مايكل نايتس *
قبض وكلاء إيران على السلطة في بغداد وها هم يجهزون على الدولة
من الخارج يبدو العراق كأنه حقق مقداراً من الاستقرار. فقد باتت للبلد أخيراً حكومة تضطلع بمهماتها بعد فراغ سياسي دام عاماً. وتراجع عنف الإرهاب إلى أدنى مستوياته منذ الاجتياح الأميركي عام 2003. بل إن الميليشيات العراقية التي تدعمها إيران، وشكلت طوال مدة طويلة مصدراً للتوتر مع واشنطن، قلصت على نحو ملحوظ هجماتها على المراكز الأميركية، الدبلوماسية والعسكرية.
في الرابع من مايو (أيار)، في خطاب ألقاه في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، اعتبر مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، أن نجاح الإستراتيجية الأميركية، المستندة إلى “ركيزتي الردع والدبلوماسية التوأمين”، يعود إلى تراجع الهجمات على المصالح الأميركية.
ويعتبر فريق الأمن القومي في إدارة الرئيس جو بايدن، على ما يظهر خطاب سوليفان، أن الهدوء في الشرق الأوسط، بما فيه العراق، غاية في حد ذاته. وعلى رغم مسارعة سوليفان في خطابه ذاك إلى نفي “رفع راية النصر في العراق”، وقوله إنه لا تزال لدى الولايات المتحدة “أجندة عريضة” لتقوية استقلال بغداد عن طهران، ومعيار النجاح الحقيقي هو خفض التوترات بين الولايات المتحدة والميليشيات التي تساندها إيران، المهيمنة على الحكومة العراقية. فالبيت الأبيض يرى أن خفض التوترات شرط لا بد منه لتتمكن الولايات المتحدة من التركيز على تنافسها مع الصين. لكن المقاربة هذه تكلف أثماناً باهظة على المدى الطويل: تستغل رغبة الولايات المتحدة في الهدوء هناك من قبل حلفاء طهران لزعزعة النظام السياسي في البلاد.
فالعراق قد يبدو هادئاً اليوم، لكن الهدوء الظاهر ربما يكون خادعاً، والبلد يدخل فعلاً مرحلة خطرة على نحو استثنائي. فحلفاء إيران سيطروا سيطرة غير مسبوقة على البرلمان العراقي والسلطة القضائية وعلى أذرع السلطة التنفيذية. ويتلاعب هؤلاء الحلفاء بالنظام السياسي ويجيّرونه لمصلحتهم، كما ينهبون موارد الدولة. ويسهم تراخي موقف واشنطن من هذه الوقائع في تعاظم كلفة تدخّل الولايات المتحدة في المستقبل. فالعراق هو ثالث أكبر منتج للنفط في العالم، وانهياره قد يزعزع الشرق الأوسط برمته جراء تدفق اللاجئين وانتشار الإرهاب. ولم يسبق للمنافسة بين القوى العظمى أن عذرت تجاهل الأخطار التي يواجهها هذا البلد – ولا ينبغي اعتماد هذا العذر اليوم.
انتصار الميليشيات
مر العراق بأوقات مظلمة كثيرة منذ عام 2003، ولكن ما من وقت سابق يصدق القول فيه إن سمته انعدام الأمل مثل الوقت الراهن. نعم، للعراق اليوم حكومة بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وقوى الإطار التنسيقي التي تشكل كتلة سياسية متحالفة، على نحو وثيق، مع إيران. ولم يحصل هذا الأمر إلا بعد أن قام الفائز الفعلي بانتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أي تيار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، بالخروج من البرلمان في يونيو (حزيران) 2022. والصدريون خطوا تلك الخطوة بعدما بدّل القضاء العراقي الذي يسيطر عليه قادة الميليشيات المدعومة من إيران، قوانين تأليف الحكومة بما يتلاءم مع مصالح حلفاء طهران. فأصبحت نتائج الانتخابات غير ذات أهمية، وكوفئ الخاسرون بالفوز، حتى بعد ممارستهم الشغب، وخروجهم للتظاهر وهجومهم بالمسيّرات على منزل رئيس الوزراء بغية إبطال نتائج التصويت.
