سياسة صحف وآراء

  الشرع وتأجيله الاستحقاقات الدستورية: مخاطر على الوحدة الوطنية

    * منير الربيع

تشكّل سوريا نقطة ارتكاز في تحولات دول المشرق العربي. وهي التي ستكون مدخلاً تأسيسياً لمستقبل المنطقة. فلسطين هي القضية المركزية والتي تسعى إسرائيل إلى إنهائها. ولطالما ارتبطت القضية الفلسطينية بموازين قوى عربية وإقليمية، لذلك فإن أهمية الوضع في سوريا لا تنفصل عن أهمية الوضع الفلسطيني ومستقبل الفلسطينيين، في ظل المساعي الإسرائيلية الدائمة لضرب كل الحواضر العربية. في سوريا، صبّ مشروع “ضرب النفوذ الإيراني” في المنطقة بهذا الاتجاه. فهي نقطة الارتكاز والمنطلق وخط الإمداد الذي قطع عن حزب الله. لم يكن لسقوط نظام بشار الأسد أن يتحقق لو لم تحقق إسرائيل ما حققته في لبنان من خلال ضرب بنية حزب الله العسكرية وكبار قادته. فاستكمل المشروع انهياراً في دمشق وصولاً إلى قطع طريق الإمداد، مع ما يرافقه من انعكاسات على الساحة العراقية، وعلى إيران بالتحديد كدولة، نظام، ومشروع.

الاستقرار والمشروعية

في الصورة الإقليمية وتوازنات الوضع في المنطقة، فإن سوريا هي التي ستتصدر المشهد. وتأثيراتها ستشمل لبنان، الأردن، العراق، وفلسطين. المواقف التي يعلنها قائد المرحلة السياسية الجديدة أحمد الشرع تشير بوضوح إلى ملاءمتها الجو العام العربي والدولي. وهو يبدي كل الاستعداد للانفتاح على القوى العربية وعلى الغرب، ويركز في اهتماماته على استقطاب شرعية اعتراف العالم به. لذلك يؤكد أن سوريا لن تكون منطلقاً لتهديد أمن أي دولة، لا بل يريد لها أن تكون عنصر صناعة استقرار لدول الجوار. وهذا موقف من شأنه أن يريح العرب ولا سيما دول الخليج ومصر، ويريح الغرب، الذي لا يريد أي مجال للدخول في حروب عربية جديدة ضد إسرائيل.

تلك المشروعية التي يسعى إلى تكريسها، تنجم عن محاولة فرض أمر واقع دولي على الواقع الداخلي. وهو ما يتجلى في تصريحات الشرع بأن الانتخابات الرئاسية قد تحتاج إلى أربع سنوات، بما يتناقض مع متطلبات الشعب السوري الذي كان يتوق إلى الانتهاء من نظام الأسد وفتح المجال أمام الحيوية السياسية، وإحياء مؤسسات دستورية قائمة على الديمقراطية وعلى الانتخابات، لمأسسة العملية السياسية وشرعنتها. وهو على ما يبدو، يريد الشرع تأجيله مقابل التصرف بأنه الحاكم الفعلي طيلة هذه السنوات، على قاعدة “الانسجام” الذي يتحدث عنه. وهذا ما قد يفتح سوريا على مخاطر كثيرة، أبرزها رفض شرائح المجتمع السوري للعودة إلى مثل هذه الممارسات، والحاجة إلى الانفتاح الفعلي على الحياة السياسية، التي تشارك فيها كل مكونات الشعب السوري، على اختلاف الانتماءات السياسية، الطائفية، القومية، والعرقية، خصوصاً أن سوريا دولة معقدة جداً سياسياً واجتماعياً، ولا يمكن للسوريين القبول بالعودة إلى قمقم كان قد وضعهم فيه النظام السابق.

