كمال اللقيس
هذه القرية الكونية تعمل على إبتلاع الناس لتتقيأهم سلعًا ومسوخًا .
أسعى في هذا المقال إلى رصد وتحليل ظاهرة العولمة – كسيرورة كونية لا رادَّ لمسارها- وفق مجريات تطورها الفعلية، وما ينتج عنها من تأثيرات، وما تفرضه من تحديات تجعلنا نتجاوز منطق قبولها، او رفضها لأن مفاعيلها العالمية قد أصبحت امراً واقعاً يوجب علينا البحث الجاد في كيفية التعامل معهز هذا ما يحدد موقفنا وموقعنا من الحدث استناداً إلى اهدافنا وإمكانياتنا وسبيل الاستفادة منها، فتأثيرات العولمة -على الرغم من طابعها الكوني-ليست “قدرًا” محتوماً يرسم مصيرنا سلفاً، ولا يفيدنا التجاهل والهروب والرفض الانفعالي فلا موقعنا-عرباً ولبنانيين- ولا اهدافنا المستقبلية تتيح لنا تجنب ما يحدث على الساحة العالمية.
إن معظم الأبحاث التي تناولت ظاهرة العولمة قد أشارت إلى جملة السلبيات التي تنطوي عليها العولمة الحالية، كالهيمنة على المؤسسات الاقتصادية الدولية، والتحكم بعمل مؤسسات الشرعية والقانون الدوليين، وركزت تلك الأبحاث على الآثار الخطرة لسيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على الاقتصاد العالمي، إلى جانب نشر وتدويل القيم الثقافية وانماط السلوك على الطريقة الأميركية او “امركة العولمة”
واذا كان هذا النموذج هو ما يتحكم بالعولمة الراهنة فإن الأمل ببناء عولمة بديلة ذات طابع انساني(انسنة العولمة) في توجهاتها، وذات نزوع ديمقراطي في التعامل مع ثقافات الشعوب والأمم الأخرى، يصبح املاً مشروعاً وجديراً بالتفكير للعمل من أجل خلق شروط مؤاتية لبناء العولمة المستقبلية البديلة.
بناءً على ما تقدم ذكره يصعب على المرء تقديم تعريف نهائي لظاهرة العولمة، لأن الميل العام الذي سيحكم تطورها، مشروط بدخول لاعبين دوليين جدد عبر التحالفات القائمة والمحتملة في المستقبل من هنا يصعب الركون إلى اختزال العولمة بأحد مكوناتها، أو التركيز على بعض مظاهرها وتجلياتها بصورة انتقائية، فمقاربة العولمة من موقع المركز الأميركي ومصالحه متناقضة مع تناولها من منظور مصالح الاطراف، وهذا ما يقودنا إلى ملاحظة مفادها أن العولمة في جوهرها ليست عملية نقل الإنتاج إلى الاطراف، وتعميمه على الصعيد العالمي كما زعم صادق جلال العظم منذ عقدين ونيِّف:”إن العولمة هي وصول نمط الإنتاج الرأسمالي إلى نقطة الانتقال من عالمية التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج واعادة دائرة الإنتاج ذاتها”(صادق جلال العظم/ما هي العولمة؟/مجلة الطريق/العدد الرابع/تموز-آب 1997).على الرغم من أنًّ هذه السمة واحدة من اهم الخصائص التي تميز العولمة على المستوى الاقتصادي، كما انَّ العولمة ليست مرادفاً حرفياً للثورة العلمية التقنية التي يشهدها العصر، على الرغم من انَّ خصائص التطور العلمي السريع الوتيرة والثورة المعرفية في ميادين الاتصالات والمعلومات والهندسة الجينية والالكترونبات واختراقات الفضاء، هي ما يميز عصر العولمة عما سبق من التاريخ الانساني، فضلاً عن ولادة شركات ما فوق قومية متعددة الجنسيات، وصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، إلى جانب تنظيمات المجتمع المدني على الصعيد العالمي، ولهذه العولمة خصائص اقتصادية وآثاره ثقافية سلبية ومخاطر سياسية وأمنية.
