سياسة مجتمع

 اللبنانيون ومهمات الإنقاذ الصعب وإعادة بناء الدولة

زكـي طـه

بيروت 3 كانون الثاني 2025 ـ بيروت الحرية

صحيح أن الاعلان الذي صدر قبل نهاية شهر تشرين الثاني من العام 2024، يشكل نهاية نظرية لمرحلة من تاريخ لبنان. وهو الاعلان الذي تضمن قراراً بوقف اطلاق النار على الحدود الجنوبية مع دولة العدو الاسرائيلي، كما تضمن أيضاً آلية تنفيذ القرار 1701 الذي التزم لبنان موجباتها. والمرحلة المنتهية امتدت لعقود، بدأت عام 1968، مع دخول البندقية الفلسطينية إلى لبنان. واحتدمت خلالها الصراعات على رافعة الموروثات الخلافية بين اللبنانيين، وما يقع في امتدادها من اشكالات بنيوية مجتمعية وكيانية. واستعرت أثناءها الأزمات والنزاعات الأهلية، وجرى الاطاحة بكل ما كان قد تراكم من انجازات في مختلف ميادين الاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة. وساد خلالها ايضاً، الاستقواء بالخارج وتشريع تدخل الجهات الاقليمية والدولية. وبذلك تعددت الوصايات والحروب، التي تشابكت فيها عوامل الداخل مع مصالح وسياسات اطراف الخارج. وآخرها كانت الحرب الاسرائيلية، التي لم يزل خطر تجددها قائماً، إذا لم ينفذ القرار 1701.

لكن الصحيح أيضاً، أن الاعلان الاميركي ـ الفرنسي، عن الاتفاق، تضمن قرارأ بوقف اطلاق النار بين حزب الله واسرائيل في إطار حربها على لبنان، لم يعلن  نهاية الحرب. كما وأن آلية تنفيذ القرار 1701، لم تكن أقل من استسلام للاملاءات الاميركية، وتسليم بالشروط الاسرائيلية. يؤكد ذلك أن قيادة الحزب، ورئيس المجلس النيابي المفاوض باسمه وعن لبنان، وافقا على الاتفاق، الذي تضمن بنوداً تنال من السيادة الوطنية. والأكثر فداحة، أن حكومة تصريف الاعمال مجتمعة بحضور ومشاركة وزراء حزب الله، لم تناقش نصوص الاتفاق الذي تبلغت به ووافقت عليه.  ولم تعترض على أي من بنوده، أو على تكليف مسؤول أميركي سياسي وآخر عسكري قيادة عمل اللجنة المشرفة على تنفيذه . ما يعني تسليماً صريحاً بخضوع لبنان وسيادته الوطنية وقراره السياسي للسيطرة الاميركية. وقد تجلى ذلك بصورة أوضح، في صمت الذين رأوا فيه انتصاراً لهم، حيال الضمانات الاميركية الإضافية لاسرائيل، التي تمكنها من استباحة اجواء لبنان بشكل دائم، وتضمن لها حق التحرك داخل أراضيه ضد كل ما تصنفه تهديداً لأمنها.

ورغم مرور ثلثي فترة الستين يوماً، إلا أن تنفيذ الاتفاق لم يزل متعثراً. والسبب إصرار اسرائيل على فرض شروطها، والإمعان بخرق الهدنة في طول البلاد وعرضها، عبر تنفيذ كم هائل من الخروقات وعمليات التفجير والتدمير في قرى وبلدات منطقة جنوبي الليطاني وسواها. والذريعة هي عدم  تنفيذ حزب الله بنود الآلية التي وافق عليها، والتي تقضي بسحب مقاتليه وتسليم اسلحته غير الشرعية للجيش اللبناني تسهيلاً لانتشاره.

