محمد حجيري
29 آب 2023 ـ موقع المدن الالكتروني
نقرأ في عناوين إحدى الصحف “فوز لائحة “القوات” في انتخابات لجنة جبران الوطنية في بشري”، وبالتالي ستكون اللجنة القواتية وصية على متحف إرث الأديب والرسام اللبناني الأميركي العالمي…. والسؤال: هل من المنطقي أن يكون إرث كاتب عالمي وله حجمه في الجمهورية اللبنانية وفي المنهج المدرسي، بغض النظر عن رأينا في أدبه، سواء سلباً أو إيجاباً، في يد مجموعة حزبية وعائلية ومحلية، أزعجها أن يكون هناك من يفكر بتشكيل لائحة منافسة، واعتبرت في بيان “أن”المعركة منتهية قبل أن تبدأ؟”.
في المحصلة، “القوات”، وحتى اللائحة المعارضة، لا يتعاطون مع أديب اللامكان واللاحدود والعالمي إلا من منطلق عائلي نسبي، و”يكاد لا يُذكر اسمه(جبران) إلاّ مصحوباً ببلدته بشري ووادي قنّوبين”، حسبتعبير حازم صاغية. وعدا عن الإطار الضيق للجنة جبران التي تنسب لنفسها “الوطنية”، لا أحسب أنّ حزب “القوات اللبنانية” الذي سسيطر على لجنته، يشبهه في شيء، ولا تلتقي أفكار الحزب بأفكار الكاتب ولا بتمردّه ولا توجهاته. ربّما حزب “القوات” يريد الاستحواذ على أديب جعلته الجمهورية الأولى أحد رموزها المؤسسين، وبالتالي الاهتمام بشخصية جبران ينطلق أولاً من حيثية عصبية أكثر منها مسوغات فكرية. من جهة مقابلة، المؤسف أنه لو تحولت لجنة جبران إلى تمثيل وطني فعلي تعدّدي، لكانت دخلتْ في دائرة الترهل السائد والسبات العميق، كمثل كل شيء في الجمهورية اللبنانية الصعبة.
ولا شك أنّ جبران، الذي يحتفل الآن بمئوية كتابه “النبي” هذا العام، كان موضع جدل دائم، سواء في علاقته بوطنه، أو مارونيته، أو لبنانيته، أو منفاه، أو أميركيته، أو لغته، أو سوريته، أو نيتشويته، أو كنيسته، أو غرامياته، وحتى أصله وفصله… والجماعات الايديولوجية أو التيارات الأدبية، وبسبب سطوع نجمه وانتشاره وترجماته، غالباً ما سعت إلى إيجاد “مفاتيح” ومبررات لضمّه إلى صفوفها، أو وصمه بسياستها، وأحياناً نبذه.
بمعنى آخر، دائماً كان جبران موضع تناتش وصراع… في زمانه كان الرفيق الراحل محمد دكروب، من خلال قراءة بعض النصوص الجبرانية، يسعى إلى القول إنه كان يسارياً واشتراكياً تقدمياً وبولشفيكياً، ومسعى الناقد الشيوعي كان يطاول أسماء أخرى لها اثرها ووقعها في الثقافة العربية… بعض دعاة اللبنانوية سعواً لاعتبار جبران من مؤسسي “القومية اللبنانية” من خلال أسطوانة “لكم لبناكم ولي لبناني”، بينما عمد بعض دعاة القومية السورية إلى اعتباره سورياً وليس لبنانياً وهو الذي هاجر إلى أميركا قبل تأسيس “لبنان الكبير”… ولمجرّد أنّ باحثاً رأى لوحة لجبران، جسد رجل وأربعة أرجل، وضع جبران في خانة المثلية… كاتب سيناريو تلفزيوني قال إن علاقة جبران بجسده ملتبسة، تشبه علاقة مي زيادة بجسدها، وهما عاشا قصة حبّ جامح بقي في إطار الرسائل…
البهائيون يعتبرون جبران بهائياً لأنه التقى زعيم الطائفة البهائية عباس أفندي، الشهير باسم عبد البهاء (1844 – 1921). وورد في المراجع البهائية، أن جبران وصف عبد البهاء بـ”الإنسان الكامل” و”مهبط روح القدس”، وتشخيصهم لكتاب النبي يُخرجه من كونه مجرّد محاكاة لـ”هكذا تكلم زرداشت” لنيتشه. فهذا “النبي” القادم هو، استناداً لهذا التشخيص، عباس أفندي، عبد البهاء، القادم إلى مدينة أورفليس ليجيب عن أسئلة “المطرا”، هذه الشخصية الخرافية الهندو-إيرانية، وأورفليس هي مدينة العهد كما صنّفها عبد البهاء.
التناتش على جبران لم يبدأ من هنا، فالإعلام اليسوعي المشرقي، وتحديداً الأب لويس شيخو، اتهمه بـ”الجنون” واعتبر أدبه “دعاية ماسونية”. والأبرز في حياة جبران تمثّل في أنّه رفض تتميم واجباته الدينية المسيحية الرسمية وهو على فراش الموت في مستشفى القديس فنسنت بنيويورك. خالف المونسنيور أسطفان الدويهي، أمر الكنيسة، وأقام له مأتماً في كنيسة الأرز في بوسطن، مُعتبراً أنّ قرار الكنيسة بحرمان جبران قرار خاطىء، فطلب من أسرته ومعارفه أن ينقلوا جثمانه من نيويورك إلى بوسطن حيث صلّى عليه وأشاد بمزاياه، ثمّ تقدّم المونسنيور وفداً كبيراً إلى مرفأ بوسطن لوداع جثمان جبران إلى لبنان. وفي عظته التي ألقاها في الكنيسة، قال المونسنيور الدويهي: “إذا كنّا نؤمن بالمحبّة الواردة في إنجيل يوحنّا، وإذا كنّا نؤمن بالتوبة والغفران وموت وقيامة المسيح، نتساءل: مَن منّا يضمن أنّ هذا الرجل الكبير(أي جبران) لم يطلب المغفرة قبل موته؟ والذي يرفض الصلاة (أي الكاهن) عليه يقع هو في الخطيئة”.
ونقل الجثمان إلى عاصمة ماساتشوستش، حيث دفن في جبانة “مونت بندكت” إلى جوار أمّه وشقيقته سلطانة وأخيه غير الشقيق بطرس، ليعود الجثمان وينقل بعد ذلك بأشهر قليلة، بحراً، إلى لبنان، حيث بقي نهاراً وليلة في كاتدرائية مار جرجس المارونية في بيروت، قبل دفنه في مسقط رأسه بشرّي.
واختلف الباحثون حول فكر جبران الديني. منهم من اعتبره مسيحيًا بلا منازع، ومنهم من وضعه في خطّ الديانات الشرقية… وبعدما نبذت الكنيسة جبران لفترة ،سرعان ما تبنّته، والنافل أنّ علاقته برجال الدين لم تكن يوماً محلَّ ثقة أو هدفاً للمدح، فهم في نظره كما وصفهم في “عرائس المروج”: “الخاضعون لأصنام مطامِعهم، المحرّكون بالصلاة شفاهَهم وقلوبُهم جامدة كالصخور، والراكعون أمام المذابح ونفوسُهم متمرّدة على الله”.
Leave a Comment