يبرز اليوم شكل جديد للتطور المجتمعي يعتمد في نمط سيطرته على المعرفة العلمية المتقدمة ، وعلى كفاءة استخدام المعلومات في ميادين الحياة كافة، فتبوأت الثورة المعلوماتية منظومة الإنتاج الاجتماعي، وتمايزت عن المجتمع الصناعي في وجوه كثيرة. فبينما اعتمد هذا الأخير في مراحل تطوره على التجارة والميكانيك والفحم والحديد، وعلى قوة العمل الانساني، والادارة الرأسمالية التي وظفت قوة الدولة العسكرية في تأمين تدفق المواد الأولية، وفتح أسواق جديدة، وفيما انتقل هذا المجتمع الصناعي في مرحلة لاحقة إلى الاعتماد على الطاقة الكهربائية والذرية والنفط، مستفيداً من انجازات الإدارة الحديثة والشركات العابرة للحدود القومية والاحلاف العسكرية، لتأمين أسواقها والموارد الأولية، فإن مجتمع المعلومات يعتمد اساساً على قوة العقل البشري، والثورة الرقمية والالكترونيات والذكاء الصناعي.
كما يتصف هذا المجتمع بتغيير جوهري في مفهوم الزمن فالتسارع في الوقت، وتقليص الفارق الزمني بين الفكرة وتحقيقها الفعلي، قد جعلا من مفهوم الزمن سمة بارزة لعصر العولمة. أما النمو الاقتصادي فقد بدأ مع الرأسمالية التجارية بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى ، وتطور في عصر الثورة الصناعية والإنتاج الآلي، وصولًا إلى الاحتكارات الكبرى، وتصدير رؤوس الأموال، لكننا شهدنا مع بزوغ عصر العولمة، تغيرات نوعية وجدت تعبيراتها في نشاط الشركات المتعددة الجنسية وفي اتفاقيات منظمة التجارة العالمية(wTO) ، وفي التكتلات الاقتصادية الكبرى، كألاتحاد الاوروبي و”النافتا/NAFTA” بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك، و”ASEAN” التي جمعت دول جنوب شرقي آسيا (سنغافورة-ماليزيا-تايلاند-الفيليبين-اندونيسيا)، فضلا عن نهوض نمور آسيا (كوريا الجنوبية- سنغافورة- هون كونغ- تايوان). وقد لازمت كل هذا النشاط الاقتصادي السيطرة على الأموال والمدخرات، عبر نظم تشغيل مالية ونقدية تتحكم بالارصدة والبورصات والاسهم وسندات البنوك.
والذي حدث في شرقي آسيا منذ ثلاثة عقود تقريباً لكوريا الجنوبية وإندونيسيا وسنغافورة وماليزيا وتايلاند بسبب المضاربات المالية، أدى إلى انهيار كبير في بورصات هذه الدول ، والى تراجع في معدلات نمو ناتجها المحلي وصادراتها. ولم تنجُ اليابان من هذه الأزمة على الرغم من مناعة اقتصادها وقدرتها الصناعية الهائلة، وهذا كله يشكل مؤشراً خطيراً على الفوضى التي تعتري ظاهرة العولمة ، وعلى تعايش العشوائية والتحول المنظم جنباً إلى جنب في عصر العولمة المليء بالتناقضات.
وتجدر الإشارة ههنا إلى أن العولمة، تعمل على تحرير الأسعار وخصخصة الاصول والتوزيع الكوني للإنتاج المصنَّع عبر الاستثمار الأجنبي المباشر، ما يشكل إعادة صياغة للتقسيم الدولي للعمل، ويرسم علامات استفهام حول دور الدولة الحديثة، وحول سيادتها المهددة، وانكفائها عن ممارسة وظيفتها المتصلة بالرعاية الاجتماعية، وتقلص مجالها السيادي نتيجة تدويل الانتاج والنشاط الاقتصادي للشركات العابرة والمؤسسات المالية العالمية.
