ثقافة مجتمع

الطائفية من منظور إجتماعي – معرفي: معتوق يبحث حالة الموارنة في شمال لبنان

بول طبر

بيروت 30 آب 2024 ـ بيروت الحرية

مونوغرافيا “خبز الموارنة وخبز الحياة: نشأة عصبية وتهاويها” بقلم الدكتور فريدريك معتوق (دار منتدى المعارف، بيروت، 2023)، عمل يستحق التوقف عنده لأسباب عديدة. أولاً، لأنه يتناول ظاهرة محورية في الإنتظام الثقافي والإجتماعي والسياسي، وأيضاً لأن الطائفية ذات تداعيات على النشاط الأقتصادي في لبنان. بالطبع، المونوغرافيا المقصودة تتناول العصبية الطائفية عند الموارنة مستندة إلى دراسة مسار تشكّل عناصرها الأولية في منطقة محددة (زغرتا وبشري)، إلا أنها من حيث المنهج والفرضيات التي توجهها، تصلح كنموذج يمكن الإقتداء به لاستكمال هذه الدراسة، ليس فقط على باقي المناطق التي ينتشر فيها أبناء الطائفة المارونية فحسب، وإنما أيضاً لدراسة مسار وعناصر تشكل العصبيات عند الطوائف الأخرى التي تسكن في لبنان.

تتميز الدراسة أيضاً بأنها تفكْفك الطائفية إلى عناصرها الأولى، وتظهر كيفية تمفصل هذه العناصر لتشكل في نهاية المطاف عصبية متماسكة جاهزة للإستثمار في تكوين السلطة التي نشأت مع نشوء لبنان الكبير عام 1920. فمن تسجيل تاريخ الولادة وإجراء العمادة والتثبيت وصولاً إلى الزواج وتسجيل الهجرة في حال حدوثها، كما الوفاة، في دفاتر الكنيسة، ومن قيام الكنيسة بتعليم أبناء الرعية وتلقينهم، ليس فقط اللغة والنحو والصرف وعلم الحساب، وإنما أيضاً التعاليم والمُثل الدينية التي تشكل الأسس المشتركة لهوية الجماعة المتخيَّلة، يكون الباحث قد كشف العناصر الأولية التي منها تتكون العصبية الطائفية. ولا يغيب عن انتباه الباحث البعد السلطوي للهوية الطائفية، إذ إنها تقوم إلى جانب شبكة العلاقات الأفقية، على مجموعة علاقات عامودية بين مراتب هرمية تبدأ بموقع رأس الكنيسة، أي البطريرك، وتنتهي بجموع المؤمنين، مروراً بفئة المطارنة والأساقفة والخوارنة والرهبان والراهبات، إلخ.

هذا التعريف المادي-المعنوي للطائفية بما هي علاقات سلطة متلازمة مع علاقات رمزية ومتجسدة في ممارسة أبناء الطائفة، هو تعريف أكثر غنى ومحسوسية من التعريفات في الأدبيات السائدة، وهي في غالبيتها أدبيات سياسية لم تكترث يوماً بالبعد السوسيولوجي والتاريخي للظاهرة الطائفية، كما فعل البحث موضوع هذه الأسطر. والكتابات السياسية السائدة عن الطائفية تتوزع بين كتابات ذات طابع “يساري”، وكتابات ذات طابع “يميني”. والأهم بين الفئة الأولى من هذه الكتابات هي الكتابات، التي تعترف وتقر بالطابع المادي لتلك الظاهرة وتأثيرها على بنية السلطة والدولة في لبنان والإنتظام السياسي والممارسات السياسية للبنانيين (على سبيل  المثال، كتابات منظمة العمل الشيوعي، كتابات فواز طرابلسي ووضاح شرارة وأحمد بيضون ومهدي عامل). إضافة، لا يغفل هذا الصنف من الكتابات الإشارة (المتنوعة والمتباينة) إلى العلاقة بين الطائفية والمصالح والممارسات الإقتصادية. أما الصنف الآخر من الكتابات (“اليمينية”)، فهي بمعظمها كتابات سياسية وصفية تعتبر الطائفية صفة إثنية جوهرية لا تتغير مع مرور الزمن.

ويبقى الغائب الأكبر لدى هذه الكتابات هو عدم الإكتراث، لا بالبعد الإجتماعي للظاهرة الطائفية، ولا بأهمية هذا البعد في التكوين السياسي لهذه الظاهرة.

في الختام، أقترح أن نستخدم مفهوم بورديو لـ “الرأسمال” في توصيفنا وتحليلنا لـ “العصبية الطائفية”، بعد تشكلها وانتشارها في أوساط المنتمين إليها. ذلك أن هذا المفهوم يسمح لنا أن نقر بشروطها الإجتماعية المتحولة، وأن نظهر جذر التفاوت بين المنتمين إليها (ألأكثر قوة وسيطرة من ابناء الطائفة هو المالك للحجم الأكبر من الرأسمال الطائفي)، والأسس التي تفسر النزاعات ضمن أبناء الطائفة على تمثيل وقيادة “الطائفة” وتحديد مصالحها وتوجهاتها المفترضة. هذا اقتراح يعمق من فهمنا وتحليلنا للعصبية الطائفية التي أجاد الدكتور الباحث، فريدريك معتوق، في تناوله المميز لهذه الظاهرة في لبنان.

Leave a Comment