زاهي البقاعي
دخل الصراع في السودان أسبوعه الرابع دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل بالوصول إلى اتفاق جدي لوقف اطلاق نار حقيقي بين كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وعلى الرغم من النداءات والبيانات والمواقف، العربية بما فيها اجتماعات جدة في المملكة العربية السعودية، والافريقية والدولية، لم تنجح أي منها في ثني المتحاربين عن محاولة كل منهما اكمال محاولة سيطرته على العاصمة حيث يدور القتال دونما توقف. وعليه، يتواصل النزيف من القتلى المدنيين والعسكريين وسط موجات نزوح عن العاصمة إلى المحافظات، وحتى إلى خارج البلاد. أما الجاليات الأجنبية والعربية فقد عادت أدراجها إلى بلادها.
يحدث هذا وسط انهيار في الخدمات العامة كالماء والكهرباء والمطار والمواصلات العامة ودوائر الدولة والمدارس والجامعات، وتوقف عشرات المستشفيات عن العمل، وتشتت الاطقم الطبية ونقص الأدوية والمعدات، وعحز الكادرات والعاملين عن إدارة وتشغيل المؤسسات الخدماتية العاملة. والملفت أن أقصى طموح المحاولات لا يعدو أن يكون هدنة انسانية تتيح لمنظمات الإغاثة الدولية والطبية إيصال كميات محدودة من المواد الغذائية والأدوية لمعالجة المصابين الذين وصل عددهم إلى عدة الآف.
ومع أن أي من الطرفين لا يبدو قريباً من حسم الموقف لصالحه، إلا أن ذلك لم يثنهما عن متابعة القتال، ما يشير إلى الاحتمال الآخر الارجح، وهو الدخول في حرب مفتوحة من شأنها أن تمزق وحدة السودان، وتنتشر منه إلى الدول المحيطة وهي: أثيوبيا وارتريا وجنوب السودان وافريقيا الوسطى وتشاد وليبيا ومصر. ولكل منها مشكلاتها على صعيد تركيباتها الاجتماعية والقبلية والإثنية، ومعضلاتها الاقتصادية التي يسهل الاستثمار فيها من جانب لاعبين دوليين واقليميين. ما يعني أن انفجار السودان الذي يسير حثيثاً نحو مصيره، من شأنه أن يفتح الباب على صراعات قد يكون لها بدايات، ولكن أحداً لايمكنه أن يتنبأ بنهايتها الزمنية والجغرافية، ما دامت البنية السودانية لا تختلف عن بنية الكثير من المجتمعات القريبة والبعيدة في القارة. وما يضاعف من المشكلات المستعصية التي تعانيها القارة نتيجة نهب خيراتها وثرواتها ومضاعفة ارتفاع منسوب التخلف الذي تعانيه، والذي يصل كما هو معلوم إلى تعريض حياة الملايين من سكانها إلى خطر الموت جوعاً ومرضاً. على أن دائرة شظايا الانفجار قد تدفع بالعديد من الاطراف الخارجية والدولية إلى التدخل، إن لم يكن مباشرة فعبر طرفي الصراع، ما يجعل من المشكلة أكثر تعقيداً من مجرد صراع بين قائدي الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي .
إذن مع كل يوم يمر تبدو التسوية أبعد منالاً عن ذي قبل. وعلى الرغم من تعدد المبادرات الداخلية والعربية والدولية وتنوع الوسطاء بما فيه وساطة الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والولايات المتحدة والسعودية، إلا أن المرجح أنه كلما أوغل الطرفان في مشاريعهما أن تنزلق البلاد في مجرى الدم من خلال حروب مركبة بين قوى نظامية وغير نظامية وقبلية وإثنية ما يجعلها نموذجاً للحروب الاهلية الافريقية التي لا تبقي ولا تذر. والارجح أن ما يمكن أن يترتب على تلك الحرب الاهلية هو تمزق السودان، كما أثبتت التجارب السابقة التي نتج عنها انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم. والواضح من تمدد المعارك من العاصمة إلى سواها، أن القتال سينتقل من شكله النظامي وشبه النظامي ليتحول إلى خليط من الصراع القبلي والإثني كما حدث في دارفور الغربية، وكما يمكن أن يحدث في سواها من محافظات البلاد .
