د. بول طبر
ما هي علاقة الطائفية السياسية بفساد الطبقة السياسية في لبنان ومؤسسات الدولة عموماً؟ وما الذي يترتب على وجود هذه العلاقة من مواقف سياسية لدى الراغبين في معالجة الانهيار الذي يعاني منه لبنان واللبنانيون، ومن توجهات تهدف الى الخروج من هذا المأزق غير المسبوق منذ تأسيس لبنان الكبير؟
جرت العادة في الكتابات اليسارية ان تتناول علاقة النظام السياسي الطائفي بالاستغلال الطبقي لاظهار كيف أن هذه العلاقة تدفع اللبنانيين للانتظام السياسي على قاعدة انتمائهم الطائفي، بدلاً من انتمائهم الطبقي العابر للانقسامات الطائفية. ولم يبخل هؤلاء الكتاب في تشريح هذه العلاقة، وتبيان خصائصها المتنوعة التي ترسخت ونمت في سياقات تاريخية على امتداد السنين منذ منتصف القرن التاسع عشر وصولاً الى الوقت الحالي. كذلك جرت العادة لا سيما في السنوات الاخيرة للكتابة عن (والكلام على) فساد السياسيين الممثلين لطوائفهم في السلطة اللبنانية، بصفته ناتجاً عن عطب أخلاقي معكوساً في مسلكهم وممارساتهم السياسية.
فبين الخطاب اليساري السائد والمتمحور حول إظهار التأثير السلبي (على أهميته بالطبع) للطائفية على الوعي والإنتظام السياسي العابر للإنقسامات الطائفية، وبين الكتابات التي تعتبر أن فساد الساسيين هو مجرد انحراف شخصي، يتم معالجته بمجرد إبعاد السياسيين الفاسدين عن السلطة ومؤسسات الدولة، واستبدالهم بسياسيين “نظيفي الكف”، نكون بذلك قد فوتنا فرصة التفكير في العلاقة الخاصة بين الطائفية السياسية (وآلية اشتغالها) وارتكاب الفساد بمختلف مستوياته ومظاهره.
بكلام ذي درجة عالية من التجريد، النظام السياسي الطائفي في لبنان يشرِّع اقتسام السلطة، وكل ما له علاقة بإدارة الدولة إلى حصص حصرية، تعود إلى ممثلي الطوائف السياسيين. هذا المبدأ العام الذي ترتكز عليه السلطة السياسية والذي يتحكم بالقاعدة التي يتم بموجبها آداء وظائف الدولة، يلغي في الأساس مفهوم المصلحة العامة، والتوجه الملازم لخدمة المواطن/ة اللبناني/ة بالمعْنيين السياسي والخدماتي للكلمة. وتماشياً مع المسلّمة التي تقول بأنه لا وجود لسلطة سياسية (أو أي سلطة) من دون إيديولوجيا أو خطاب رمزي يبرر وجودها ويسوغ إعادة انتاجها، يُطرح علينا السؤال التالي: ما هي الركائز الإيديولوجية أو العنف الرمزي (بحسب بورديو العنف الرمزي يتمثل بالأفكار التي يتزوَّدها الفرد — بمعنى أنه يجعلها جزءاً من ذاته – وتسوِّغ خضوعه لمن يمارس السلطة عليه/ها) الذي يجعل من سلطة زعماء الطوائف وممثليهم سلطة مقبولة بلا تردد أو أي تساؤل؟ بكلام آخر، كيف يشرْعن السياسيون سلطتهم ويعيدون إنتاجها بمشاركة “ضحايا” هذه السلطة بالذات؟
يتم ذلك أولاً بتغييب المصلحة العامة، رغم التحدث باسمها في أغلب الأحيان، والتركيز بالممارسة على مصلحة “الطائفة” وأبنائها (عند التدقيق بتعبير “المصلحة العامة” المستخدم لدى زعماء الطوائف، يتبين للمدقق أنه يتحدد بما يسوِّغ وينسجم مع مصلحة الزعيم الطائفي). فالهدف دائماً هو تأمين حصة الطائفة “المطلوبة” من السلطة ومن التمثيل السياسي. والمطلوب أيضاَ توزيع موارد الدولة وخدماتها على أبناء الطائفة، بالتناسب مع درجة ولائهم للزعيم الوصي على هذه الموارد وتلك الخدمات.
