*صقر أبو فخر
تجتهد كلُّ حركة تحرّر وطني في رسم استراتيجيات ثورية، وفي خوض تكتيكاتٍ قتالية ملائمة لها. وتقوم دعائم تلك الاستراتيجيات على مقاومة الاحتلال بجميع الوسائل العسكرية والمدنية المتاحة، وفي مَقْدَمها الكفاح المسلّح والعصيان المدني. وعلى أنّ النضال ضدّ الاحتلال يجب أن يُوقِع الأذى والخسائر بالمحتلّ وقوّاته بصورة دائمة. والهدف النهائي للكفاح المسلّح إرغام العدو على إنهاء احتلاله والجلاء عن الأرض المحتلّة. ويتضمّن الوصول إلى الهدف النهائي دفعَ أثمان متفاوتة الشدّة على المناضلين وعلى الشعب معاً. وفي جميع مراحل النضال، يجب الحفاظ على الشعب وتماسكه ووحدته وروابطه البشرية وعدم تعريضه للافناء بقوّة الاحتلال القاهرة.
الآن، إذا كانت معادلة الشعب في مواجهة الاحتلال عاجزةً عن إيقاع الخسائر المادية والبشرية بجيش الاحتلال فلا قيمة استراتيجية لها. وإذا لم يُؤدِ استعمال قوّة المقاومة إلى جلاء الاحتلال، فلا قيمة للوسائل القتالية المُستخدمة إذاً، ويجب إعادة التفكير بالجدوى العسكرية في هذه الحال. وإذا أدّت عمليات المقاومة إلى إفناء الشعب وتحطيمه وفرط وحدته فسيكون هذا الأمر كارثةً مُؤكَّدة.
هذه هي الدروس التاريخية لجميع حركات التحرر الوطني، كالثورات الجزائرية والفيتنامية والأفريقية والأميركية – اللاتينية والآسيوية. أمّا صورة الميدان في غزّة فهي ترتسم الآن في النحو التالي: لقد تمكّنت إسرائيل بقواها العسكرية الهمجية من إعادة احتلال قطاع غزّة، وتدمير كلّ شيء تقريباً، وقتل خمسين ألفاً من السكّان والمقاتلين، ما يعني أنّنا خسرنا خمسين ألف شهيد (بمن في ذلك المفقودون)، ومائة ألف جريح تقريباً، بينهم عشرات الآلاف من المُعوّقين، واحتلال القطاع بكامله، وتدمير جميع معالم العيش فيه. أي أنّ ما خسرناه كلّه في هذه الحرب كسبه العدو الإسرائيلي بصورة أو بأخرى. لكن ليس كلّ ما خسره العدو أُضيف إلى رصيدنا فوراً.
في معمعان القتال والتفاوض، لا بدّ من الإقرار بأنّ تقديم بعض التنازلات من هنا وهناك أمر بدهي ومنطقي وضروري. فكلّ تفاوضٍ ينتهي إلى اتفاق (أَكان وقفاً للنار أم هدنةً مؤقّتةً) هو، في جوهره، تنازلٌ من الطرفَين وحلٌّ وسطٌ (Compromise)، وإلّا لن ينجم عن أيّ مفاوضات أيُّ صفقة. وفي هذه الحال، يستمرّ القتال، الذي هو بدوره تفاوض بالنار، لتغيير ميزان القوى في الميدان، ثمّ العودة إلى التفاوض… وهكذا حتّى تصبح أيُّ صفقةٍ ممكنةً. إذاً، لا بدّ من التنازل في هذه النقطة أو تلك، من الطرفَين معاً. وفي ما عدا ذلك، سيكون أيّ اتفاق إملاءً وليس اتّفاقاً. والإملاء يفرضه المنتصر على المهزوم عادةً، وهذه الصورة ليست هي صورة الحال في قطاع غزّة. فإذا كان هدف الفلسطينيين في هذه اللحظة وقف النار (أكان دائماً أم مُؤقّتاً) فإنّ التنازلات التي لا بدّ منها ستكون شديدة الإيلام. لكنّ قبولها، في نهاية المطاف، أمر ضروري وحيوي، لأنّها تتيح للفلسطينيين الانصراف إلى معالجة المصائب والأهوال التي خلّفتها الهمجية الإسرائيلية. وفي هذا الميدان، حبّذا لو أنّ اتفاق وقف النار جرى توقيعه في الشهر الماضي (يوليو/ تمّوز)، لكُنَّا وفّرنا ما لا يقل عن ثلاثة آلاف شهيد، وآلاماً من المحال تقدير آثارها وعقابيلها اليوم. وقد مارست حركة حماس الواقعية السياسية في خضمّ هذه الحرب، فتنازلت عن الوقف الدائم للنار في المرحلة الأولى، ووافقت على عدم انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزّة في المرحلة الأولى، وعلى أن تتولّى جهةٌ فلسطينيةٌ مقبولةٌ الجانب الفلسطيني من معبر رفح، وتردد أنها وافقت على إخراج عدد من الأسرى الذين سيُطلق سراحهم إلى خارج الأراضي الفلسطينية، أي إلى المنفى، وهذا حسن، كي لا تغتالهم إسرائيل في ما بعد.