والواقع الذي نتج من كل ذلك، أي احتكار الإطار التنسيقي فروع الحكومة العراقية، غير مسبوق في تاريخ البلاد منذ عام 2003. فالحكم اليوم تمارسه سلطة مطلقة لم يشهدها العراق منذ أيام صدام حسين. والسوداني ليس سوى دمية. وهو رئيس وزراء يملك خبرة إدارية في القطاع العام والعمل الإداري، لكنه يقود العراق اسمياً، ولا يتكتم حلفاء إيران على الاستخفاف به علناً. أما السلطة الفعلية، فهي بيد ثلاثة من أمراء الحرب، كلهم وثيقو الارتباط بإيران، ويقودون الإطار التنسيقي: قيس الخزعلي، قائد ميليشيا عصائب أهل الحق المدربة من قبل إيران، وتصنفه الولايات المتحدة إرهابياً، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي وهادي العامري، قائد منظمة بدر التي أنشأتها إيران.
وكان هؤلاء الثلاثة قيدهم جزئياً نشاط عدد من الخصوم. ففي أثناء الاحتلال الأميركي، بين 2003 و2011، وخلال الحرب على تنظيم “داعش”، من 2014 إلى 2019، سعت واشنطن سعياً حثيثاً إلى الحؤول دون سيطرة الميليشيات على مقاليد الدولة ومرافقها. وأسهم المتظاهرون العراقيون في فرض قيود على سلطة الجماعات التي تدعمها إيران، إذ أدت تظاهرات العراقيين الحاشدة، عام 2019، إلى إسقاط رئيس الوزراء الخاضع للميليشيات، عادل عبدالمهدي. وفي الانتخابات العراقية الأحدث، حاول مقتدى الصدر حشد المؤيدين في سبيل تكوين أكثرية متعددة الإثنيات والطوائف، وتشكيل حكومة تستبعد الإطار التنسيقي.
بيد أن مصادر المعارضة تلك ذوت جميعها اليوم. فمناورة الصدر الانتخابية فشلت بسبب تدخل السلطة القضائية، وحركته اليوم تداوي جراحها خارج السلطة. أما الميليشيات التي تدعمها إيران، فلم يعد هناك ما تخشاه من متظاهرين شباب رُوّعوا وحُملوا على اليأس. وفي الأثناء تنشغل الولايات المتحدة بصراعها الجيوسياسي مع الصين وهي قلصت أهدافها لتقتصر على تخفيف التوترات في أنحاء الشرق الأوسط– بغض النظر عن كلفة هذه المقاربة، على المدى الطويل، ونتائجها على المصالح الأميركية في المنطقة.
تزوير النظام
لقد باتت تداعيات سيطرة الإطار التنسيقي على الحكومة العراقية جلية من غير مفاجأة. فهذه الكتلة تعزز سيطرتها الكاملة على البلاد من غير أن يعترضها معوق وتنهب موارد الدولة العراقية وتقمع الأصوات المعارضة. ولا تظهر إمارات تراجع على سطوتها على الساحة العراقية، إذ يهيمن الإطار التنسيقي اليوم على حكومة البلاد، كما يسيطر على البرلمان، في انتظار موعد الانتخابات التالية في أكتوبر 2025. والأخطر في هذا السياق، هو سيطرة كتلة الإطار التنسيقي على الجسم القضائي بمقدار لم تشهده البلاد منذ سقوط صدام. فالقاضي الأول في العراق اليوم، فائق زيدان، مقرب جداً من أمراء الحرب، قادة الإطار التنسيقي. وتدخلت المحكمة العليا في رئاسته، على نحو حاسم في سياسات البلاد، وأدامت سلطة الميليشيات وكرستها. وفي اللحظة ذاتها التي احتاج فيها الإطار التنسيقي إلى إبطال فوز مقتدى الصدر في انتخابات 2021، غيرت المحكمة قواعد تشكيل الحكومة وأصولها، فقررت أن الصدر يحتاج إلى غالبية الثلثين في البرلمان، وليس مجرد غالبية عادية، ليتمكن من تشكيل الحكومة.
ويستغل الإطار التنسيقي سلطته المطلقة، ويقحم نفسه في عمل مؤسسات الدولة العراقية الأخرى. فمنذ أكتوبر 2022 باتت أجهزة ومؤسسات رسمية، مثل جهاز الاستخبارات الوطنية العراقية ومطار بغداد الدولي وهيئات مكافحة الفساد وإدارة الجمارك تحت سيطرة الإطار التنسيقي. وكانت مؤسسات الدولة العراقية التي عُدّدت للتو، تترنح من قبل. وجاء وضع الإطار التنسيقي يده عليها ليفاقم تآكلها وتقويضها.