ولا يتردد زعماء الطوائف في استخدام نفوذهم عبر الدولة لتوسيع دائرة تأثيرهم لتشمل قطاعات واسعة من المؤسسات الخاصة، كالمدارس والجامعات والمؤسسات التجارية والمالية والإعلامية وغيرها، وذلك لتجيير هذه المؤسسات لتقوية نفوذهم على أتباعهم وتعزيز الولاء المطلق لهم. وتدفع هذه الآلية لإنتاج السيطرة الطائفية وشرْعَنتها إلى تأمين الزعيم الطائفي المعني لكافة أنواع الحماية، حتى (وربما خصوصاً) لأتباعه الذين يمارسون أعمالاً “غير شرعية” (مثلاً، الرشوة، التهريب، إنتاج وتصدير المخدرات، التهرب الضريبي، إلخ).
بناءً على ما ذُكر أعلاه، يتبين لنا أن النظام الطائفي في لبنان وآلية اشتغاله تشتمل على ممارسات “فاسدة”، إذْ تقوم أساساً على نفي “المصلحة العامة” بالمعنى الفعلي للكلمة، وعلى إعطاء الأولية لتأمين ولاء أبن الطائفة لزعيمه، كشرط أساسي لحصوله على مبتغاه، أكان تأمين عمل ما، أو تنفيذ مشروع استثمار، أو حصول على بعض من خدمات وموارد الدولة. وتكون هذه الممارسات الممر الإجباري لإعادة انتاج السلطة الطائفية ولشرْعنتها بنظر أبناء الطوائف المعنية: خدمات وتنفيعات لشبكة من الزبائن، تتسع وتضيق حسب حصة الزعيم ونفوذه أو حصة ونفوذ الجهة الحزبية التي ينتمي إليها. ويتم كل ذلك تحت عنوان “حقوق الطائفة” التي تبقى حقوقاً متنازع عليها بصورة دائمة بغرض تحقيق الحصة الأكبر للطائفة التي تتمكن من ذلك (للحصول على حصة أفضل أو الحصة الأكبر شروط إجتماعية واقتصادية وديموغرافية وعسكرية، ليس المجال متاحاً لنقاشها في هذا السياق).
على ضوء هذه الحقائق، يتبين لنا أن “الفساد”، بالمعنى الشامل الذي أشرنا إليه، والنظام الطائفي وتجدده، متلازمان بحيث أن الواحد منهما يقتضي ويستدعي الطرف الآخر في هذه المعادلة.
وعند الإنتقال إلى علاقة ممثلي النظام السياسي الطائفي في لبنان بالدول الخارجية، فإننا نجد جملة من الممارسات، التي تعود لتؤكد أولية تأمين شروط الإحتفاظ بمواقع هؤلاء السياسيين وطموحهم الدائم لتعزيز هذه المواقع وتوسيع دائرة نفوذهم. وعليه لا تتردد القوى السياسية الطائفية في نسج العلاقات مع الدول القريبة والبعيدة، وذلك للاستقواء بهذه الدولة أو تلك في نزاعاتهم الداخلية، والتي تتمحور على الدوام حول النفوذ والحصص التي يطمح كل طرف سياسي طائفي في الحصول عليهما. وقد تصل هذه الممارسات إلى درجة التضحية بسيادة الدولة وحماية الوطن من الإحتلال والإعتداءات الخارجية (مثلاً الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 واحتلاله للجنوب اللبناني حتى عام 2000).
بناءً على هذا التحليل، نعود إلى المنظور الماركسي اليساري لنسجل أنه يبقى قاصراً في فهم الطائفية السياسية وتداعياتها، إذا بقي محصوراً في تحليله لها، بالعودة فقط إلى تأثيرها على تبلور الإنتظام والوعي الطبقي دون التطرق إلى ما تنتجه من علاقات وانقسامات ومصالح وممارسات (على رأسها الفساد)، تعود إليها كنظام سياسي محدد. كذلك فأن اعتبار الممارسات الطائفية وما تنتجه من فساد تعود إلى الخصائص الفردية لمن يقوم بهذه الممارسات، دون أي رابط بينها، وبين الطائفية كنظام سياسي مادي وموضوعي، إن هذا التفسير المسلكي والذاتي للطائفية يعجز بدوره عن فهم أبعادها الذاتية والمادية/الموضوعية المركبة والمتفاعلة على الدوام.
بكلام موجز، يترتب على التحليل المقدم أعلاه القول بأن كل من يطمح لإصلاح وتغيير النظام الطائفي في لبنان، وانهاء “الفساد” المستشري في جميع مفاصل الدولة وممارسات السياسيين، لا بد له/ها من خوض الصراع تحت شعار ضرورة تجاوز النظام السياسي الطائفي لصالح بناء دولة المواطنين والمواطنات، والوقوف بصورة حاسمة ضد ممثلي الطوائف سياسياً أكانوا احزاباً أم كتلاً برلمانية أم زعامات.
Leave a Comment