زكـي طـه
بيروت 19 نيسان 2024 ـ بيروت الحرية
أتى قرار النظام الايراني بالرد على تدمير قنصلية بلاده في دمشق، تحت راية حقها المشروع بالدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي. وقد شكل الرد خروجاً على معادلة الصبر الاستراتيجي التي يلتزمها في التعامل مع العمليات الاسرائيلية والأميركية، التي تستهدف مراكز الحرس الثوري والميليشيات التابعة له خارج الاراضي الايرانية، قبل وأثناء الحرب الحالية. وهي المعادلة التي تحكم أيضاً، أداء قوى الممانعة التي تلتزم قواعد الاشتباك مع اسرائيل، بعد إعلان براءتها من عملية حماس، وتنسّيب معارك المساندة التي تخوضها إلى التكليف الشرعي، للتغطية على خضوعها لتهديدات الادارة الاميركية وعدم الدخول في الحرب.
لكن وزير خارجية ايران لم يتأخر عن الافصاح عن أن عملية الرد على تدمير القنصلية، قد تم إبلاغ واشنطن بها مسبقاً. وأنها ستكون محدودة ولن تتعدى إطار الدفاع عن النفس، بقدر ما تستهدف توبيخ اسرائيل التي خالفت القانون الدولي. وأوضح أيضاً أن بلاده قد أحاطت دول الجوار قبل 72 ساعة بطبيعة الرد الذي ستنفذه.
كان واضحاً أن قرار ايران لا يتعدى إطار الرد على تدمير قنصليتها. وأنه لا يشكل خروجاً على قرار عدم المشاركة في الحرب، وليس دخولاً في معارك المساندة التي يشرف عليها الحرس الثوري. وهو الدور الذي اصبح ذريعة لمسلسل العمليات الاسرائيلية ضد قياداته ومسؤوليه ومراكزه خارج بلاده. لكن تدمير القنصلية وضع النظام الايراني امام تحدي المواجهة المباشرة مع الدولة العبرية، وعرّضه لسيل من الضغوط المتناقضة. بعضها اميركية ودولية تطالبه بضبط النفس، وتحذره من خطورة الرد الذي يمكن أن يؤدي إلى توسيع نطاق الحرب خلافاً لرغبته التي يتشاركها مع اميركا لاسباب مختلفة. وأخرى داخلية، تتصل بالصراع على السلطة بين أجنحة النظام، أو تطالب بالرد دفاعاً عن السيادة الايرانية، لأن الاستهانة بما تعرضت له أو السكوت عليه، سينال من سمعتها ومن نفوذها في المنطقة، لأنه يمثل تهديداً لها. يضاف إلى ذلك مأزق ميليشيات الممانعة، التي تعاني من الأكلاف الباهظة والخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تدفعها، وخشية قياداتها من المفاعيل السلبية على اوضاعها الصعبة، إذا غاب رد ايران وإن بالحد الأنى.
لقد ساهم استهداف اسرائيل مباشرة من قبل ايران، في إعادة تظهير موقع الاولى ودورها وحدود مسؤوليتها عن أمنها، بصرف النظر عن اداعاءات قياداتها، التي تطعن بها وقائع حروبها السابقة والحالية على السواء. كما أعاد التأكيد بأن حماية وجودها وضمان أمنها هما أولاً وأخيراً في عهدة الولايات المتحدة الأميركية، ومعها سائر دول أوروبا الغربية، التي لم تتأخر يوماً عن نجدتها في مواجهة ما يتهددها من أخطار.
