الاحتفالات تعمّ البلدين، سورية ولبنان. الأول أسقط رئيساً، والثاني انتخب رئيساً. إنجازان يحجبان تماما النزيف اليومي لغزّة، وللضفة الغربية. هل نحتاج إلى تكرار وصف ما يحصل فيهما؟ لا أبداً. روتين المجزرة يُغني عن إعادة ما كان. لا شيء تغيّر سوى تفاقم الفواجع والجوع والبرد، والخيم المقصوفة والحيوات الضائعة والوجوه الشاحبة الضائعة. وإسرائيل القريبة من “اتفاقٍ”، من دون إنهاء الحرب، تغلق مكاتب أونروا”، و”حماس” تتمسّك بالحد الأدنى، ولا تكسب. وطلائع النكبة الثانية تستوطن.
الفرحة بالإنجازيْن اللبناني والسوري عامرة. نسيان غزّة فعل واع لاواع… بحسب نباهة المتكلم وثقته بنفسه وبـ”رؤيته”. “انسوا” يكتب أحدهم. “انسوا فلسطين”، “لم تعد فلسطين قضية”، إنها مجرّد “مسألة”. أو مشكلة شبه عادية تحتاج إلى “خبراء”. كيف؟ تحاول أن تفهم؛ ويكون الجواب خفيفاً، ضجراً. ولا محاجة، لأن “المناخ” تغيّر، ولا تُفسدوا متعتنا.
هل تذكرون العام الماضي مثل هذا الوقت؟ كانت الدنيا كلها مستيقظة، كأنها تتعرّف متأخّرة إلى التاريخ الفلسطيني، والنكبة الأولى وكل قصص الاقتلاع والتشريد واللجوء والاستيطان المتوحّش. والإعلام العربي والغربي كله فلسطين. يومياً، يتابع العالم ما يحلّ بأهلها. ومحاكم دولية بحق إسرائيل، والعلم الفلسطيني يرفرف، وتظاهرات شعبية في الغرب، واعتراضات ونقد داخل الإدارة الأميركية نفسها، وأحزاب أوروبية تكسب أصواتاً لأنها تحتج على المقتلة بحقّ الغزّيين…
صار حلفاء “حماس”، الذين حاربوا على جبهات “الساحات الواحدة”، في عالم آخر. حزب الله اللبناني يلملم أشلاءه، على حساب غيره. يناور ويحسب ويهرول ويقول أشياء وأشياء. وكل همّه استعادة “بيئته” الخاسرة كل شيء. ونقطة تحريضه على الواقع الجديد لا علاقة لها بفلسطين والقدس التي كانت ترسل “على طريقها” الشهداء، الواحد تلو الآخر.
أما إيران، رأس حربة المشروع الزائف لتحرير فلسطين، فهي مهمومة كيف تُنقذ نظامها من السقوط. منشغلة الآن بترتيب أوراقها، النووية خصوصا. يصرخ ترامب بوجهها قبل تسلمه مقاليد الحكم، فتستنفر بانتظار العصف القادم، عندما ينصّب رسميا.
وليكتمل الانحسار الفلسطيني، تنسى إيران وعدها “الصادق”، وينظّم حرسها “الثوري” مسيرة “السائرون إلى القدس”، بمركبات عسكرية وأسلحة ثقيلة، بالقرب من منشأة فوردو النووية. ويخطُب أحد مسؤوليه، الجنرال محمد رضا نقدي، فيقول: “إذا تمكنّا من تدمير النظام الصهيوني وسحب القواعد الأميركية، فإن إحدى مشكلاتنا الكبرى ستُحلّ”. وكأنه يقول لشعبه إن “لا حلّ لمشكلاتنا، إذن نحن باقون في الحكم”… فيما ترامب ينسف البؤرة التي حرّكت العالم تضامناً مع أهل غزّة: أولئك الطلاب في الجامعات الأميركية، العرب واليهود، الذين أطلقوا شبه انتفاضة في حرم جامعاتهم، واعتصامات وخطب. ولولا أصواتهم، لما كانت فلسطين قد بلغت ذاك الحجم العالمي، ذاك التضامن الذي عرفناه كلنا.
