سياسة مجتمع

الفلسطيني الضائع بين الحل السياسي المستحيل والبندقية المعطلة

زهير هواري

بيروت 24 نيسان 2025 ـ بيروت الحرية

يدرك القاصي قبل الداني أن القضية الفلسطينية تمر بواحدة من أخطر المراحل التي عرفتها منذ أن حط المشروع الاستيطاني رحاله على ارضها، أي منذ مطلع القرن العشرين، عندما أخذت قوافل المستوطنين تطأ اليابسة وتعمل على بناء المستوطنات، مع ما رافق ذلك من اعلاء الحركة الصهيونية راية الرجوع إلى أرض الميعاد الموعودة بدعم أوروبي وغربي كمقدمة للتطهير العرقي. والأدلة على المأزق الفلسطيني هذه الأيام واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهو يتغذى من عوامل داخلية وعربية وإقليمية ودولية لا تخفى على من له عينان. اذ المعروف اليوم أن لا الحل السياسي له حظ من الحضور الفعلي، ولا البندقية التي رفعت منذ ما يزيد عن نصف قرن يمكنها  الآن من أن تؤدي دوراً تحريرياً لفلسطين من النهر إلى البحر، أو ما نجم عن حرب العام 1967 من احتلال كامل الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالنظر للخلل الفادح في موازين القوى  المتعدد الأوجه والصعد.

لا يقصد من هذا الكلام الدعوة إلى رفع الرايات البيضاء والاستسلام أمام الهجمة الصهيونية العاتية التي تشن اليوم، بل هي مناسبة للتفكر في التوجه الذي يتوجب أن تسلكه هذه القضية في المقبل من الأيام، كي يقف الهرم على قاعدته في أرض صلبة، خلاف ما هو عليه اليوم من الوقوف على رأسه.

يحدث هذا فيما الإدارة الأميركية التي يقودها الرئيس دونالد ترامب أشد تعصبا من أعتى عُتاة اليمين الصهيوني الممسك بزمام الأمور في الحكومة والحياة السياسية في الكيان الاسرائيلي، لجهة الالتزام بالمشروع التوسعي في حلقته الراهنة، وبما يتجاوز مساحة فلسطين ليصل إلى كل من سوريا ولبنان والأردن، وتطبيعا يبلغ المملكة العربية السعودية ويزحف نحو سواها. والمؤكد أن التوسع العسكري الإسرائيلي في جنوبيْ سوريا ولبنان ما كان له أن يتم دون غطاء سياسي أميركي كامل. أما دول الاتحاد الاوروبي فيصعب المراهنة على ديناميتها المفقودة، وهي التي تتلقى يوميا الطعنات الأميركية ليس فقط حول مصير أوروبا في الحرب الروسية – الأوكرانية، بل حول مجمل موقعها في المعادلات والعلاقات الدولية، في ضوء دعوة ترامب لتدفيعها أثمان الحماية التي تقدمها لها دولته في مواجهة مخاطر الحروب في القارة وخارجها. لذلك يتعذر عليها لعب دور اعتراضي مساند ومصارع من أجل الحق الفلسطيني، وبما يقود إلى تغليب حل سياسي قابل للحياة لمسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي. وهو أمر ليس بجديد منذ أن جرى التخلص من اللجنة الرباعية لصالح الاستفراد الأميركي بإدارة الملفات الصراعية في المنطقة وعليها. وعليه، يصبح أقصى ما تستطيعه أوروبا اليوم والتي يهيمن على المواقع الحاسمة فيها اليمين المتناغم مع السياسة الترامبية هو الدفاع عن بقايا حضورها الدولي المتراجع في ظل العصا التي يسوق بها ترامب دول الكرة الأرضية.

 قطاع غزة وسياسة حماس

وضمن سياق حال الانفلاش الصهيوني يأتي الهجوم الإسرائيلي المتجدد على قطاع غزة، والذي عاد إلى اندفاعته التوسعية بعد ما يشبه الهدنة المؤقتة، ومعه سيل التصريحات التي تتحدث عن الموافقة على خروج المقاتلين من دون سلاحهم، وتهجير سكانه عبر مطار رامون، بعد أن امتنعت مصر عن القيام بدور مساعد على عملية التهجير إلى أراضيها، منذ ان طرحت المعادلة هذه في عهد الرئيس جو بايدن على لسان وزير خارجيته أنطوني بلينكن. ولعل ما تدعيه إسرائيل الآن حول الإنشاءات العسكرية المصرية في سيناء هو نوع من الابتزاز السافر. ولإعطاء الطرح الإسرائيلي الراهن الجدية اللازمة أسست وزارة الدفاع الإسرائيلية مكتبا تابعا لها مهمته محددة بتهجير فلسطينيي القطاع، وقد بالغت وسائل الاعلام الإسرائيلية في الحديث عن اعداد الفلسطينيين الذين غادروا إلى المانيا، ورفعت عددهم من حوالي 19 مواطنا يحملون الجنسية الألمانية إلى المئات كما ذكرت السلطات الالمانية.

