية تفننت هذه الطبقة في إبقاء الأمور فالتة على غاربها، فلا الاتفاقات بالاحرف الأولى أو عبر اتفاق الموظفين مع البنك الدولي باعتباره الوصفة السحرية، تقدمت خطوة واحدة نحو سن التشريعات الملائمة. ولا سعر الصرف استقر على سعر موحد أو سعرين. ولا التوصيات التي جرى الاتفاق عليها تزحزحت من حالة الجمود. وهكذا دار قانون “الكابيتال كونترول” دوراته في اللجان، وما زال الخلاف الفعلي يدور بين من يريد تقديم خدمة مدفوعة للمصارف بتحميل الدولة منفردة عبء الخسائر التي أصابت الاقتصاد من خلال السطو على ممتلكاتها، وآخرين يرون أن المسؤولية يتحملها المواطنون الذين وضعوا أموالهم في خزائن المصارف، التي أودعتها بدورها مصرف لبنان طمعاً بتحقيق فوائد خيالية، فأنفقتها الدولة و”بذَّرتها” دون أي أن تنجح في علاج واحدة من المشكلات التي كانت في أساس انهيار البلاد واقتصادها. وكما حدث لمشروع قانون “الكابيتال كونترول” من نقاش لا ينتهي “طنَّش” المجلس النيابي ومعه الحكومة عن موضوع إعادة هيكلة المصارف، وتخفيض عددها إلى ما يتلاءم مع ما صار عليه الاقتصاد اللبناني من ضمور، استجابة لما ترغب وتشتهي جمعية المصارف. والحقيقة أن الجمعية خاضت في غضون الأشهر الماضية حرباً ضروساً لتبرير ساحتها أمام المودعين الذين اقتحم عدد منهم مراكزها مطالبين بودائعهم لأسباب صحية أو ما شابه من ضرورات العيش. ونظمت الجمعية حملات اعلانية يراها المواطنون كل مساء على شاشات التلفزة. أما ما لا يرونه فهو المتعلق بعلاقاتها وإكرامياتها التي تصل إلى النافذين في المجلس والحكومة لحرف التشريع والتقرير عن مساره، وجعله على قياس مصالح هذه الفئة دون النظرإلى مصالح المواطنين. واذا توسعنا أكثر نجد أن كل الملفات التي صدرت توصيات دولية بشأنها ما تزال عالقة، وما يسير بالحد الأدنى يعتمد على ما تبقى من أموال مودعة في المصرف المركزي. وهو ما يصح على ملف الكهرباء وتزويد البلاد بطاقة حدها كما شرح لنا وزير الطاقة حوالي 10 ساعات يومياً، ثم اذا بهذه النسبة تتراجع إلى حدود الـ 4 ساعات وفعلياً إلى أقل. وقد ترافق ذلك مع وعود بفاتورة لأسعار الطاقة من شركة كهرباء لبنان تقارب ما يحصل عليه أصحاب المولدات. أي أنها قامت بعملية احتيال على المواطنين من خلال رفع التعرفة وزيادة مصاريف لبدلات مفقودة . وكما أعاقت السلطتان التشريعية والتنفيذية وكل بقدر، توصيات البنك الدولي، ثبت بالملموس أن هذه الطبقة المافياوية لا تعترف بأي اصلاح ينال من هيمنتها على البلاد والعباد واقتصادهما، إلى الحد الذي دفع بالرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لدى عودته من عمّان بعد مؤتمر العراق إلى الجزم ، وإنما بشكل دبلوماسي وهو على متن الطائرة أن لا أمل بالاصلاح في لبنان ولا بد من تغيير هذه الطبقة. ومثل هذا الكلام يعطف على تصريحات عدد من السياسيين الدوليين، وعلى راسهم أمين عام الأمم المتحدة ومسؤولي منظماتها العاملة في لبنان وسواه من دول المنطقة الذين كالوا الاتهامات لهذه الطبقة وسياساتها.