والواقع أن الفريقين المتصارعين في رفضهما الدعوات إلى وقف اطلاق النار، وتقويض كل اتفاق يتم التوصل إليه ينطلقان من اقتناعهما أن تلك الوساطات التي لا تقيم وزناً لموضوعة من هو صاحب السلطة لا مستقبل لها، ولا قدرات تنفيذية على فرضها بما فيه ما حاولته الولايات المتحدة الاميركية. فالمتقاتلان يكتفيان باطلاق العنان لآلتهما الحربية في دك المواقع المعادية ومعها المدن والمؤسسات والشوارع، ويرفضان حتى اللحظة قبول فكرة التفاوض، وأقصى ما يجودان به محصور بالموافقة على فتح بعض الطرقات لوصول المساعدات الانسانية، واتهام الطرف الآخر بنقض الاتفاق من خلال أعمال استفزازية وما شابه. ومثل هذا الامر ليس سراً يكتمه الفريقان بل هو شبه معلن، وإن كانا يعلنان استعدادهما لقبول الوساطات كلامياً من باب تبرئة الذات وتحميل الخصم وزر استمرار المعارك والتدمير.
وبعيداً عن الحسابات العسكرية الصرفة حول تعداد كل من القوتين وتسلّح كل منهما، فإن الخاسر الأكبر هو الشعب السوداني الذي بات أقصى طموحه أن يتمكن من الحصول على ما يستحقه من سلم وعودة البلاد إلى المسار السياسي الذي جرى تعطيله بقوة السلاح المتفلت، بفعل الصراع على السلطة بين الفريقين البرهان وحميدتي. بالطبع حاولت المنظمات والقوى السياسية والشعبية والنقابية السودانية أن تضغط عليهما من أجل وقف القتال، لكن تلك الدعوات لم تلق أي آذان صاغية من كليهما، بدليل أن كل هدنة كان يتم الحديث عنها كانت تتعرض للخرق بمجرد الاعلان عنها.
والمؤكد أن المعركة تدور بشكل رئيسي حول السيطرة على العاصمة، فالجيش يعمل جاهداً على إخراج قوات الدعم السريع منها، والأخيرة تتمترس في المؤسسات الحيوية كالمستشفيات وغيرها من القطاعات الحيوية وتجعلها مواقع قتالية. علماً أن أيا من القوتين لا يمكنه الحسم بالسهولة التي كان يتصورها بالعلاقة مع شبه توازن قواهما المتحاربة، رغم الفارق التسليحي بين القوتين . ومن شأن معركة لا أفق انتصار لأي من فرقائها بتحقيق النصر أن تقود إلى تدمير العاصمة، ومعها كل المؤسسات الحكومية والخاصة التي تتمتع بها، ما يفقدها دورها المحوري، ويمهد للتفكك الكياني ويبرز الخصوصيات المناطقية على أنواعها. ومع أنه للمرة الاولى تشهد الخرطوم مثل هذه المواجهة رغم التاريخ الطويل للحروب الاهلية في البلاد، إلا أن ذلك لا يمنع أن يكون تمزق العاصمة هو المدخل نحو تمزيق وحدة البلاد الكيانية مجدداً. كما حدث في العام 2011 عندما انتهت المواجهات بانفصال جنوب السودان عن شماله وقيام دولته المستقلة. ومن شأن مسار على هذا النحو أن يزعزع الوحدات الكيانية للدول السبع المجاورة حيث المجتعات الداخلية هشة، ويمكن لأي قوة متواضعة أن تغرقها في صراعات لا أول لها ولا آخر.