على أن الوضع أشد تعقيدا من هذه التفاصيل، ففي غضون حوالي 18 شهرا وقبلها حتى،  لم تحاول حركة حماس مراجعة ولو محدودة لسياساتها، بدءا من انقلابها ثم إقامة امارتها الفئوية على القطاع، وبناء سلطة تستثني الفصائل والمجتمع عن المساهمة ولو بالحد الأدنى في قراره وإدارته، وصولا إلى اكمال  مغامرتها عبر تفردها في اعلان الحرب، وفي إدارة التفاوض  في سبيل توظيف مفاعيلها ونتائجها لتكريس سلطتها. وتوجت ذلك أخيرا في عملية تبادل الأسرى، عندما حولت المناسبة إلى عراضات مسلحة ظهرت خلالها سيارات وثياب وأسلحة حديثة، وكأنها دولة حققت الانتصار الكامل على العدو الذي رضخ لشروطها، بينما فقد سكان القطاع حوالي 160 ألف مواطن ما بين قتيل وجريح وعشرات ألوف المفقودين والمعوقين والايتام والارامل. وأما الباقون بعافيتهم فقد تقطعت بهم السبل وهم ينزحون بين الشمال والوسط والجنوب ذهابا وإيابا، يعانون ما لا يوصف من عذابات جرّاء فقدان الحد الادنى من مقومات البقاء كالماء النظيف ورغيف الخبز والدواء والوقود والكهرباء والاستشفاء والمدرسة والجامعة والعمل، حتى بات القطاع بما فيه من مدن ومخيمات عبارة عن أكوام من الأنقاض التي تحتاج تبعا للتقديرات المتفائلة إلى حوالي خمس سنوات لإزالتها، و15 عاما لإعادة اعماره اذا ما توافرت الأموال اللازمة. ولعل هذا هو ما فجر الموقف الشعبي الذي تمثل بالتظاهرات التي شهدتها العديد من مدن القطاع وتجمعات المهجرين، التي نددت بحماس وسياساتها في إدارة شؤونه. هذا مع العلم أن الاضطراب والتخلخل السكاني الذي عانى منه أهل القطاع بفعل العدوان الصهيوني المتواصل والمتصاعد، يشكل مانعا يحول دون رفع وتيرة المعارضة لهذه السياسة، التي لا تعبأ بحياة المواطنين ومصير القضية برمتها.

والواقع أن إسرائيل تستفيد دوما من تأخر حماس عن التجاوب مع المساعي العربية والدولية التي تعرض حلولا ولو متواضعة لوقف المذبحة وتسليم الاسرى وإدارة المنطقة، ما يقود إلى تعزيز التوجه الصهيوني اليميني نحو استكمال الهجوم التدميري. لقد راهنت حماس منذ تنفيذها عملية طوفان الأقصى على أن العدد الكبير من الاسرى سيدفع بإسرائيل إلى  الموافقة على مطالبها، بدءاً من اطلاق السجناء الفلسطينيين وتحقيق مكاسب سياسية تكرسها  بديلاً عن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، ولا تقف عند تثبيت هيمنها على القطاع، بل تتجاوزه  إلى محاولة الامساك بمقاليد الأمور في الضفة الغربية. وهو ما تحاول فرضه أيضا بقوة العمليات تحت راية المقاومة التي يستغلها جيش الاحتلال  ذرائع لممارساته العدوانية، ناهيك عن الاعتراف الأميركي بها.

