د. سعيد عيسى
رغم الخطاب الذي يبدو في ظاهره إنسانيًا والذي تتبناه مجموعة البنك الدولي، والمتمثل في “القضاء على الفقر المدقع” و”تعزيز الرخاء المشترك”، فإن السياسات التي تتبعها والمفاهيم التي تروّج لها – وعلى رأسها مفهوم “خط الفقر العالمي” – تنبع من منطق اقتصادي نيوليبرالي يعيد إنتاج الهشاشة بدلاً من معالجتها. فمنذ بداية التسعينيات، كرّست مجموعة البنك الدولي نفسها كمرجعية تقنية في قياس الفقر، مستخدمة مؤشرات رقمية ومعايير موحّدة على المستوى العالمي. إلا أن هذا التبسيط الكمّي للفقر يثير تساؤلات جوهرية، لعل أبرزها “الطابع السياسي البنيوي للفقر” (Hickel, 2016).
تبسيط مخلّ لواقع معقّد
إن اختزال الفقر في رقم واحد – ثلاثة دولارات في اليوم – يغفل التفاوتات الهائلة بين الدول والمجتمعات، ويجرّد الفقر من جذوره السياسية والاجتماعية. وكما تلاحظ أنانيا روي (Roy, 2010)، فإن هذا النوع من القياس يعيد تعريف الفقر باعتباره “مشكلة قابلة للإدارة” لا نتيجة لسياسات عالمية جائرة أو اختلالات في موازين القوى. إنه نهج يركّز على الأعراض ويتجاهل الأسباب، ويشرعن حلولًا تكنوقراطية تتغاضى عن السياقات المحلية للحرمان والتهميش. ووفقاً لما طرحه أرتورو إسكوبار (Escobar, 1995)، فإن هذا الإطار يخدم في كثير من الأحيان مصالح المانحين والمؤسسات الدولية أكثر من مصالح الشعوب التي يُفترض أن يخدمها.
سياسات تقشفية مقنّعة تحت مسمى الإصلاح
إلى جانب أدوات القياس، يشترط البنك الدولي في أغلب الأحيان تنفيذ برامج التكيّف الهيكلي أو ما يُعرف بـ”الإصلاحات الاقتصادية”، والتي تشمل خصخصة الخدمات العامة، ورفع الدعم، وخفض الإنفاق الاجتماعي. وقد أظهرت دراسات عديدة (Stuckler & Basu, 2013؛ (Kentikelenis et al., 2014) أنّ هذه السياسات تقوّض شبكات الحماية الاجتماعية، وتعمّق الفجوة بين الفئات الاجتماعية، وتؤدي إلى تدهور المؤشّرات الصحية والتعليمية، خصوصاً في دول الجنوب العالمي. وقد رُبطت هذه البرامج في إفريقيا وأمريكا اللاتينية بتدهور صحة الأطفال، وازدياد انعدام الأمن الغذائي، وضعف النظم الصحية العامة. المفارقة هنا أن السياسات التي يُفترض بها تقليص الفقر، غالبًا ما تساهم في استمراره وتعميقه.
خط الفقر كأداة أيديولوجية
رغم أن تحديث خط الفقر العالمي يبدو ظاهريًا كنوع من الاستجابة الواقعية للتغيرات الاقتصادية، فإنه في جوهره يُبقي على إطار فكري يركّز على الحد الأدنى للبقاء، لا على الكرامة الإنسانية. وكما يؤكد توماس بوغي (Pogge, 2008)، فإن “تعريف الفقر بناءً على الحدّ البيولوجي الأدنى يتيح للنخب السياسية والمؤسسات الدولية الادعاء بتحقيق التقدّم، بينما تبقى ظروف الناس الفعلية على حالها”. والمقصود بالحدّ البيولوجي الأدنى هنا هو مستوى الدخل أو الموارد الذي يتيح بالكاد البقاء على قيد الحياة – أي تلبية الحاجات البيولوجية الأساسية كالغذاء والماء والمأوى – مع تجاهل الأبعاد الأوسع للفقر المرتبطة بالكرامة، والحقوق، والمشاركة الاجتماعية. فرفع خط الفقر إلى ثلاثة دولارات لا يعكس فعليًا مستوى الوصول إلى السكن أو الرعاية الصحية أو التعليم أو الأمن الغذائي. كما أن استخدام معيار “تعادل القوة الشرائية” كأداة لتوحيد القياس، يخفي التفاوتات المحلية في أنماط الاستهلاك، ويخلق وهمًا بوحدة معيارية غير دقيقة (Reddy & Lahoti, 2016).