معادلات لا تحمي وطن

وما زاد في الطين بلة، يتعدى مماطلة حزب الله في تنفيذ بنود الاتفاق المتعلقة بسحب المقاتلين وتسليم السلاح لتمكين الجيش اللبناني من الانتشار جنوب الليطاني، وتسهيل عودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم لمعرفة ما تبقى لهم من بيوت وممتلكات وارزاق. إلى المواقف الصادرة عن قيادات الحزب، التي تتضمن ادعاءات ودعاوى تتعلق بقدرة المقاومة على حماية البلد، وبأن سلاحها شرعي!!. ومحاولة احياء المعادلات التي أسقطتها آلية تنفيذ القرار 1701. وهي المعادلات التي ساهمت في تسعيرالانقسام الاهلي وتزخيم المشاريع الطائفية.  ونتج عنها تصعيد صراعات المحاصصة الفئوية، وتقاسم تسلط قواها على مؤسسات الدولة، والسيطرة على الاجهزة وخاصة القضاء والمرافق العامة الرئيسية. والأخطر التهديد باستئناف العمليات تحت راية المقاومة، واستسهال تعريض لبنان لخطر تجدد الحرب الاسرائيلية، وتجاهل النتائج الكارثية وطنياً وسياسياً وانسانياً التي وقعت عليه.  مقابل ذلك يقع تسليم قيادة الحزب بخضوع لبنان للنفوذ والاملاءات الاميركية الضامنة لامن اسرائيل، بعد الاطاحة بإنجاز التحرير غير المشروط،  الامر الذي يطعن بالانتصارات المدعاة.

صحيح أن أهل السلطة يتحملون بلا أدنى شك القسط الأكبر من المسؤولية. وأن تجديد الرهان عليهم لإخراج البلد من قمقم أزماته المستعصية التي شاركوا في انتاجها، يقع في باب الخطايا التي آن للبنانيين عدم تكرارها.

الانقاذ عملية تراكمية مديدة

والانتقال نحو مرحلة جديدة، لا يعني أن لبنان تجاوز المخاطر التي تهدد أمنه ومصيره، أو أنه بلغ محطة الامان والاستقرار. واعتقاد كهذا يشكل استخفافاً واستهانة بالمخاطر القائمة، وبما هو فيه وعليه من أحوال وأزمات. وهي التي تشكل الوضع الراهن الصعب، الذي لا يمكن تجاهله أو التنكر له. عدا أنه من غير المجدي التحلل من المسؤولية عنه، أو حصرها بمن تعاقبوا على مواقع السلطة، وصولاً إلى من آلت إليهم راهناً.

وفي هذا السياق، يقع التحدي الذي ينتصب في وجه اللبنانيين، ومواجهة صعوبات الوضع الراهن بكل اشكالياته ومشكلاته، في ميادين الاقتصاد والاجتماع، وعلى صعيد  مؤسسات الدولة وأجهزتها وقطاعاتها كافة وصولاً إلى صيغة نظام الحكم. وإليها يُضاف التصدي لنتائج الحرب التدميرية، بدءاً من عودة النازحين، إلى إعادة الاعمار وتحصين السيادة الوطنية  في مواجهة شروط واطماع اسرائيل. وهي قضايا والمهام التي تشي بأن الانتقال إلى مرحلة جديدة، والتقدم على طريق الانقاذ، ليس سوى عملية تراكمية مديدة، مساراتها صعبة ومتعرجة على جميع الصعد. ومحطاتها محكومة لمصالح وتوازنات قوى وفئات المجتمع المتنوعة والمتعددة دون استثناء. وهي المعنية بحماية حقوقها والدفاع عن مصالحها وتطلعاتها، وبخوض النضالات في سبيلها، باعتبارها الجهات صاحبة المصلحة في إنقاذ البلد وبقائه وطناً لها.