تنطلق حماس في ممارساتها من واقع حال السلطة الفلسطينية  وخياراتها السياسية التي وضعتها في زاوية ضيقة. وهي تراهن على استغلال الرغبات الإيرانية بالامساك بالورقة الفلسطينية وتثبيت دورها كشريك في المنطقة ومفاوض بالنيابة عن أصحابها. وبالطبع اعتبرت أن تحقيق انتصارها يتم من خلال اندراج جبهة الممانعة معها في المواجهة. لكن ما حدث كان خلافا للتوقعات، فقد أعلن قادة النظام الايراني الذي يقود محور الممانعة، بما فيه حزب الله،  أن حماس وحدها  هي من يتحمّل المسؤولية عن عملية الأقصى التي لم يعلما بها قبل وقوعها. وبينما خرجت سوريا من الحسابات، جاءت مشاركة لبنان واليمن والعراق في معركة الإسناد قاصرة عن تغيير معادلة الوضع وتوازن القوى الراجح لمصلحة إسرائيل، بعد أن وصلها المدد الأميركي والغربي على حد سواء. ومن الواضح أن حماس تصورت أن بإمكانها عبر معركة واحدة ومنفردة أو مع حلفائها أن تحقق نصرا حاسما على إسرائيل بما يرغمها على الرضوخ لشروطها، دون أن تكلف نفسها عناء الاستناد إلى وحدة الشعب الفلسطيني، ودعم المحيط العربي والدولي المتفاعل مع القضية.

الآن لا تعبأ حماس بمصير القطاع وأهله وتتشارك مع إسرائيل في رفض عودة السلطة الفلسطينية والإدارة العربية الدولية إليها، وبالتالي دحض الذرائع الإسرائيلية بما يقطع الطريق على سيناريو التهجير. ما يتيح لنتنياهو وكاتس فرصة اطلاق يد جيشهما من اجل إخراج حماس من غزّة أو القضاء عليها، وتهجير الكتلة السكانية الفلسطينية وتدمير ما تبقى من معالم حياة، وبذلك تفقد ورقة الأسرى فاعليتها التي طالما تحصنت حماس بها، وبما يتيح تحقيق حلم ترامب باستلام القطاع عقارا قابلا للاستثمار باعتباره أرضا خالية من الناس.  أما في الضفة فالنتائج واضحة للجميع في ضوء ما تعرضت له مخيمات ومدنها.

 السلطة الفلسطينية والحل الدبلوماسي

لكن بيت القصيد يبقى في مكان آخر وهو ينطلق من السؤال الجوهري المطروح والذي يقول: ماذا بعد هذه الرحلة الملحمية للشعب الفلسطيني، والتي استغرقت هذه العقود المتلاحقة مع ما رافقها من دماء ودموع وقرابين ودمار وتهجير. فإذا كانت سياسة حماس التي اعتبرت أن بندقيتها وحيدة بمقدورها أن تحقق هزيمة المشروع الصهيوني فماذا عن السلطة الفلسطينية التي اكتفت منذ سنوات بالمساعي السياسية. ولا شك أن الفلسطينيين خلال ما يزيد عن قرن من الصراع اختبروا العنوانين اللذين اندرج فيهما الفعل الفلسطيني قبل الثورة وخلالها وبعدها. خصوصا وأن خيار المقاومة المسلحة حقق الكثير من أهدافه  ووظائفه الوطنية في اعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، بما هي قضية تحرر وتحرير في آن، قبل أن يصبح عبئاً على الشعب الفلسطيني في وجوده على ارضه وفي قدرته على الصمود والمواجهة، كما في تحرير الأرض، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.  الامر الذي إدى إلى إعادة النظر بأشكال المقاومة  الشعبية ووسائلها،  والاستقواء بسلاح الوحدة الوطنية للتزخيم وتصعيد  الصراع مع دولة الاحتلال،  في سبيل تحقيق الحل السياسي، وفرض الاعتماد على العدالة الدولية وشرعاتها وقوانينها لجهة الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتحقيق استقلاله الوطني.