لم يقتصر التعامل مع العملية الايرانية على التصدي لها وإفشالها، بل تعداه وخاصة من قبل الادارة الاميركية، إلى إعادة تحشيد قواتها في المنطقة، والمسارعة لقيادة العمليات العسكرية المشتركة مع فرنسا وبريطانيا، لحماية اسرائيل. لكن الأهم كان دعوة قادة الدول الصناعية السبع للانعقاد في قمة طارئة للبحث في خطورة استهداف اسرائيل للمرة الأولى من قبل ايران. لأنه يشكل سابقة خطيرة، تستدعي الوقوف عندها والتعامل معها، من قبل تلك الدول. كما يتطلب أيضا البحث في ما يترتب عليه مستقبلاً حيال ايران. هذا ما أكدته الإدانة الجماعية لها باعتبارها “المسؤولة” عن الارهاب في المنطقة، وقرارات تصعيد الحصار ضدها، ومسلسل العقوبات الجديدة الذي لا ينتهي. في المقابل كان تجديد الدعم لاسرائيل والوقوف إلى جانبها بكل الوسائل والاشكال.
وبقدر ما ظهّرت عملية الرد حجم التأييد الدولي لاسرائيل، كشفت أيضاً مدى عزلة ايران. لكن الاخطر لم يكن في غياب الحد الادنى من التضامن أو التأييد العربي لها وحسب، إنما في التواطؤ ضدها، سواء عبر ادعاء بعض الدول الحياد والمطالبة بضبط النفس وتجنب التصعيد، أو من خلال مشاركة بعضها في احباط العملية العسكرية ضد اسرائيل. ما يعكس حصيلة المضاعفات السلبية لسياسات النظام الايراني، حيال قضايا الوضع العربي والفلسطيني ضمناً، طوال العقود الماضية. والمفاعيل الخطيرة التي انتجها الاستثمار في أزمات البلدان العربية، والتدخل فيها على أسس مذهبية وفئوية. وهي السياسات، التي ساهمت إلى حد كبير في تسعير الانقسامات الاهلية، وفي تفكك البنى المجتمعية والدولتية فيها وتأجيج صراعاتها الداخلية، وصولاً إلى ممارسة الوصاية عليها والتحكم بمصائرها وأوضاعها من قبل ميليشيات ملحقة بالحرس الثوري الإيراني، وصولاً إلى إعلان السيطرة على عواصمها.
لقد أثار استهداف اسرائيل العديد من الاسئلة، التي لا يمكن الركون إلى الاجوبة عنها في ما صدر عن القيادات الايرانية، حول مفاعيل العملية التي نفذتها، وحول تضخيم قدرتها على ردع اسرائيل. ولا يفيد فيها أيضاً سيل الانذارات والتهديدات التي تحذرها من الرد على ما قامت به. لأن المطاعن بها يؤكدها اختلال توازن القوى القائم وحدود ترسانتها العسكرية. كما تعززها الوقائع الميدانية، بدءاً من ابلاغ واشنطن مسبقاً بالعملية واسرائيل استطراداً. إلى نوعية الاسلحة المستخدمة في العملية، التي تحولت منذ اللحظة الاولى اهدافاً جرى تدميرها، قبل أن تبلغ غايتها. انتهاء بالنتائج الميدانية التي لم تُحدث أثراً يذكر.
وما يميز العملية الايرانية هو الصعيد السياسي الذي ظلل رمزيتها العسكرية التي نفذت وفق الشروط الاميركية، ومسارعة القيادة الايرانية إلى اعلان نهايتها، قبل أن يأتي اعلان الادارة الاميركية أنها ليست بصدد مشاركة اسرائيل في الرد عليها. ما يعني ضمنا عدم الاعتراض على قرار الاخيرة بالرد، مقابل السعي بأن لا يؤدي الى توسيع نطاق الحرب القائمة.
وعند التدقيق في النتائج السياسية للعملية، يتضح كيف وظفتها اسرائيل لتبرير وتزخيم حربها على سائر الجبهات التي لم تتأثر بها. وكيف سارعت للاستثمار فيها، من أجل كسب المزيد من الدعم والتاييد الدولي عبر دعوة مجلس الامن للانعقاد فوراً لتجديد شرعية حربها. عدا الإفادة منها لترميم سمعتها السياسية والاخلاقية التي تضررت كثيراً جراء ما ارتكبته ولا تزال من جرائم حرب وضد الانسانية طالت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية.