وفي هذا الاطار الشائك للواقع الصعب، تقع مسؤولية دُعاة المعارضة نخب وقوى وناشطين، وجميع الذين يرفعون شعارات التغيير والإنقاذ وإعادة بناء الدولة. وهي المسؤولية التي تقضي بتحديد اولويات القضايا التي تشكل مداخل ومرتكزات للتقدم. وشرطها مغادرة الاستسهال والاكتفاء باطلاق الشعارات. والتخلي عن الأداء السائد لدى قوافل الناشطين الباحثين عن أدوار لهم، بعيداً عن الاطر الحزبية، التي امتهن قياديوها البحث عن مواقع لهم في كنف قوى السلطة بأي ثمن، منذ فشل المحاولة الاصلاحية التي مثلها البرنامج المرحلي للحركة الوطنية. وتحت وطأة الاطاحة ببنى نقابات وأطر قطاعات الاقتصاد وسائر فئات المجتمع المهنية والانتاجية بكل تشكيلاتها، من قبل أحزاب الطوائف، التي تقاسمت وضع اليد عليها، وجعلتها ملاحق وأدوات، تستخدمها في  صراعاتها على مواقع  السلطة وفي نهب موارد الدولة والبلد.

المعارضة المفقودة والبديل المزوّر

وفي هذا هذا المجال لم يكن مفاجئاً مصادرة  الحياة السياسية من قبل قوى وأحزاب  السلطة. وهي التي أمعنت في تبادل الادوار لتزوير موقع المعارضة، للتغطية على سياساتها وممارساتها، وعلى ما هو قائم ومستمر فيما بينها، من خلافات ونزاعات من مواقعها الطائفية والمذهبية. كما كان الامر في العديد من المحطات. وكما هو الحال الآن في معركتي استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية، وتنفيذ القرار 1701.  وقد سبق ذلك، محاولات بعضها التنطح لقيادة انتفاضة 17 تشرين 2019. وهي الانتفاضة العفوية التي انفجرت تحت وطأة اختناق البلد وانسداد الأفق في مواجهة انغلاق قوى السلطة وأحزاب الطوائف التي صادرت الحياة السياسة. وهي التي استغلت عدم وجود حركة معارضة ديمقراطية مستقلة، مؤهلة للدفاع عن حقوق ومصالح فئات المجتمع المتضررة ومواجهة السياسات والممارسات القائمة والمعتمدة. الأمر الذي مكن تلك القوى من تكريس وجودها وتزخيم أدوارها بقوة مشاريعها الفئوية، على رافعة الانقسام الاهلي، وفي ظل الترابط المحكم بين صيغة الكيان ونظام  المحاصصة الطائفي، التي يكاد يستحيل الفصل بينها. وهي التي تشكل القيد الذي حكم تاريخ اللبنانيين، ولا يزال يأسر حاضرهم ومستقبلهم.

إن التقدم على طرق الانقاذ ليس شعارات يرفعها هذا الطرف أو تلك المجموعة. وليست مقولات فكرية أو شعارات عامة مبدئية معلقة في الفراغ. إن مسيرة الانقاذ هي جهد متواصل لتحشيد القوى، لتأسيس حركة مجتمعية ديمقراطية تعددية مستقلة. لن تتشكل إلا عبر عملية صراعية متعددة الميادين والمستويات. لأن انقاذ لبنان ومسيرة التقدم والتطور الديمقراطي فيه، تتعلق بمدى أهلية وقابلية بنية قواه المجتمعية وقدرتها على التعبير عن المصلحة الوطنية المشتركة، وفي الاضطلاع بموجبات العمل في سبيل وحدة اللبنانيين وبناء دولتهم، لضمان بقاء بلدهم كياناً وطنياً موحداً وقائماً بذاته. وطن لن تبنيه الأساطير الطائفية، و لن يُحمى بالمغامرات الانتحارية، والانتصارات الوهمية، كما لم ولن  ينقذه أولئك الذين ينتظرون كلمات السر يحملهم لهم موفدو الخارج.

إنه تحدي عدم الاستخفاف بلبنان وبأهمية وجوده، أو التفريط به أو بسيادته. التحدي الذي يتطلب الاستفادة من تجارب الماضي وأخطائه، وحُسن قراءة صعوبات الوضع الراهن ومعرفة موطىء القدم اللبنانية الآن،  في منطقة هي منذ عقود ولم تزل راهناً، كيانات ودول ومجتمعات، في مهب رياح استراتيجية الفوضى الخلاقة الاميركية والصراعات الاقليمة والدولية وامام مصير مجهول.

Leave a Comment