الفقر كأزمة معنى لا كمجرد مشكلة قياس
علينا أن نفهم الفقر لا كمشكلة نقص في الدخل فقط، بل كحرمان من الإمكانات والقدرة على الفعل. ووفقاً للفيلسوف والاقتصادي أمارتيا سن (Sen, 1999)، فالفقر هو “حرمان من القدرات الأساسية” – أي من الفرص الحقيقية للعيش بكرامة. هذا الفهم يناقض تركيز البنك الدولي على الأرقام، ويدعو إلى مقاربة متعددة الأبعاد للرفاه. فالعوامل التي تتعلق بالحقوق والخدمات العامة والمشاركة الاجتماعية والسياسية، تمثل صلب أي استراتيجية فعلية لمكافحة الفقر. ولعل مؤشر التنمية البشرية (HDI)، الذي طوره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، كان محاولة لتوسيع زاوية النظر هذه. إلا أن هيمنة منطق “خط الفقر” في خطاب البنك الدولي لا تزال تضيق أفق السياسات الاجتماعية.
الحاجة إلى خيال سياسي بديل
رغم تحديث الأدوات والمفردات، لا يزال نهج البنك الدولي ينتمي إلى نموذج اقتصادي يرى في الفقر “انحرافًا” ينبغي إصلاحه دون المساس بالنظام الذي ينتجه. وكما يشير جايسون هيكل (Hickel, 2017)، فإن الفقر العالمي ليس حالة طبيعية، بل نتيجة مباشرة لاستخراج تاريخي وهيكلية اقتصادية جائرة. ويقصد بالاستخراج التاريخي تلك العمليات المتراكمة من النهب المنظّم للموارد والثروات التي تعرّضت لها مجتمعات الجنوب العالمي، منذ الحقبة الاستعمارية مرورًا بالاستغلال الاقتصادي عبر الشركات متعددة الجنسيات، ووصولًا إلى آليات النظام المالي العالمي المعاصر، التي فرضت على هذه الدول شروطًا تجارية وديونًا قسرية أضعفت قدرتها على بناء اقتصادات وطنية مستقلة. إن الفقر هنا لا يُفهم كنتيجة لفشل داخلي في “التنمية”، بل كبنية ناتجة عن علاقات تاريخية غير متكافئة، لا تزال تتجدد بأشكال مؤسسية وتقنية. نحن اليوم لا نحتاج إلى بيانات أفضل فحسب، بل إلى “خيال سياسي جديد” يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين التنمية والسيادة، بين الاقتصاد والعدالة. الفقر ليس مسألة تُقاس فقط – إنّما “معركة تُخاض.”
المراجع:
- Escobar, A. (1995). Encountering Development: The Making and Unmaking of the Third World. Princeton University Press.
- Hickel, J. (2016). The Divide: A Brief Guide to Global Inequality and its Solutions. Windmill Books.
- Hickel, J. (2017). Global Inequality and the World Bank. Third World Quarterly.
- Kentikelenis, A., Stubbs, T., & King, L. (2014). Structural Adjustment and Public Spending on Health: Evidence from IMF Programs. World Development.
- Pogge, T. (2008). World Poverty and Human Rights. Polity Press.
- Reddy, S. & Lahoti, R. (2016). $1.90 Per Day: What Does it Say. The New York Times.
- Roy, A. (2010). Poverty Capital: Microfinance and the Making of Development. Routledge.
- Sen, A. (1999). Development as Freedom. Knopf.