وعلى هذا الأساس من التحلل من المسؤولية يتواصل الانهيار على نحو دراماتيكي، وهو مرشح للمزيد في العام الحالي، ما دامت الدولة لم تفرض سلطاتها وسيادتها وتضبط حدودها البرية والجوية والبحرية . وأهمية هذه الإضافة تتأتى من عاملين: أولهما الشروع بتنفيذ قرار الدولار الجمركي على أساس 15 ألف ليرة لبنانية للدولار، ما سيترك بصماته على الأسعار في الاسواق، دون أن يؤدي إلى تحسن الجباية نتيجة الحدود السائبة والتهريب المنفلت. أما ثانيهما فله علاقة بما صار إليه الاقتصاد والليرة السورية من هاوية، ما ينعكس عجزاً في تأمين أسعار المستوردات الخارجية بالعملة الصعبة، التي يعتبر لبنان المنفذ الوحيد للحصول عليها. بل وأكثر من ذلك، تتالى التحذيرات من مجاعة زاحفة على سوريا ممهدة الطريق نحو موجة نزوح عاتية. وهي أصلاً لم تهدأ بدليل أن معابر التهريب تعمل على قدم وساق وبالاتجاهين معاً. أي أن على لبنان أن يتحمل عبء رفع سعر الدولار الجمركي لتغطية كلفة زيادة الرواتب من جهة ، دون أن ينجح في ضبط منافذ التهريب من شبعا وحتى عكار مروراً ببعلبك ـ الهرمل. وعلى تحمل مصائر وضع ونتائج انهيار الاقتصاد المتصاعد في سوريا .
الآن، تبدو معضلة الوضع المالي والنقدي الأكثر حضوراً لمن هم يتقاضون أجورهم بالليرة، وهؤلاء هم غالبية الشعب اللبناني، لذلك يمكن القول إن الباقين من” الواقفين “على أرجلهم هم الذين تردهم مبالغ مالية بالدولار من أبنائهم وبناتهم وأقاربهم في الخارج. باعتبار أنه مهما يصل الدخل بالعملة اللبنانية المتراجعة دوماً، بالكاد يكفي لتأمين تغذية مقبولة وليست صحية كما هو مفروض. والمؤكد أن خسائر المصرف المركزي ارتفعت من 61.49 مليار دولار في بداية العام إلى نحو 93.51 مليار دولار مع نهاية العام الماضي. وأن الليرة هي إلى المزيد من التراجع بفعل طبع العملة لتلبية المطالبات الحكومية على صعيد الأجور والتقديمات. أما احتياطه فخسر منه منذ بداية السنة نحو 2.58 مليار دولار، ليقتصر اليوم على أقل من 10.25 مليار دولار. ما يقود حكماً إلى تراجع قدراته على تلبية المتطلبات الحكومية من جهة، والتدخل في سوق القطع من جهة ثانية. وعلى هذا الأساس يمكن فهم سر تراجع الليرة اللبنانية من 27 ألفاً بداية العام 2022 إلى قرابة الـ 47 ألفاً مع نهايته. وبطبيعة الحال يقود ذلك إلى تضخم وارتفاعات في الأسعار تكاد تصل إلى حافة الـ 200% .
وفي الخلاصة يمكن القول إنه على ايقاع الأزمة السياسية التي تبدو من دون أفق مرئي لجهة انتخاب رئيس جديد للجمهورية وبقاء الحكومة “لا معلقة ولا مطلقة”، وبالتالي تعذر المباشرة بأي نوع من الحلول السياسية أو الاصلاحات الاقتصادية، يمكن التأكيد أن ما سيعانيه اللبنانيون هذه السنة أضعاف ما هم عليه الآن. واذا كان مثل هذا الامر مفهوماً ومتفقاً عليه بين أركان “الطغمة السياسية ـ المالية” فمكمن الخطر يتمثل في غياب أي مواجهة حقيقية تجمع في صفوفها قوى المعارضة الفعلية لهذه المنظومة، وتطرح حلولاً ليس فقط على الصعيد السياسي العام من مدخل انتخاب رئيس جديد للبلاد، بل على الصعد القطاعية أيضاً، باعتبار أن بقاء الوضع على ما هو عليه من شأنه أن يطيح بالبقية الباقية من مؤسسات الدولة والقطاع الخاص على حد سواء، بالنظر إلى اضمحلال القدرة على التشغيل، وذوبان القوة الشرائية للمواطنين الذين يعانون من كوارث يومية تحول دون الحصول على حقوقهم البديهية في أي دولة تحترم نفسها، وتحترم مواطنيها، وتعمل على توفير الحقوق لهم. لم يعد اللبنانيون يطلبون بالبحبوحة بقدر ما يطالبون “بخبزهم كفاف يومهم”، وهو ما يستمر متوافراً بصعوبة اليوم، دون أي ضمانة أن يكون في الغد في متناول أياديهم.
Leave a Comment