هؤلاء الطلاب، يحضّر لهم ترامب مجموعة من العقوبات والإجراءات، يعمل على ترويجها، يكرّرها رجاله منذ فوزه بالرئاسة. وهي تطاول الطلاب “البرو – فلسطينيين” (حسب عبارته)، بعقوبات مفصّلة. يتكفل بإذاعتها أولئك الرجال. وأولى فرائض الولاء عندهم وصف جذّاب لتلك العقوبات المدمّرة مستقبلهم. يقول أحدهم إنها، أي العقوبات، ستكون “سريعة وشاملة. أولى مهامّها طرد الطلاب الذين يحملون الفيزا الأميركية للدراسة في أميركا”. ما هي جرائمهم؟ ما هي الوصمة التي يلصقونها بهم؟ أنهم “إباديون”، يدعون إلى قتل اليهود في كل أنحاء العالم. أي أنهم “لاساميون”. ثم إنهم “إرهابيون، يؤيدون حماس بوقاحة وصراحة”. وإذا لم يُطرَدوا، فعلى “إف.بي.آي”، مكتب التحقيق الفدرالي الرهيب، أن يخضعهم لتحقيقات مطوّلة. أي أننا سنشهد بعد تنصيب ترامب حملة ماكارثية جديدة. بالأمس، كانت لاصطياد الشيوعيين واليوم لملاحقة الطلاب “البرو – فلسطينيين”. والنسيان هنا أيضا بأنه لولا أولئك الطلاب، لولا فظائع إسرائيل بحقّ أهل غزّة، لما سمع العالم بفلسطين.
نسيانٌ ينجرّ على المبتهجين برؤسائهم الجُدد في لبنان وسورية، فلولا “حماس” لما حصلوا على هديتهم هذه. لو لم تفعل حماس “الطوفان”، لو لم تتوحش إسرائيل بحقهم، لولا النكبة التي أصابت بشر غزّة وحجرها وترابها، لو لم تتراجع إيران عن تهديداتها بـ”الوعد الصادق”، وانكبّت على نفسها، لو لم يبتلِ حزب الله بالخسائر التي أعادته إلى حجره، لو لم يسهل ذلك سقوط بشّار الأسد، وانكماش ايران… لما حصلت تلك التغيرات المبهجة في سورية ولبنان. على البلَديْن ديْن تجاه أهل غزّة. ولكنهم الآن ليسوا في واردها.
مع أنهم يتلقون يومياً إشارات التوسّع الإسرائيلي الجديد. في سورية، باحتلال إسرائيل الدائم قمة جبل الشيخ، واحتلالها “المؤقت” قرى سورية في شمال القنيطرة، بعمق يراوح بين الكيلومترين وإلى العشرة كيلومترات. وفي لبنان، حيث لم تتوانَ إسرائيل عن تدمير قرية الناقورة في اللحظة نفسها التي كان يجري فيها التصويت البرلماني للرئيس الجديد.
قد لا نغامر بالقول إن نجاح الرئيسين في البلدين مرهونٌ بما ستفعله إسرائيل بهما. أي أننا حتى لو أصرّينا على النسيان، فإسرائيل ستمنعنا. صارت أكثر حضوراً وعدواناً مما كانت عليه. وسائل مقاتلتنا لها بانت كم هي بالية وفاشلة… وقليلة الحرية أصلا. وهذا طبيعي، فقد انتصرت في حربها الأخيرة هذه. وما زالت تثبت، يوماً بعد آخر، أنها شوكة في قلبنا، لا في خاصرتنا وحسب.
* نشرت على موقع العربي الجديد بتاريخ 16 كانون الثاني 2025
Leave a Comment