*محمد حجيري
“السماء ليست معنا”. ورد عنوان هذه الرواية لأحمد محسن، في خاطري، وأنا أفكر في وتيرة أسراب المقاتلات الاسرائيلية والمسيّرات التي ترمي ما ترميه فوق رؤوس المواطنين اللبنانيين وأجسادهم الهشّة، فتحيلها أشلاء تحت الردم. مئات وآلاف الأطنان من المتفجرات والصواريخ دقيقة الأهداف والقنابل الحارقة والجحيم كله دفعة واحدة، تلك الطائرات التي اخترعها ذكاء الإنسان صارت تستخدم لأغراض تعكس مدى توحشه، وهي الآن ترتكب المجازر في طول لبنان وعرضه.
السماء ليست معنا ولن تكون معنا، إذ يسير المرء بسيارته على الأوتوستراد، إذ ينجو -حتى اللحظة- من هول ما يحصل، يشعر بالخوف والوحشة واللاطمأنينة. ينظر إلى السماء، يتوجس بما إذ كانت الطائرات أميركية الصنع، في السماء التي ليست معنا، ستقصفه أو تقصف هدفاً أو شقة أو مبنى أو سيارة عابرة أو تحصينات ضخمة، أو أنها ستخرق جدار الصوت. فهي مرات عمياء، ومرات تعرف هدفها بدقة، تعرف اسمه ووجهه ورقم هاتفه ونوع سيارته، تقتله أحياناً بمفرده من دون الجالس بجانبه، ومرات لا تني تقتل معه عائلته وجيرانه ومن يحيط به. تنفذ أفكار لاهوت الإبادة أو التوحش التوراتي الذي يتبجح به رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، والذي يقال إن أرييل شارون تلميذ عنده في الإجرام والقتل والمجازر…
العقل الإسرائيلي لم يتخل عن الأساطير التوراتية وعقلية الانتقام في حروبه وتوسعاته، وجعل ما يحيط بكيانه بلداناً مدمّرة مخرّبة، ولا يتوانى بسبب هوسه وجنونه الأمني في جعل الخيال العلمي واقعاً يطبق على الأرض، ويزيد هذا الأمر التطور التكنولوجي وأدوات التجسس والذكاء الاصطناعي، وما يجعلنا نعيش حالة من الذهول والهلع، أمام ما يجري.
شيء من الخوف على الأوتوستراد، بل الكثير من الخوف في كل مكان… وتزيد حالة الخوف ربّما السيارات القلقة التي كأنها تسير هاربة من شيء ما، أو محمّلة بفرش الاسفنج على اسطحها. الانتظار يبدو أقسى من الخوف. الجالسون على درج الكراج الضيق أو عند مدخل مبنى، صامتون يلفهم الحزن، لا يتحركون، كأنهم ينتظرون مريضاً في حالة خطرة في غرفة العمليات، عدا ضيق المكان الذي هم فيه، يفكرون متى يأتي الفرج، متى تنتهي الحرب، ومتى يتوقف القصف ليعودوا إلى بيوتهم وحقولهم، وهم الذين تركوا أرزقاهم وخرجوا إلى التيه والمجهول، حتى الأخبار لا يسمعونها، ولا يشاهدون التلفزيون ولا يعرفون ماذا يجري…
والإسرائيلي في حربه كأنه كان يتحضر للحرب منذ سنوات، ربّما من بعد حرب تموز 2006، وانتظر الوقت المناسب لبدء هجومه وانقضاضه. والاسرائيلي في عقليته وتوحشه لا يني يكرر حروبه الطويلة لتأسيس عقيدته الأمنية.
الحرب التي بدأت حول كاميرات مراقبة وعمود تجسس وحرش زيتون، واستهدفت دراجة نارية، أو سيارة رابيد، في منطقة جغرافية محدّدة في أطراف الحدود الجنوبية، صارت كرة نار تتدحرج، امتدت ألسنتها المستعرة وشظاياها لتطاول كل شيء… ما من مكان آمن في لبنان، بل “مفاجآت” قاتلة كما قال لي صديقي ياسر. الاغتيالات والهجمات وصلت الى الكولا في قلب بيروت، والى كسروان الفتوح وصيدا، عدا الضاحية والجنوب والبقاع، من دون أن ننسى تفجير أجهزة البيجر، ولا تستهدف من ينتمي إلى حزب الله فقط، بل طاولت سنّة وفلسطينيين ودروزاً…
السماء ليست معنا، وبات كثيرون من الفسابكة يدعون لربهم أن يتأخر سقوط المطر قليلاً رأفة بالنازحين النائمين في العراء والخلاء، في خضم دولة منهكة وغائبة ومغيبة دبلوماسياً وإنسانياً وسياسياً.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الاثنين 2024/09/30
Leave a Comment