زاهي البقاعي
مع اقتراب دخول الانتفاضة الايرانية في شهرها الثالث تتصاعد التحليلات والتعليقات حولها، مع حضور اعلامي متباين تضخيما وتهويناً، لكن الثابت الوحيد هو أن الاعتصامات والتظاهرات ما تزال تطغى على المشهد الايراني الداخلي، حتى أن خبر توجه الوفد المفاوض من ايران إلى فيينا لا يلقى اهتمام وسائل الاعلام المشغولة بما هو أهم، سواء على الجبهات الاوكرانية – الروسية، أو الانتخابات النصفية في اميركا، أو تجارب الصواريخ والتهديدات بين الكوريتين وغيرها.
ومما لاشك فيه أن استمرار الانتفاضة هذا المدى الزمني أخذ يطرح أسئلة تتطلب الأجوبة عليها، وهي التي تبدأ من قدرة النظام على الصمود دون تقديم تنازلات للمتظاهرين / المتظاهرات، والتي تمس بجوهر تركيبته وآليات إمساكه بمقاليد الأمور. كما أن الأسئلة تتعمق لتطال أساس نظرية الحكم في ايران والمؤسسات التابعة لها، والتي تمسك بخيوط المجتمع وتسوقه حيث تريد، والتي جاءت الانتفاضة، رغم مئات الضحايا وعشرات ألوف المعتقلين، بشعارات “المرأة، الحياة والحرية” لتعلن بصريح العبارة وبالصوت والصورة والهتاف أنها “عافتها” وتريد تغييرها بعد هذه العقود من الاستبداد. وقد تخللها الكثير من الانتفاضات التي هزت كرسي العرش الراسخ دون أن تهيل عليه التراب. أكثر من ذلك تتناول بعض الأسئلة التمدد الايراني في الاقليم، ومدى علاقته بالحرب الروسية على اوكرانيا، والدور الروسي المعروف في تأمين المظلة للسلطة، والمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الصين في الحلول محل الدور الروسي المأزوم، كما يتبين من فداحة الخسائر التي تتعرض لها آلته الحربية على جبهات القتال. أيضاً وأيضاً وفي باب الأسئلة يتصاعد الحديث عن مدى القدرة الايرانية على الاحتفاظ بالهيمنة التي أقامتها في المنطقة بما يشمل كل من “شعاب” اليمن وساحات بغداد ومساحات سوريا وجبال لبنان. وهو التمدد الذي كلف الكثير للاستثمار فيه سواء بشرياً أو مالياً.
اذن يبدو الموضوع أعقد وأكبر من مجرد احتجاج على مقتل الشابة مهسا أميني على يد حرس الاخلاق الايراني، كونها ارتدت حجابها بطريقة غير محتشمة، وغير مقبولة من جانب المؤسسة المشرفة على تطبيق الاوامر الدينية. وعليه، فالمؤكد أن التظاهرات التي انطلقت قبيل منتصف شهر ايلول المنصرم تظل أوسع من مجرد غضب نسوي على الموقع الدوني الذي وضعت السلطة المرأة فيه وثابرت عليه ووضعت الحراس لحمايته، وعلامته الفارقة الحجاب والممنوعات والمسموحات المفروضة على النساء دون الرجال. والمؤكد أن الانتفاضة بما شملته من مدن وأقاليم وما جذبته من مجاميع بشرية، هي خلاصة الرد على ممارسة السلطة الايرانية تجاه كل من الداخل والخارج على حد سواء. ففي الداخل يعاني المجتمع الايراني تحت سلطة رجال الدين من أزمات متداخلة، تبرز على سائر مستويات الحياة. خصوصاً مع الاطاحة المتلاحقة بالقوى الاصلاحية دينية ومدنية من داخل النظام، وارغامها على الخروج من المشهد، وفرض الإقامة الجبرية عليها، وتكريس الاستبداد تباعاً على السياسة وممارستها وحصرها بمؤسسات الدولة المعلنة والمستترة. وبالتالي تغييب الحد المتواضع الذي كان متوافراً من الممارسة الانتخابية، والديمقراطية التي تمت الاطاحة بها مرة ومرات. وهو ما فرض السكينة حتى جاء مقتل أميني ليطلق المارد من القمقم.
وعلى صعيد التعامل مع الاقليات التي يبلغ تعدادها 60% مقابل 40 % للعنصر الفارسي الأكثري، والاقلوي في الوقت نفسه، يعاني هذا المجموع من حالة تمييز يختلط فيها الديني بالقومي، ويؤثر ويتأثر كلاهما بالآخر. كما أن هذه الاقليات ذات تركيبة تقليدية، وبعضها ما زالت بنيته عشائرية أو شبه قبلية على الأقل. ومع أن معظمها تقيم في مناطق طرفية، الا أن قسماً لا يستهان به من جموعها نزح تحت وطأة الأزمات التنموية، وضيق سبل العيش إلى العاصمة والمدن الكبرى، ما قاد إلى تداخل سكاني واسع. يمكن قول الكثير عن طريقة التعاطي مع هذه الاقليات في السنوات السابقة، لكن المهم الآن الإشارة إلى أن السلطة الايرانية حاولت منذ اندلاع الانتفاضة أن تنقل المعركة إلى خارج البلاد، عندما أغارت بطائراتها المسيرة وصواريخها الارضية على كردستان العراق، محملة القوى الكردية فيها مسؤولية ردة الفعل على مقتل أميني، ما أدى إلى توتر مع العراق، وفشل في حرف التظاهرات عن مسارها في التصويب على السلطة، دون الوصول إلى طرح مسألة الانفصال، وبالتالي تفكك البنية المتنوعة عرقيا ولغوياً للدولة. ومع أن هذا الهجوم لم يستمر، الا أنه الآن ومع ارتفاع مستويات القمع في مناطق الاقليات ومدنها لشد العصب القومي والمذهبي، يجري تسويق أن القبائل الحدودية تعمل على نقل السلاح للداخل، لتبرير قمعها العاري للتحركات من جهة، ولتكريس اتهامها للولايات المتحدة والغرب بالتدخل في الشأن الداخلي للبلاد وإشعال فتيل الاحداث، وهو ما لم يعبأ به الايرانيون الذين يواصلون تحركاتهم. علماً أن اقتناء السلاح هو من الامور التقليدية في المجتمعات البدوية في كل مكان تقريباً وليس في ايران وحدها.