هنا لا بد من القول إن السلطة الفلسطينية، التي أعادت مرارا وتكرارا ثقتها بالحل الدبلوماسي من خلال منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، باتت أسيرة مثل هذا التوجه، ليس فقط لأنها أخذت تتصرف كسلطة منقوصة القرار، بل لأن المشروع الصهيوني بدعم أميركي تجاوز وهم القبول بالحلول السياسية بأشواط. ففي غضون السنوات التي انقضت على اغتيال رابين ومحاصرة انتفاضتي الشعب الفلسطيني واغتيال قائد الثورة ياسر عرفات وانهيار الأوضاع العربية المحيطة خصوصا، رسَّخ اليمين الصهيوني نفوذه على الحياة السياسية والمجتمع في إسرائيل، ونجح في افناء قوى الوسط واليسار الإسرائيلي، وأجهز على ما كان قد تم التوصل إليه في أوسلو من خطوات ومراحل، وباتت الضفة الغربية مرتعا ملائما لحملات الاستيطان والمصادرة والحصار المطبق. ضاعف ذلك الزحف المنهجي على مواقع العلمانيين الإسرائيليين من جانب المتطرفين “الحريديم” وأمثالهم. وجرى تتويج ذلك بإعلان يهودية الدولة. ورغم أن اسرائيل شهدت خمس عمليات انتخابية في غضون فترة قصيرة، إلا أن صورة الوضع لم تتغير انطلاقا من المعادلة االمختلة، التي أوصلت نتنياهو إلى سدة الحكم طوال هذه السنين، مستندا إلى التحول في الرأي العام الداخلي، وإلى هيمنة اليمين على السلطة في الولايات المتحدة الأميركية والعديد من الدول الأوروبية المؤثرة. ما أدى إلى  تعريض الضفة الغربية لحملات تهويد عاتية من اليمين الاستيطاني الصهيوني.  في موازاة  ذلك كانت حماس ولا تزال تحاول الهيمنة على الوضع في الضفة الغربية ومخيماتها، بقوة  عمليات المقاومة المسلحة، تحت شعار ما تسميه “النفير العام”. ما أدى إلى اضعاف موقع السلطة ومحاصرتها وتحميلها مسؤولية الوضع، كما قاد إلى القضاء على الخلايا الشبابية المناضلة من جانب الجيش الإسرائيلي، وتشريد ما يفيض عن 40 ألفا من سكان المخيمات المدمرة في جنين وطولكرم وطوباس ونور شمس وغيرها.

اذن باتت المسألة الملحة اليوم هي: كيف يمكن حماية وجود الفلسطينيين في أرضهم. يستوي في ذلك أهل القطاع والضفة وكل فلسطين على حد سواء، وبالتالي بقاءهم في بلادهم وإيقاف حمام الدم، وحجز الأوضاع الكارثية الكبرى التي تعصف بهم وسط غياب المعين والناصر والناصح. بعد أن بات من المتعذر أن يتحدث أحد في عهد ترامب عن حل الدولتين في ضوء نتائج الحرب التدميرية، وفي ظل الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني الذي يجعل المشروع التهجيري ساري المفعول، طالما أن إسرائيل لا تريد حماس والسلطة أو العرب في إدارة القطاع، أما الضفة فالمطروح ليس أكثر من قيام مجموعة جزر ذات إدارات محلية تشبه البلديات التابعة، طالما أن هناك 900 حاجز وعائق مضافا إلى الجدار العازل يفصل بين القدس والقرى والمدن والبلدات عن بعضها البعض، ويضعها جميعا تحت اشراف وأحقاد وإدارة سلطة الأجهزة العسكرية والأمنية والمستوطنين.

إذاً، ليس أمام حماس وفتح وفي ضوء نتائج الحرب الاخيرة  ومفاعيلها الكارثية وطنياً وإنسانياً، وهي التي لم تزل تتوالى فصولاً من القتل والدمار التهجير، سوى اعتماد جرأة المراجعة الفعلية لتجربة المسيرة الفلسطينية بما لها وما عليها، وتقييم نتائجها وإعادة النظر بكل وسائل واشكال وأدوات النضال، والتدقيق في كل الخيارات السياسية وترصيد الحسابات،  على النحو الذي يؤدي إلى تجديد الوحدة الوطنية   باعتبارها الحصانة الأهم والسلاح الذي يشكل ضمانة  منع تصفية  قضية الشعب الفلسطيني  والحؤول دون تبديد وجوده على ارضه وشطب حقوقه الوطنية بما فيها حقه في إقامة دولته الوطنية. وهي المسؤولية التي تقع كذلك على عاتق النخب السياسية والثقافية الفلسطينية التي تستطيع ادراك عمق التحولات الجوهرية الداخلية والعربية والدولية وفي إسرائيل نفسها، انطلاقا من تعثر وانسداد مساري المقاومة المسلحة والتسوية السياسية، بعيدا عن المبالغات والعدمية في الوقت نفسه. كل هذا بهدف ابتكار مشروع وتجربة مقاومة نضالية قادرة على الصمود وإفشال مشاريع ومخططات اسرائيل واميركا، ليس على ارض فلسطين في القطاع والضفة الغربية وحسب، كما هو حاصل الآن، بل أيضا في لبنان وسوريا واليمن والعراق وغيرهم.  إنه التحدي  والخيار الصعب والتاريخي في آن..  وقبل فوات الآوان.