وعلى الرغم من حالة التوازن التي أشرنا إليها إلا أن انتصار احد الفريقين، لا يعني سوى تعميق الخلل الذي تعيشه البلاد، والذي لم ينجح الحكم العسكري ومن خلفه الجماعات الاسلامية التي اعتبرته من صناعتها، سوى في تعميق الهوة التي كانت تفصل بين العاصمة حيث الإدارة المركزية والمؤسسات، وبين الاطراف التي تحصد ثمن غياب التنمية، وتحويل البلاد إلى مسارح للفوضى والنهب الذي تمارسه شركات دولية من كل نوع ولون. إن وضعاً على هذا النحو الذي تنذر به عمليات القتال العبثي يتجاوز مؤسستي الجيش والدعم السريع ليصل إلى كل مكونات المجتمع السوداني، وهو ما يفتح الباب على صراع قوامه هيمنة العسكرة و”الميلشة” على البلاد والفوضى الاهلية الكاملة. ولعل عمليات السرقة والنهب وانتشار العصابات التي تستهدف الأحياء والمنازل والمحال والاسواق وسط نقص في المواد الغذائية وارتفاع أسعارها وسائر مستلزمات العيش، من شأنها أن تجعل البلاد بمثابة ميدان عراك محتدم لا ضابط له ولا حسيب أو رقيب.
الواضح أن الحلول القصيرة الأمد والقريبة سقطت تباعاً أمام زخات الرصاص وصليات المدافع وأزير الطائرات. وفي مثل هذا المناخ لا يتحدث أحد عن حلول مستدامة تضمن للسودان والسودانيين أمنهم وحياتهم اليومية بعيداً عن منجل الموت المنفلت من عقاله. وما دام تحقيق سلام مؤقت هو خارج متناول اليد، فالسلام الدائم هو أبعد احتمالاً، ما يعني أن أنظار العالم قد تتحول عن الاهتمام بمجريات ما يحدث نحو سواها من قضايا سياسية واقتصادية شائكة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالقول إن السودانيين قادرون دون تدخل خارجي على حل مشكلتهم هو بمثابة كلام لا قيمة له وسط هيمنة العسكر على الميدان، وسعي كل من الفريقين الحسم لصالحه في بلد تعداده 46 مليون نسمة ومفعم بتناقضات داخلية ومحيطة لا تعد ولا تحصى.
على أي حال فالخاسر الأكبر وسط احتدام المعارك هو مشروع التغيير الذي اطلقته انتفاضة السودانيين وأطاحت خلاله بحكم عمر البشير وفريقه، وطالبت بعودة العسكر إلى إلى الثكنات، وتسليم السلطة للمدنيين. الآن يتبين أن المراوغة التي مارسها العسكريون تتوج الآن بالعنف الذي يمارسه ورثه البشير نفسه، الذين اجتهدوا طوال السنوات الاربعة الماضية للقضاء على العملية السياسية وتعطيل انتقال السلطة. وهي عملية كان من المفترض أن تفضي إلى قيام حكم يعتمد المؤسسات الديمقراطية، ويضع السلطة في نهاية المطاف في أيدي صاحبها بما هو الشعب السوداني من خلال تنظيم انتخابات حرة، بديلاً عن حكم ورثة البشير وقاعدته السياسية الإسلامية، والذي تهاوى في العام 2019 بعد ثلاثة عقود في ممارسة السلطة القمعية. إن وضع البلاد بين فكي كماشة البرهان وحميدتي من شأنه أن يتيح عودة فلول البشير لتلعب دورها والعمل على السيطرة على الحكم ثانية تحت مسميات جديدة، قد يكون بينها أحد المتصارعين أو كليهما تبعاً لآلية الصراع السياسي وتطوره الميداني في العاصمة والاقاليم.
Leave a Comment