بالطبع يجب أن يضاف إلى العامل الإثني العامل الطائفي وما يتركه من مضاعفات، وحتى من مستويات قمع. فالمناطق الكردية والتركية والعربية السنية تُعامل على غير ما تعامل به المناطق الفارسية والكردية والتركية والعربية الشيعية. وينسحب ما يشبه ذلك على باقي الاقليات التي تشعر بأنها مقهورة وممنوعة من التعبير عن ذاتها بلغاتها ومدارسها ورموزها وعقائدها الدينية. ما يؤشر إلى اشكالية متجذرة في المجتمع الايراني منذ ما قبل الثورة الايرانية، التي أعطتها طابعها المذهبي والإثني. ومن المعروف أن ايران لا تعترف بحقوق الاقليات من أي نوع كان. وتعمل جاهدة على تذويبها وطمس هويتها وخصوصايتها، فضلا عن تعريضها لأزمات متصاعدة كما يحدث في منطقة الاهواز العربية وغيرها على صعيد توفير المياه والخدمات والبنية التحتية ومشروعات التنمية.
والمؤكد أن تقدم الامام علي الخامنئي في السن فتح موضوعة وراثة متوقعة لموقعه. ومع أن القوى التي جاءت به إلى سدة السلطة ما تزال متكافلة متضامنة، تسعى كل منها إلى ضمان وصول من يمثلها إلى هذا الموقع، للحفاظ على امتيازاتها التي حصلت عليها نتيجة قربها من موقع القرار، الا أن الوضع قد ينفجر من الداخل على شكل صراعات بين أطراف ومكونات السلطة في حال رحيله، أو شعرت أياً منها بتهديد ما لنفوذها. ولا شك أن وضعاً على هذا النحو يجعل مواقع السلطة المتعددة في حال ترقب وترصّد لبعضها البعض. خصوصاً وأن خطوط الجميع الآن تتلاقى عند شخصية المرشد المحورية والتي تتمركز السلطة في يدها، ومنها “تفيض” إلى مصلحة تشخيص النظام والمؤسسات السياسية بما هي مجلس النواب والحكومة والحرس الثوري والجيش والمجمع الديني، الذي جرى تطويعه لما جرى تطويبه من تراتبيات. ولا ننسى في هذا المجال أن هناك رجال دين معارضون لمثل السياسات المعتمدة. لذا لم يكن من باب العبث تصويب الشارع النار على خامنئي ووصفه بالديكتاتور كونه رأس الهرم، وإحراق مجسمات قاسم سليماني في الساحات العامة كتعبير عن رفض رمزي للنظام السياسي والأمني. ومسلسل التدخلات الخارجية التي تقدم بوصفها انتصارات صافية، الا أن رفض النظام شيء والقدرة على تغييره أمر آخر. وهنا نصل إلى وضع الانتفاضة التي ما تزال محصورة بفئات اجتماعية هامشية قوامها جموع الشباب والفتيات والطلاب والعاطلين عن العمل، دون أن تتمكن من التعبير عن تنوع وكثافة النسيج الاجتماعي للبلاد. والمقصود هنا عمال النفط وصناعة البتروكيميائيات وتجار البازارات في المدن الكبرى وخصوصاً العاصمة والمزارعين والعمال والمعلمين والأساتذة والموظفين والجنود والصيادين وغيرهم.
وفي المضمار الداخلي هناك الأزمة الاقتصادية المستحكمة بفعل الحصار والاحتكارات وتردي الأوضاع المعيشية وسوء توزيع الثروة والدخل بين المواطنين. ويشعر الايرانيون أنهم يدفعون ثمن تمدد النظام عزلة عن العالم، وأزمات تعبر عن نفسها بتراجع قيمة التومان إزاء الدولار، وارتفاع في عموم الاسعار، ولاسيما المواد الرئيسية كاللحوم والزيوت والاجبان وغيرها، وكذلك في السلع المفقودة من الاسواق.
المهم أن الانفاق على الصواريخ والطائرات المسيَّرة وغيرها مما تحاول السلطة تنفيذه، يسقط على داخل يعاني من تراجع في ثقته بالنظام وتلاطم الأزمات وانهيار في قدراته الشرائية، وإعاقات نمو تحول دون دخول مئات ألوف الشباب إلى سوق العمل. يزيد الطين بلة السيطرة على مؤسسات ومرافق الانتاج واستغلالها لصالح أقلية في الحكم عن طريق شركات تابعة للحرس الثوري وغيره من المؤسسات الأمنية، ناهيك بالمؤسسة الدينية…يتبع
Leave a Comment