غازي العريضي*
“السيِّد” محسن ابراهيم القادم إلينا من سلاسة “السيِّاد” العلماء والفقهاء ورموز الاجتهاد في الدين ورسالاته ودعواته، عرفناه على مدى عقود مـــن الزمن السيّد المفــكّر، المنظّر، المنظّم، المبادر، القادر، اللاعب الماهر، السياسي، الماركسي، الوطني القومي، العربي، الإنساني، الأممي، الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي. ظاهرة استثنائية في تاريخ الحياة السياسية اللبنانية متألقاً بفكره وعلمه ومعرفته وثقافته وجدّيته وحنكته وخبرته وصبره وسعة صدره، وقدرته على الجمع، وحركته في إيجاد المخارج ومواجهة الصعاب والأزمات، مستنداً أيضاً الى سرعة خاطره وظرفه. هذا “السيِّد” بصفاته هذه، استطاع أن يشكل حضوراً بارزاً لبنانياً فلسطينياً وعربياً، وأن يلعب أدواراً هامة في الدفاع عن حقوق الناس، والسعي الى بناء دولة عدالة اجتماعية وقانون ومؤسسات تحميها وتكرّسها، وتناصر القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فجسّد هذا الحضور بامتياز الى جانب المعلم الشهيد كمال جنبلاط في كل مسيرة عمله الوطني ومحطاتها المشرقة، والتي تجاوز فيها كل الحدود الطائفية والمذهبية والفئوية والمناطقية. وعمل على إرساء أسس المشروع الوطني العلماني الديموقراطي الإنساني على مساحة الوطن كله، من خلال التحالفات التي أخذت أشكالاً وأسماء مختلفة، وكانت هيكليتها الأبرز في الحركة الوطنية اللبنانية المبنية على “البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي” في لبنان والالتزامات الوطنية والقومية، المكرّسة ثوابت عروبة البلد وشرف قضية فلسطين.
“السيِّد” محسن ابراهيم، الأمين العام للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية، إلى جانب السيِّد الكبير المعلم الشهيد كمال جنبلاط، ولاحقاً الى جانب الرئيس وليد جنبلاط، جسّد حالة استثنائية في إرساء أسس هذه التجربة الوطنية الاستثنائية الرائدة، ومحاولة إنجاز برنامجها ومنع سقوط لبنان في فخ المشروع الاسرائيلي الرامي أساساً وحتى اليوم الى إسقاط القضية الفلسطينية. “السيِّد” في التنظيم، والمتابعة، والحضور السياسي، والإعلامي، كان مجتهداً ومميزاً، ولو قدّر لتلك التجربة أن تنجح لما كنا نعيش ما نعيشه اليوم من طائفيات ومذهبيات وظلاميات وإرهاب ونظريات، وممارسات على أيدي جهلة وهواة ومخلوقات غريبة عجيبة تتطاول على السياسة وحرفتها وقيمها ومعناها الحقيقي وتتجاوز كل الأصول. لكن الذين قتلوا كمال جنبلاط أرادوا قتل هذا المشروع الوطني والإمساك بمفاصل القرار وأخذ لبنان على قياسهم، اعترفوا لاحقاً بأن المعلم كان على حق، وغرق لبنان فيما هو عليه، دون أن نتجاهل أو نتجاوز الأخطاء الداخلية التي ارتكبت في متابعة المسيرة في مراحل مختلفة كانت صعبة وخطيرة للغاية ودفعنا ثمنها غالياً. لكن عندما نتحدث عن المقاومة ونرى التحرير، لا نستطيع إلا أن نفاخر بتاريخ كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم، وفكر المقاومة ومشروعيتها انطلاقاً من النظرة الى المشروع الاسرائيلي، ولهذا كان ابو خالد في طليعة المقاومين ويدرك معنى موقع المعلم ومدرسته فكان بيانه الشهير في16 أيلول 1982 الذي أعلن مع المناضل الوطني الكبير رفيق الدرب الشهيد جورج حاوي قيام “جبهة المقاومة الوطنية”، ومن المنزل الذي جمعهما مع رفاقهما في القوى الوطنية الى جانب كمال جنبلاط ووليد جنبلاط في محطات العمل الوطني الطويلة، والدفاع عن وحدة لبنان وقضية فلسطين. وهناك التقوا جميعاً مع القيادة الفلسطينية والرمز الوطني نبيه بري وانتقلوا لوداع أبطال فلسطين أثناء مغادرتهم بيروت بعد صمود أسطوري في مواجهة اسرائيل.
