يكاد الربع الأول من العام الثالث من عمر العهد القوي، أن ينتهي وحكومته الأولى يجري البحث عنها بين وعود التأليف و سراب المواعيد، وتناسل عقد التعطيل وتبادل أدواره. وعندما تلوح إمكانية تشكيل الحكومة يتبارى أبطال التعطيل في وصف الأمر بالإنجاز الوطني، وتجاهل خسائر البلد وناسه. على امتداد سبعة أشهر وأطراف السلطة تتنافس على ممارسة شتى منوعات العهر الطائفي والمذهبي والفئوي، من المناورات والصراعات وتركيب الكتل الوهمية وافتعال العقد وزرع الألغام وتفجيرها، بهدف تزخيم معارك الهيمنة والصلاحيات المحتدمة على غير انقطاع، دون أي اعتبار للمخاطر.
من المؤكد أن أزمة التشكيل وكما هو مقدر لها، ستنتهي بتسوية مجازة أو مقررة إقليمياً وتعكس التوازنات التي أنتجتها الانتخابات الأخيرة. أما حزب الله فقد حصد أرباحه مسبقا من خلال دور الشراكة في التأليف، ووضع اليد على القرار الحكومي، وانتزاع حصة له من التمثيل السني، وتأكيد قدرته المطلقة في تعطيل كل الاستحقاقات والقرارات لضمان تطابق نتائجها مع توجهاته، إضافة إلى استرهان البلد لخدمة مشروعه السياسي الداخلي وربطه بالحروب الدائرة في محيطه. أما الرئيس المكلف ورغم محاولات التحصُن بالدستور دفاعاً عن صلاحياته لتغطية خسائره والتخفيف منها، فيتشبث بخيار البقاء في موقع رئاسة الحكومة مكبلاً بالشروط المفروضة عليه، بديلا عن الاعتكاف والعودة إلى مقاعد انتظار الأمل بأن تتغيّر الظروف الإقليمية. أما الرئيس القوي وخلافاً للدستور فقد كرّس صلاحية الشريك في تأليف الحكومة واقتطع وزارات أساسية فيها تضاف إلى حصة تياره.
ولأن دستور الطائف قابل دوماً لإعادة القراءة وصياغة معادلاته مع كل تبدل في التوازنات، فإن المضحك المبكي أن يدعي الجميع، عند جلاء غبار معاركهم، وبكل وقاحة أنهم ضحوا وقدموا التنازلات وبذلوا التضحيات لإنقاذ الوضع من الإنهيار. لكن الأخطر هو مضاعفات الأزمات والفراغ والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة من قبل الحكومات المتعاقبة بالتكافل والتضامن بين أركان الطبقة السياسية وقواها الطائفية. أما الغالبية الساحقة من اللبنانيين الذين تسحقهم الأزمات المتفجرة على أكثر من صعيد، فهم عرضة لكل منوعات التضليل والابتزاز اللذين يدفعان بفئات واسعة منهم إلى الإحتشاد في متاريس الأحزاب الطائفية المتقابلة لنصرة زعاماتها بعيداً عن مصالحهم الفعلية. بينما الأكثرية منهم تعاني نتائج الإستباحة والإستهانة بحقوقها ومصادر عيشها، ويتآكلها الخوف والقلق من الإنهيار الاقتصادي والمالي الزاحف على البلد جراء الفراغ الحكومي وشلل المؤسسات وسيادة الفساد.
ومع تفاقم الأزمات واحتدام الصعوبات، ليس مفاجئاً أن تنفجر حالة الاحتقان في صيغة تحركات محدودة وعفوية وأن تتناسل الدعوات لها وتتعدد الجهات الداعية. كما ليس مستغرباً أن تتباين الشعارات وتتنوع الإجتهادات والمواقف والقراءات للوضع تبعاً لزوايا الرؤية أو مقاصد اصحاب الدعوات وانتماءاتهم. أن يتسم الوضع بالفوضى والعفوية في التعبير أو في مواجهة الوضع والاعتراض عليه، لهو دليل إضافي على حاجة البلد إلى حركة شعبية تحتشد في صفوفها الفئات الاجتماعية التي تسحقها الأزمات والسياسات القائمة لتعبر عن قضاياها وحقوقها ومطالبها، وهذه لا تتأسس ويُعاد بناؤها إلا عبر مسار تراكمي مديد.