وعلى هذا الصعيد لا يخفى على احد التدخل السافر لصندوق النقد والبنك الدوليين في شؤون الدول الوطنية، والشروط التي يطلبانها لضمانة فوائد القروض، حتى لو أدى هذا الإجراء إلى تجويع غالبية مواطني تلك الدول، عبر “النصائح” والإملاءات التي تُلزم بالاصلاح الهيكلي وتحرير الاسعار، وصولًا إلى التدخل في أسعار السلع الأساسية. وليس من باب التهويل الادعاء بأن التفاوت العالمي في توزيع الثروة على مستوى الدول والأشخاص قد بلغ حدّاً غير مسبوق.
وسط هذا الضجيج المعولَم جهدت الولايات المتحدة الأميركية- ولمَّا تزل حتى تاريخه- في تصدر المشهد العالمي، فأفرطت في الأداء السلبي لسياساتها الخارجية، التى تقوم على المجازر والدم (ناعوم تشومسكي)، بقطع النظر عن تعاقب اداراتها، وعن تداول السلطة بين حزبيها: الجمهوري والديمقراطي، مع تأييدي لحداثتها الداخلية. اما ما تمارسه منذ أمد فما هو الَّا محاولة دؤوبة لنشر وتعميم نموذجها السوسيو/ثقافي، وذلك من خلال الضخ المتواصل للصوت والصورة، عبر أحدث وسائل الإعلام والاتصال إلى كل بيت في الكوكب بشكل فوري ومباشر، ولا تقف الامور عند هذا الحد، بل تتخطاه إلى التبشير بإنتصار القيم الأميركية في السلوك واللغة والثقافة، وتكثر من الحديث عن نهاية التاريخ (فرانسيسكو فوكوياما)، وسيادة الرجل الاخير(النيو ليبرالي)، على جميع الشعوب والدول الاخرى.
والمتابع المحايد لمجريات الامور يكتشف – من دون عناء البحث- خطر التدخل الأميركي في شؤون الدول الأخرى، مسخراً قرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، لتنفيذ رغبة الولايات المتحدة الاميركية في قيادة العالم، بما يخدم مصالحها واهدافها مما يدفعها إلى ممارسة براغماتية فظة، عبر اتباعها معايير مزدوجة وسياسة الكيل بمكيالين، والأمثلة على ذلك لا تحصى، ويكفينا هنا أن نذكَّر بالتغطية الأميركية الكاملة لـ”هولوكوست” العدو الصهيوني اليومية في فلسطين المحتلة منذ سته عقود على الاقل.
إنَّ كل المتغيرات التي يشهدها العالم المعاصر تدلل على وجود سيرورة موضوعية، تتحرك بإتجاه جعل العالم واحداً احداً على الرغم من كل التناقضات التي تصحب هذه العملية، فمصير العالم المشترك إزاء الأخطار البيئية، وما يهدد الكوكب من مخاطر اندلاع نزاع نووي، اضافة إلى الأزمات الناتجة عن الانفجار السكاني، وشح الموارد المائية، تجعل من المسؤولية الإنسانية المشتركة “قدراً”، لا بد من التآزر والتعاون لمواجهة آثاره المحتملة على مصير الحياة على الأرض. لكنَّ الصراع مع الطبيعة لضمان البقاء وتحسين شروطه، لم يحفز وعي البشر ويخفف من صراعاتهم من أجل السيطرة والربح والنفوذ. فالنزعات الأهلية بسبب اللون والعرق والمذهب والهوية، والمحاولات المتواصلة لاخضاع الأمم الأضعف والأقل تطوراً، تؤكد جميعها بأن قانون التفاوت والتمايز ما زال سائداً، على الرغم من الدعوات إلى المساواة وعدم التمييز بسبب اللغة أو الدين أو اللون .