عرفت “السيِّد” عن قرب. أبو خالد الرفيق، القائد، الصديق، المحب، كانت ثقة استثنائية بيننا. أكرمتني الحياة بهذه المعرفة والعلاقة. رافقت كبيراً عن قرب. تعاونت معه في الحركة الوطنية مشاركاً في صحيفة “الوطن” مشرفاً على توزيعها وتغطية أخبارها في منطقة عاليه يوم كنت معتمداً للحزب، ثم لاحقاً عندما كلفت بإدارة مكتب الحزب في الجزائر الذي تحول الى مكتب للحركة الوطنية كلها. كانت تجربة غنية علمتني الكثير، ولها صفحات كثيرة في سجل حياتي السياسية. هنا كان التواصل الدائم مع “السيِّد” الأمين العام، ثم كانت العلاقة الوثيقة شبه اليومية أحياناً عندما عدت الى بيروت وكان فيها، وكلفت بالاتصالات السياسية والإعلامية من قبل وليد بك، فاغتنت معرفتي اكثر وكنت قد بدأت أدرك أن لبنان الذي نعرف سيتغّير. قاتلنا لحفظ وجود ومحاولة تطوير الصيغة السياسية. نجحنا في تثبيت الوجود. لكن لبنان تغيّر. كنت ولا أزال أعتبر صمت “محسن ابراهيم” منذ ذلك الوقت “بلاغة” “واجتهاداً” وشجاعة. هذه “الجبلة السياسية” ، هذا الحضور السياسي، هذه الحركة السياسية الدائمة، منكفئة صامتة. إن في ذلك شجاعة. كان يكتب. يفكر. يتابع. لكنه لا يحضر في الحركة. لا يصرّح. لا يخطب وهو البليغ. تلك هي مؤشرات التغيير الكبيـــر. صمتــه موجع. مقلق. غيابه لافت، لأن حضوره يطمئن. أنا من الذين أخذوا عليه ذلك لأنني كنت أستمد الكثير من خبرته ومعلوماته ومواقفه وحضوره وتحليله. كنت أناقشه أسأله عن هذا الأمر وكان بيننا كلمة سر، من باب الظرف السياسي الذي تميز به: ” إتكل على حكمة المسؤولين يا غازي” . أنا لم أتكل بالتأكيد فهذه كانت نكتة من “ابو خالد”، وأنا كنت ولا أزال أحرص على احترام عقلي. وهذه هي نتائج وتجليات حكمة المسؤولين في لبنان مع تسجيل انهيار مريع في مستواها اليوم بما لا يقاس مع ما كان قائماً.
تغيّر لبنان الى الأسوأ. ومع ذلك لن نترك الساح. نحن تاريخنا مشرّف وتضحياتنا كبيرة لا تسقطها أخطاء تؤثر عليها، ويجب أن نتعلم منها. وقد حققنا الكثير ولن نترك أصحاب الشهوات والجهلة والأولاد والتافهين والمتخلفين أو الطائفيين المذهبيين يتحكمون بنا وبتاريخنا وبمستقبل أولادنا وأحفادنا.
فخور بمعرفتي ورفقتي بـ “السيِّد” أبو خالد الحبيب. لكن لي ملاحظة: كنت دائماً أدعوه الى كتابة ونشر مذكراته ويومياته بالقول: هذه ليست ملكك. وهذه قناعة عندي وأزعم أنني كاتب يوميات أمين. أكتب ما أرى وأسمع كما هو وأضع ملاحظاتي في النهاية عليه. كان يدرك أن في يومياته أشياء محرجة وخطيرة. وكل واحد منا وعلى قدر موقعه وسعة اطلاعه لديه هذا الشيء. لكن ما نملكه كلنا ليس ملكنا. أعرف أنـــه كتب، وسجّل، وكان على وشك النشر ثم غيّر رأيه، لكن لا أعرف إذا كان ثمة وصية من قبله في هذا الشأن أو قرار لدى العائلة. آمل أن نقرأ “السيّد” محسن ابراهيم بقلم أبو خالد لنطلع على مسيرة هذا السيِّد الماركسي والميزان الماسي. نعم، محسن ابراهيم كان السيد الميزان وميزان السيِّد كان من العيار الماسي الثمين الدقيق.
مع كل التحية والتقدير والحب والوفاء يا أبا خالد …
26 أيار 2021
*نائب ووزير لبناني سابق
Leave a Comment