وتستخدم الجماعات التي تدعمها إيران نفوذها المتزايد داخل مؤسسات كهذه في إسكات منافسيها وخصومها المحليين. ففي يناير (كانون الثاني)، مثلاً، وبعد السيطرة على هيئة تنظيم الإعلام والاتصالات، أوجبت تلك الجماعات تطبيق معايير صارمة على المحتوى الرقمي، مما ينذر بكبت حرية تعبير العراقيين. وتفرض تلك المعايير الصارمة على المؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي الانتقال (لنشر موادهم ومحتواهم) إلى منصات الحكومة العراقية. وهي قد تتضمن تعريفات غامضة للمواد غير الصالحة للنشر، تعريفات لا تخدم إلا الرقابة، واستدعت منذ اليوم انتقادات منظمات دولية، تأخذ عليها انتهاكها الدستور العراقي.
وعلى النحو نفسه، تنهب جماعة الإطار التنسيقي مصادر الدولة العراقية وتعمل على إلحاقها بمصالحها السياسية الخاصة. وقد أسست الجماعات التي تدعمها إيران، في هذا السياق، شركة تملكها الدولة وتعمل على توحيد أصول الدولة، وتستند إلى نهج يعتمده الحرس الثوري الإيراني لهذه الغاية. وأشرفت تلك الجماعات (جماعات الإطار التنسيقي) على التوسع الهائل في الموازنة العراقية (موازنة الدولة للإنفاق) بقصد شراء تأييد العراقيين سعياً إلى تعزيز مواقعها في السلطة.
نهب الدولة
سعى سياسيو الإطار التنسيقي الميليشياويون، منذ مدة طويلة، إلى التحكم في شركة يحق لها استملاك أراضي الدولة وغيرها من الممتلكات العامة. ومثالهم في هذا المسعى هو “مجموعة (أو شركة) خاتم الأنبياء” التي يملكها الحرس الثوري الإيراني، وتتمتع بنفوذ اقتصادي وسياسي واسع في إيران، وهي حصلت على أكثر من 1200 عقد لمشاريع إنشاء، وتفوق قيمتها، منذ تأسيسها عام 1990، الـ 50 مليار دولار. وتخضع “مجموعة خاتم الأنبياء” لعقوبات فرضتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، بوصفها امتداداً تجارياً لمنظمة الحرس الثوري الإيراني.
وفي الأعوام المنصرمة، كلما حان وقت اختيار رئيس وزراء جديد في العراق، سألت الميليشيات التي تدعمها إيران كل شخصية ورد اسمها في لائحة المرشحين القصيرة هل يؤيد إنشاء شركة من هذا الصنف. وعام 2018، حين أجاب عادل عبد المهدي بنعم عن ذلك السؤال، حصل على دعم الميليشيات لتعيينه رئيس وزراء. بيد أن الحكومة الأميركية، آنذاك، حالت دون تأسيس تلك الشركة. وحين تولى مصطفى الكاظمي رئاسة مجلس الوزراء، بديلاً من عبد المهدي، في منتصف ولاية الأخير عام 2020، تلقى دعماً سياسياً (أميركياً) لرفض إنشاء تلك الشركة – ثم عاد مرة ثانية، ورفض اقتراح إنشاء شركة كهذه عام 2022، عندما طرح فكرتها عليه حلفاء طهران ثمناً لدعمهم تمديد ولايته لرئاسة الوزراء لأربع سنوات إضافية. ولكن الميليشيات التي تدعمها إيران بلغت في نهاية المطاف غايتها، عن طريق ولاية بديل الكاظمي، رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، فهذا أعلن، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، تأسيس “شركة المهندس العامة للبناء والهندسة والمقاولات الميكانيكية والزراعية والصناعية”. وسميت الشركة تيمناً بـ “أبو مهدي المهندس”، الإرهابي بحسب تصنيف الولايات المتحدة، والمقتول في غارة أميركية، في يناير 2020. هذه المرة لم تفعل الولايات المتحدة شيئاً.