مخاطر منتظرة

صحيح أن الشرع يهتم شخصياً بالتحضير لعقد المؤتمر السوري الوطني، أو مؤتمر الحوار، والذي يريده أن يكون خلال أيام قليلة مع بداية السنة الجديدة، إلا أن الدعوات التي توجه إلى هذا المؤتمر تبدو فردية ولا توجه إلى كيانات سياسية قائمة بذاتها. وهذا سيخلق الكثير من السجالات والاختلافات. هو يريد لهذا المؤتمر أن يكرس نوعاً من المشروعية للمرحلة الجديدة، مع تشكيل لجان منبثقة عن المؤتمر للبحث في المرحلة السياسية المقبلة، وفي كيفية صياغة الدستور الذي يحتاج إلى ثلاث سنوات، على حدّ تعبيره. علماً أن لا أحد يضمن ما الذي سيحصل في سوريا خلال هذه السنوات، لا سيما أن موازين المنطقة ككل تتغير، ويمكن لعوامل كثيرة أن تتداخل وتتقاطع لتؤسس إلى صدامات جديدة على الساحة السورية، بعضها ذات عناوين سياسية ونضالية حول شكل الحكم وتوجهات الجماعات المختلفة. وبعضها الآخر ذات عناوين متصلة بمشاريع إقليمية ومصالح دولية ستتضارب حتماً على الساحة السياسية، وفي حال كانت المشاكل الداخلية قائمة، ستجد القوى الإقليمية المؤثرة فرصها لتأجيجها أكثر.

تأجيل الاستحقاقات السياسية والدستورية إلى سنوات، سيفتح سوريا على أبواب مخاطر كثيرة، وعلى رياح عاتية اجتماعياً، سياسياً، وطائفياً. ودول كثيرة ستجد نفسها قادرة على التلاعب في الساحة السورية، بدءاً من إسرائيل وليس انتهاء بإيران، التي بالتأكيد لن تستسلم بسهولة، وقد تعيد تفعيل تحركاتها وصلاتها مع شرائح اجتماعية سورية كثيرة، في سبيل إضعاف وضع هيئة تحرير الشام ووضعية الشرع، وإعادة الحروب المناطقية أو الطائفية إلى الجغرافيا السورية، وهذا يندرج في صلب ما يثير اهتمام الإسرائيليين الذين يتحدثون أيضاً عن الأقليات وكيفية تعزيز فرصهم وأدوارهم.

المتطلبات الإقليمية والدولية

لمواجهة كل هذه المخاطر، هناك مسؤولية أساسية وكبرى ملقاة على عاتق الشرع نفسه في مقاربته لكل الاستحقاقات المقبلة. كما أن هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الدول العربية والتي يسعى هو إلى التقرب منها وطمأنتها بشكل واضح، ومن خلال تصريحات إيجابية جداً تجاه السعودية بالتحديد، والتي يمكنها أن تشكل عنصر توازن إلى جانب الدول الأخرى، مع كل من تركيا، أو إيران أو أي قوة إقليمية أخرى.

يحاول الشرع أن يتماهى مع متطلبات إقليمية ودولية، تحت عنوان “توحيد البندقية” أو حصر السلاح بيد الدولة. وهو مشروع له عنوان آخر هو ضرب كل “حلفاء إيران” في المنطقة، وخصوصاً في لبنان، بالإضافة إلى إخراج إيران وحزب الله من سوريا، وصولاً إلى العراق الذي يشهد تحركاً حثيثاً تقوم به الحكومة العراقية، مع السيستاني ومقتدى الصدر وشخصيات أخرى، لإيجاد صيغة لدمج فصائل الحشد الشعبي بالجيش، وذلك لتجنب ضربات أميركية أو إسرائيلية، على غرار ما حصل مع حزب الله في لبنان، أو ما يحصل مع الحوثيين في اليمن بهذه المرحلة.
ولكن الشرع وإن كان يسير على هذا المنهج الذي يلقى قبولاً أو ترحيباً خارجياً، إلا أنه في الداخل سيكون بمواجهة تحديات كبيرة، في حال عدم صيانة نوع من الوحدة الوطنية السورية، وفي حال الاتجاه إلى اعتماد النموذج الواحد والمنسجم أو المتناسق. فذلك سيولد تغريبات كثيرة داخل المجتمع السوري، وهو سيكون صالحاً للاستغلال من جهات متعددة، ما سيثبت حينها معادلة قديمة بالنسبة إلى الغرب والأميركيين تحديداً، أن الحكم في الشرق لا بد أن يتراوح ما بين “العسكريتاريا الأوتوقراطية، أو الأيديولوجيا الثيوقراطية”.

*  نشرت على موقع المدن بتاريخ 30 كانون الاول/ ديسمبر 2024

Leave a Comment