وبما أن هذه الحركة لا يُعاد تشكيلها بمراسيم يُصدرها هذا الطرف أو ذاك، فإن انعدام وجودها راهناً هو تعبير عن أزمة الحركة الحزبية وتحديداً اليسارية وهامشيتها. أما النشاطية وتكرار الدعوات للتغيير وإسقاط الطبقة الحاكمة وقلب الطاولة على رؤوسها وإدمان تكرار الحراك الحزبي، فإنه لا يقدم أو يؤخر وإيجابيته الوحيدة محصورة بوجوده فقط، ولنا في تجارب الأعوام الأخيرة ونتائجها خير دليل. إن تصدّر المواقع القيادية، لا يتحقق بالتفرد والفئوية وتجاهل الآخر، فالحركات الاجتماعية هي تعددية بالتعريف، والأدوار لا تبنى إلا عبر توسيع أطر الحوار والنقاش والتنسيق حول القضايا والمشكلات والسياسات حيث هي حقاً، وليس في أي مكان آخر، بدءاً من المطالبة بتشكيل الحكومة كي تنتظم معارضة سياساتها، إلى الابتعاد عن ممارسة التموية لأي من أدوار قوى السلطة أو الرهان عليه، والمساهمة في تسويق التضليل وكي لا يكون التحرك ضد مجهول.
مما لاشك فيه أن كل الوقائع تؤكد ضرورة بناء معارضة سياسية للنظام الطائفي وقواه ومكوناته. والمعارضة تكون ديمقراطية وطنية مستقلة عن تلك القوى أو لا تكون، وهذه الشروط لا تنتجها البيانات وترداد الشعارات العامة، ولا إطلاق الهتافات الخاوية التي تؤكد عمق الأزمة وهول العزلة عن الفئات الاجتماعية وقضايها الفعلية، بل تتحقق عبر فضح ممارسات جميع المشاركين في السياسات المعتمدة والمساهمين في الفساد السياسي القائم على المحاصصة والمنتج لكافة مستوياته ومنوعاته على جميع الصُعد ورؤية مضاعفات ذلك وتحديد المتضررين وأصحاب المصلحة في التغيير. كما وأن الإستقلالية تُحمى وتُصان عبر التدرج في تنظيم التحركات وكسب ثقة الفئات الاجتماعية وتجديد قناعتها بجدوى المشاركة، بعيداً عن التبسيط وتكبير الأهداف والشعارات ومقولات التغيير الفوري والثورة وإسقاط النظام، التي بات تردادها كفيل بإجهاض أي تحرك. أما المعارضات من موقع النظام فلا يُمكن تنسيبها سوى إلى صراعات قوى السلطة في ما بينها ونتائجها.
لسنا في وارد الاستهانة بأي تحرك مهما كان محدوداُ، ولا الإستفخاف بأي دعوة مهما التبست مقاصد أصحابها، فالأزمة أعمق وأوسع من كل التصورات سواء في السياسة أوالاقتصاد أوالاجتماع، والمخاطر لا يمكن لأي دراسة أن تحصيها أو تحيط بها. والقضايا تستحق النضال من أجلها، وهي شائكة وفعلية وتتطلّب التفكّر والمتابعة بجدية، وحس من المسؤولية يعكس الإنتماء للوطن وقضاياه بعيداً عن الأوهام، ومحاذرة تكرار أخطاء تجارب الماضي ومغادرة التردد أو انتظار ظروف مؤاتية لن تأتي. القضية ليست أقل من التأسيس لمسار معاكس ومتنامٍ يعزز إمكانية خلاص البلد وأهله، بديلاً عن الاستسلام لأزمات النظام الطائفي والدوران في فلك صراعات قواه والإقامة في مسارات الحروب الأهلية المدمرة والتي أختبرناها طويلاً، والتي يشكل تحدى الخروج من أسر آلياتها وقيودها وانقساماتها، أهم ما يواجه اللبنانيون سبيلاً وحيداً للنفاذ من امتداد النيران المحيطة بهم إليهم، وتجديد الأمل باستعادة الحد الأدنى من الإستقرار السياسي وتجنب الإنهيار الاقتصادي والاجتماعي وفتح الأفق أمام مسارٍ للتقدم.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]