التنازل هنا، في هذا الحقل السياسي، يجب أن يكون مصحوباً بالضمانات العربية والدولية، ومن دون ذلك ربّما يتحوّل خديعةً، لأنّ بنيامين نتنياهو يريد الأسرى ويريد العودة إلى الحرب ما أن تُتاح له الفرصة. وعلى سبيل المثال، قبول الانسحاب المتدرّج من محور صلاح الدين (فيلادلفيا) بضمانات أميركية أمر ممكن. فما الضير في ذلك قياساً على ما يمكن توفيره من دماء؟ لقد صار احتلال قطاع غزّة شأناً واقعاً، والردّ على الاحتلال هو المقاومة بالضرورة. وإلى حين اندحار الاحتلال هل يبقى أهل قطاع غزّة مصلوبين على خشبة الانتظار؟… لا بالطبع، فلا بدّ من ترتيبات فورية لإغاثة الناس وهم تحت الاحتلال. لنتذكّر كيف كانت الانتخابات البلدية في الضفّة الغربية تجري تحت الاحتلال، وكذلك الانتخابات الطالبية في الجامعات. واستطراداً لا مناص من منظّمة التحرير الفلسطينية (ومؤسّسات السلطة الفلسطينية معها) لتولي معبر رفح، وهو ما ترفضه إسرائيل بقوّة، وللإشراف على إعادة إعمار غزّة (وهو أمر مشكوك فيه)، وتقديم العون الفوري للمنكوبين.
بين أيدي حركة حماس وحلفائها ورقتان: المقاومة المسلّحة والأسرى الإسرائيليون. ومن البدهي أنّ مفاعيل الأخيرة مؤقّتة؛ فما إن يجري التوصّل إلى وقف النار وتبادل الأسرى حتّى ينتهي مفعولها. أمّا ورقة المقاومة المسلّحة فهي ذات أثر استراتيجي وحاسم، لكن في المدى الطويل، ولا يمكن الرهان عليها في تعديل ميزان القوى الحالي سريعاً. فالمقاومة في لبنان، على سبيل المثال، احتاجت 18 عاماً حتّى استطاعت أن تقطف ثمرة تضحياتها. والمقاومة الفيتنامية استمرت نحو 20 عاماً حتّى تحرّرت فيتنام. والثورة الجزائرية دامت ثماني سنوات. وبهذا المعنى، لا يمكن الاستناد إلى ورقتي الأسرى والمقاومة في تقرير المصائر المباشرة لسكان غزّة ولقضية فلسطين في الآن نفسه.
لا أحد من العقلاء يتطلّع إلى إرغام الجيش الإسرائيلي على الخروج من قطاع غزّة الآن وفوراً مثلما خرج من جنوب لبنان في سنة 2000. وجميع العقلاء، خلافاً للتهليليين والمحلّلين الزجّالين، يتطلّعون إلى وقف القتال والشروع في معالجة المصائب والنوائب التي أنزلها جيش الاحتلال بسكّان غزّة. وهذه هي الأولوية التي لا تعلو عليها أيُّ أولوية.
اللافت في معمعان هذه الحرب، مُتعدّدة الأطوار والأدوار، أنّ إسرائيل صارت تتعامل مع مخيمات الضفّة الغربية بالمسيّرات الانقضاضية، وهو تطوّر خطير وخَطِر جدّاً. أي أنّ إسرائيل انتقلت من الاقتحامات المباشرة للمخيّمات ولأحياء المدن إلى قتل الكوادر العسكرية للفصائل بالمسيّرات، كما حدث في يوم 17 غسطس/ آب 2024 (بلغ عدد الشهداء في الضفّة نحو 640 شهيداً حتّى 25/8/2024). وربّما تعمد إسرائيل، في أحوال ملائمة، إلى تدمير أجزاءٍ من المخيّمات وتجريفها كما فعلت في مخيّمات جنين ونور شمس وبلاطة. والواضح أنّ هجمات المستوطنين على القرى الفلسطينية التي تتزامن مع استخدام المسيّرات لتجنّب الاقتحامات، واستعمال الطائرات لقصف أهداف مُحدَّدة، هو تطوّر مُقلِق جدّاً يُنبئ بأنّ إسرائيل قد تقدم على تجريف بعض المخيّمات، وقصف أهداف حيوية فيها، الأمر الذي ربّما يُؤدّي إلى نوع من الترانسفير المتدرّج نحو الأردن.
تريد إسرائيل، في ظلّ هذه الأوضاع القاهرة، القضاء على المقاومة في الضفّة الغربية خطوةً استباقيةً، وتتطلّع إلى انهيار السلطة الفلسطينية، وإلى منع منظّمة التحرير الفلسطينية من القيام بواجبها الوطني في غزّة، واعتبار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) منظّمة إرهابية. وهذه الأهداف الإسرائيلية يمكن أن يتحقّق بعضها مادامت الحرب جاريةً في قطاع غزّة. وجزءٌ من هذه الأهداف يمكن الحؤول دون تحقّقها وإجهاضها في ما لو توقّفت الحرب. والحكمة تقتضي، الآن وفي كلّ آن، عدم تعريض الضفّة الغربية للدمار، وعدم إتاحة الفرصة لإحداث ترانسفير جزئي ومتدرّج نحو الأردن. وتفرض الحكمة المُجرّدة والعقلانية السياسية على الجميع ضرورة الحفاظ على الأمن الوطني للأردن متيناً ومنيعاً وبعيداً من الأطروحات الخالية من المسؤولية التي تُحرض على الأمن الأردني، أي أمن الدولة وأمن المجتمع، بذرائع واهية. وهذا عبثٌ بالأمن القومي العربي، وفي الحدّ الأدنى عبثٌ بالأمن الوطني للأردن وفلسطين، وهو ما يمثّل مصلحةً إسرائيليةً خالصةً. فحذارِ الآتي مع الهمجية الإسرائيلية والعنصرية الصهيونية.
*نشر في العربي الجديد يوم 29 آب / اغسطس 2024
Leave a Comment