وفي هذا السياق يقع تنافس الحزبين الجمهوري والديمقراطي في اميركا لتقديم المزيد من المساعدات المالية والتسليحية لاسرائيل بحجة تمكينها من الدفاع عن وجودها، ومواجهة تهديدات ايران وحلفائها. يضاف إلى ذلك أن تحوّل العملية ورقة بيد حكومة الحرب الاسرائيلية ورئيسها، تحت راية أولوية مواجهة العدوان الايراني الرد عليه. واستخدامها وسيلة للتملص من ضغوط قوى المعارضة التي تطالب بانتخابات مبكرة، وأهالي الاسرى الذي يطالبون بتحريرهم. وهو المطلب الذي اصبح ذريعة لمتابعة الحرب على قطاع غزة، ولتسريع العمليات التدميرية تمهيداً لاحتلال مدينة رفح، في ظل الحصار والمجاعة الزاحفة على جموع النازحين الفلسطينيين التائهين بين ركام مدن غزة ومخيماتها، والمطاردين بعمليات القتل الجماعية وبقصف تجمعاتهم وتدمير المنازل على رؤوسهم.
من المؤكد أن العملية الايرانية لم تشكل نجدة للشعب الفسطيني، بقدر ما بررت استمرار الحرب الاسرائيلية عليه. كما هو الحال مع معارك المساندة التي تحولت حروباً متفرعة، دون أن تعدّل قيد أنملة في مساراتها المتواصلة على جبهتي قطاع غزة والضفة الغربية. سواء في البحر الاحمر، حيث تقود الولايات المتحدة حرباً ضد الحوثيين في اليمن يشاركها فيها تحالف دولي. أو على الجبهة اللبنانية التي تشهد حرب استنزاف مفتوحة، يحتكم طرفاها لقواعد الاشتباك برعاية الادارة الاميركية ووساطتها، التي تستهدف ايجاد صيغة حل يضمن المصلحة والامن الاسرائيلي. وهي الجبهة المفتوحة الآن على خطر حرب مدمرة للبنان وفق تهديدات قادة العدو، وتصعيد العمليات التي تطال مناطق واسعة من الجنوب وصولاً إلى البقاع الشمالي.
وعليه، فإن كل المعطيات والتقديرات تؤشر إلى استمرار الحرب الاسرئيلية على سائر الجبهات. وأن المنطقة مقبلة على تغيرات بالغة الخطورة على نحو يطال مجمل أوضاعها. وخلافاً لتقديرات وتبسيطات بعض الانظمة، التي تبحث عن مواقع لها في اطار تسويات لا مكان لها راهناً. يبدو جلياً أن التوجه الاميركي هو رعاية وإدارة مسارات تفكيك كيانات ومجتمعات المنطقة التي تفتقد للحد الأدنى من الحصانات الداخلية، بما فيها أيران. في ظل انعدام قدرة أنظمتها وحكامها على حماية بلدانها من التلاعب بوحدتها. وهي السياسة التي اعتمدها النظام الايراني لتعزيز نفوذه وفرض هيمنته على بلدان الجوار العربي. وقد انتهت ساحات مشرعة للصراعات والحروب التي تتقاطع بنتائجها مع أهداف الحرب الاسرائيلية المفتوحة على إعادة النظر بأوضاع بلدان المنطقة، ورسم خرائطها على نحو يتوافق مع المصالح الاستراتيجية الاميركية التي تشكل اسرائيل ركيزة ثابتة فيها.
إنه الواقع الصعب والوضع الأشد خطورة على أوضاع ومصير كيانات المنطقة، وهو أيضاً زمن التحديات الكبرى في مواجهة الاخطار الزاحفة، والتي تستدعي إعادة النظر بالسياسات والمعارك القائمة، مدخلاً للبحث في التعامل مع المرحلة المقبلة.
Leave a Comment