ولم يسبق أبداً للعراق أن عرف منظمة أو كياناً مثل “شركة المهندس العامة”. فهي رسمياً، ووفق عقد تأسيسها، ملك “قوات الحشد الشعبي”، الجيش الاحتياطي العراقي الذي ظهر خلال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتقوده جماعات الإطار التنسيقي وغيرها من التشكيلات الإرهابية التي تدعمها إيران. وصلاحيات هذه الشركة عملياً غير محدودة. ففي إمكانها العمل في أي قطاع شاءت، على ما يفترض اسمها، وهي تعد إناء فارغاً يمكن للميليشيات التي تدعمها إيران تثبيت سيطرتها على الاقتصاد العراقي من خلاله. وعلى نحو لا مثيل له، في كيان تابع للدولة العراقية، يمكن للشركة الجديدة الحصول مجاناً على عقارات وأراض، وعلى رأسمال من الدولة، ومرافق تملكها هذه. كما يمكنها تنفيذ أعمال إنشاء وهدم من دون الحصول على موافقة البرلمان أو الحكومة.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2022، بعد مدة قصيرة من إنشائها، منحت “شركة المهندس العامة” مجاناً أرضاً حكومية مساحتها 1.2 مليون هكتار، تمتد على طول الحدود العراقية – السعودية. وأعلن عن هذا المشروع في الإعلام، لكنه لم يخضع لمعاملات أو إجراءات روتينية بيروقراطية، تصحب في العادة مشاريع وهبات كهذه. والمشروع، على ما زُعم، يهدف إلى التشجير والزراعة– وعلى سبيل إيضاح ضخامته، تبلغ مساحته نصف مساحة لبنان، وهو أكبر بـ 50 مرة من أضخم خطة مشروع زراعي شهده العراق في تاريخه. تقع أرض المشروع على موقع إستراتيجي، في منطقة سبق أن أطلقت الميليشيات العراقية منها، في مناسبات عدة منذ عام 2019، مسيّرات نحو السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وفي حادثة ربما تكون الأولى في العراق من باب الاستيلاء على الأراضي الحضرية، صادرت قوات الحشد الشعبي في الـ 24 من أبريل (نيسان)، قطعة أرض كبيرة تقع في غرب بغداد لمصلحة “شركة المهندس العامة”، وكان ذلك عملية وضع يد على جزء من وسط بغداد التاريخي تساوي مساحته مساحة 20 مربعاً سكنياً في نيويورك، وكل مساحة قصر باكينغهام، أو الكابيتول الأميركي. والنمو المتواصل لـ “شركة المهندس العامة” ضربة قاسية للعراق. واستمرار نموها يحبط الآمال الأميركية في مستقبل اقتصادي ناجح للعراق.
في كلمة أمام هيئة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي، في الـ 31 من مايو (أيار)، قالت السفيرة باربارا ليف، المسؤولة البارزة في مكتب شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية، إن “الحيوية الاقتصادية برزت فعلاً للمرة الأولى” في عراق اليوم. وهذه الفرصة قد تخنق في مهدها إذا تمكنت الميليشيات النافذة من إعمال قوتها الاقتصادية الجديدة في الاستيلاء على أي قطاع واعد في العراق وفرض نفسها في العقود الحكومية وترهيب المستثمرين الأجانب.
السطو على المصرف
وتستخدم الميليشيات التي تدعمها إيران عائدات الدولة في تشديد قبضتها على السلطة. والصيغة الأولى من موازنة الحكومة التي تسيطر عليها جماعات الإطار التنسيقي، تعد الأكبر في تاريخ العراق: فهي اقترحت 152 مليار دولار للإنفاق، أي بزيادة 50 في المئة تقريباً على آخر موازنة عراقية أقرت رسمياً منذ عام 2021. وتعهدت الحكومة (الحالية) باستدامة هذا المستوى من الإنفاق على مدى ثلاث سنوات متعاقبة – أي إلى حين انتخابات أكتوبر 2025.
هذا المستوى المتهور من الإنفاق يتجاهل تحذيرات الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فهذه الأطراف، مجتمعة، دعت العراق إلى تقليص قطاعه العام المتضخم. ويحاول الإطار التنسيقي، من جهته، شراء رضا الأطراف السياسية العراقية وحواضنها الشعبية، بواسطة إنفاق غير مستدام (أي غير قابل للاستمرار). ويتضمن ذلك خلق 701 ألف وظيفة حكومية جديدة في الأقل– أي زيادة موظفي القطاع العام (الحكوميين) بمعدل 17 في المئة في عام واحدة.
في الإطار عينه، مثلاً، من المقرر أن تزيد قوات الحشد الشعبي من 122 ألف عضو، مدفوع الأجر، إلى 238 ألف عضو. ويفترض الأمر زيادة بمعدل 95 في المئة من الإنفاق على رجال ميليشيات تمولها الدولة، في بلد يسجل أدنى مستوى للعنف في عقدين من السنين.