كل هذا يعني بأن العولمة بنسختها الأميركية وبمثالبها، ليست التعبير الأمثل عن وحدة العالم، ما يشكل عنصراً ضاغطاً للبحث عن عولمة “مؤنسَنة” بديلة. فهل يتحصّن هذا التوجه بمقومات فكرية واقعية تجعله يتجاوز عتبة اليوتوبيا ليترجَم في التاريخ المشخص والفعلي للبشر؟
لقد شكلت المعطيات التي اوردناها، علاوة عن الاختلالات الوجودية العميقة التي يعيشها العالم ، دوافع أخلاقية وحوافز معرفية ورهانات سياسية تدفع بالمهمشين والمتضررين في ظل “الامركة” إلى طرح السؤال حول ما اذا كانت العولمة الحالية خياراً وحيداً لا يمكن استبداله؟ وفي مشاريع الإجابات على هذا السؤال الوجودي يبدو جليًّا بأنَّ النقاش يجب ان يتجاوز الرفض الانفعالي للعولمة القائمة والتسليم التام بها. أمَّا مشاريع الاقتراحات لبعض رجال الفكر والباحثين فقد قدمت تصورات لبناء استراتيجية بديلة للعولمة الراهنة اهمها:
– صيغة الحوار الحضاري بين الثقافات المختلفة كبديل لهيمنة الحضارة الغربية، ومقولة صدام الحضارات/الاديان (صموئيل هانتنغتون).
-صيغة إعداد وثيقة وبرنامج عمل لتحالف من أجل عالم مسؤول ومتضامن.
– صيغة عالم متعدد الاقطاب عوضاً عن هيمنة القطب الواحد.
-صيغة بناء مجتمع مدني عالمي يغتني بالتنوع والحوار والمشاركة.
– صيغة “السوق الاجتماعية” المنبثقة من حركة “الطريق الثالث” كبديل للرأسمالية والاشتراكية بشكليهما التقليديين.
وبقطع النظر عن رفض أو قبول الاقتراحات المقدمة بتجاوز تلك الاختلالات، ومع جدية وخطورة التهديدات يجب علينا أن نتحلى بالإرادة والتصميم، بدلاً من الانكفاء عبر إشاعة روح المسؤولية الفردية والمجتمعية، وعبر احترام تنوع الثقافات، وادراك ما يقع على كاهلنا إزاء الاجيال القادمة، ومواجهة أولئك الذين يريدون حصر العالم في لعبة المصالح الخاصة والنفوذ والأسواق.
اما قناعتي بـ “الطريق الثالث” للتطور، تتجاوز الاشتراكية التي طبقت في أوروبا الشرقية وبعض بلدان العالم الثالث، والتي ادانها التاريخ كما يرى البعض من دون أن ينال ذلك من النظرية الماركسية كما يرى البعض الآخر، وهذا الطريق الثالث عليه أن يتجاوز أيضاً الرأسمالية في صيغتها الليبرالية المتوحشة، التي عانت من أزمة بنيوية عميقة، كما حدث في جنوب شرقي آسيا وروسيا واميركا الجنوبية. وهذا الطريق قد يجد بعض ضالته في تجربة الاشتراكية الديمقراطية المزدهرة في الدول الاسكندنافية. لكنَّ ما يثير الدهشة على هذا المستوى اعتقاد بعض المنظربن بأنَّ التجربة الصينية الهجينة، تجسد “الطريق الثالث”، وفي هذا اقول كيف لدولة شمولية آحادية مركزية، تمنح الحرية الاقتصادية لاصحاب رؤوس الأموال وكبار رجال الاعمال، وتمنعها في السياسة على الجميع فترفض حرية الرإي والتعددية السياسية وتداول السلطة السلمي. كيف لهذه الدولة ان تشكل نموذج “الطريق الثالث”؟!
لا ينطلق الرهان على بناء عولمة بديلة مؤنسَنة من فراغ أو من رغبات عاطفية صادقة، بل يتشكل من قوى وافكار من منطلقات ومواقع مختلفة ومتكاملة، لبناء عولمة أكثر ديمقراطية وانفتاحاً على تلاقح ثقافات الشعوب. ومع أنَّ المعطيات الحالية لا تسمح بمواجهة العولمة الحالية سياسياً، الَّا أنَّ ذلك لا يعفينا عرباً ولبنانيين من ضرورة التنسيق والتكامل وصولاً إلى صيغ من الحوار والتعاون والرؤى المشتركة لضمان المصالح المشتركة، فمن المؤكد أنه لا مكان في عالم اليوم الذي يزداد تكتلاً، للبلدان والأمم الضعيفة، التي تتأثر ولا تؤثر، تنفعل ولا تفعل، وكأنها داخل الزمان وخارج المكان والتاريخ.
Leave a Comment