ويقتضي هذا إنهاك الدولة بأعباء ومتوجبات مالية باهظة، ويمهد الإطار التنسيقي طريقها إلى زعزعة الاستقرار مستقبلاً. فحتى مع أسعار النفط الراهنة، وهي تقارب الـ75 دولاراً للبرميل، يلتهم معدل الإنفاق المقترح معظم احتياطات العراق البالغة 115 مليار دولار في نصف عقد (خمسة أعوام). وإذا هبطت أسعار النفط، تهاوت بغداد بوتيرة سريعة.
في 2014، عندما اشتدت على بغداد ضائقة مالية قاسية، سارع العالم إلى مساعدة العراق لأن البلد بمثابة محور أساسي للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية. ويستحيل اليوم على الحكومة العراقية التعويل على هبات مماثلة في المستقبل. ودق صندوق النقد الدولي في الـ 31 من مايو، ناقوس الخطر حين توقع أن يواجه العراق، في الأعوام المقبلة، “أخطاراً ناجمة عن استقراره الاقتصادي الكلي”. وهذا يعني، بعبارة واضحة، التقصير عن سداد حقوق المواطنين والمستثمرين، كما يعني الإصابة بداء التضخم واندلاع التظاهرات وعدم الاستقرار وتدفق اللاجئين نحو أوروبا.
العمل أكثر بكلفة أقل
وهذا الهدوء الظاهر في العراق، على ما ترى الولايات المتحدة، قد يتحول إلى هدوء ما قبل العاصفة. وهي ليست المرة الأولى التي تعتقد فيها الولايات المتحدة بأن العراق يسير نحو الاستقرار. فبعد انتخابات عام 2010 التي نتج منها التجديد للمالكي لولاية ثانية كارثية، حاولت الولايات المتحدة التنصل من هذا البلد. وحينها، مثل الآن، تمكنت الأحزاب التي تدعمها إيران من التلاعب بعملية تشكيل الحكومة لمصلحتها، وأضعفت بالتالي سلطة بغداد بواسطة الفساد ونفوذ الميليشيات والمحسوبيات السياسية. وبعد الانسحاب العسكري الأميركي، في ديسمبر 2011، بدا العراق هادئاً، إلا أن ركائزه السياسية والاجتماعية كانت تتحلل من الداخل.
وبمضي عامين ونصف على ذلك، عادت الولايات المتحدة إلى العراق لتخوض حرباً دموية، بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على ثلث البلاد. ولا يسع واشنطن أن تتحمل تكرار التاريخ نفسه. والتراجع الموقت في معدل الهجمات المتنقلة على مراكز البعثات الدبلومسية الأميركية الخاضعة لحراسة مشددة، لا ينبغي أن يعتبر معيار نجاح واشنطن الأول في العراق. فمراكز البعثات الدبلوماسية الأميركية، البالغة التحصين، بنيت بكلف باهظة لتتيح للدبلوماسيين الأميركيين الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة وقيمها، على رغم مضايقات العدو. ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى إرسال الجنود، أو إلى صرف مليارات الدولارات، في خدمة سياسة تسبح عكس الاتجاهات الخطرة التي ينزلق العراق إليها. فلا يزال في إمكان القدرات المالية والاستخبارية الأميركية التأثير، إلى حد بعيد، في أفعال المسؤولين العراقيين– فلكثير منهم طموحات سياسية أكبر ومصالح تجارية ومصرفية دولية. ففائق زيدان مثلاً، وفق مصادر دبلوماسية أميركية، شعر بقلق بالغ عندما بعث ثلاثة أعضاء في الكونغرس الأميركي رسالة إلى بايدن، في فبراير (شباط)، فيها اسمه (زيدان) كهدف محتمل للعقوبات. وعلى الولايات المتحدة استخدام تأثيرات كهذه– على نحو سري وخاص في البداية– لتفصح عن قلقها من الجسم القضائي العراقي والقائمين عليه.
وثمة خطر حقيقي أن يتحول العراق إلى ما يشبه ديكتاتورية قضائية، فتأتي حكومات وتذهب فيما يبقى القضاء هراوة دائمة بيد الميليشيات التي تدعمها إيران. ولدى المسؤولين الأميركيين قدرات ومعلومات استخبارية لا مثيل لها تتعلق بمراسلات المسؤولين العراقيين الفاسدين ومصالحهم المالية، وعليهم استعمال المعلومات هذه على نحو أفعل، وتصويب تحذيرات شديدة اللهجة، بخاصة للمسؤولين في بغداد، تحضهم على مراجعة تصرفاتهم.
*نشر في الاندبندنت العربية يوم الجمعة 16 يونيو 2023
Leave a Comment