بقلم عائدة خداج أبي فراج
حين خطوت خطوتي الأولى داخل ” غاليري جانين ربيز” الذي يستضيف معرض الفنانة التشكيلية عايدة سلوم،”وشوشات” ، انتابني شعور غريب كان يلازمني كلما قرأت قصيدة الشاعر الرومانتيكي وردسورث “النرجس البري”، الذي استوقفه منظر حقول النرجس الذهبية وهي تتراقص على وقع موسيقى كونية، تتمايل بأجسادها، وتتطاول برؤوسها جذلة فرحة بلقاء الشاعر، كأنها مضيف أضناه طول الانتظار فاحتفل منتشياً بمراسم الاستقبال.
هكذا تفتح لوحات الفنانة الرقيقة عايدة ذراعيها لاستقبالنا، تمسك بيدنا، تقودنا الى فسحة الضوء والأمل بعدما كنا قد حشرنا قسراً لأشهر في البيوت كفئران التجارب في انابيب المختبرات. ثم يتسع امتداد الضوء ليعيد نبض الحياة الى بيروت الغارقة في ليل بهيمي، والى منطقة الروشة بالذات التي شكلت مخبأ اللؤلؤة التي حاول الجميع سرقتها.
وفي فسحة الضوء، تحتار العين في التجوال بين روعة الألوان وانسجامها، وبين رمزية الإيحاءات وتألق الريشة في نقل مكنونات الذات التي تنفعل وتتفاعل في دخيلة الفنانة.
من خلال اللوحة تحاول الفنانة ان تخرج من رحم الواقع المرير، وان تقطع حبل صرتها كي تتخلص من ترسبات راكمتها الذاكرة عبر عقود، وتمسك بطرف خيط ضوئي يحررها من الذات، كي تتوحد وهذا الكون الفسيح في مسار تصاعدي شائك تعترضه خيوط عامودية وافقية، تتواجه وتتقاطع أحياناً لتشكل ادراجاً لونية تتسلقها الفنانة كي تلامس الضوء.
وكما يلملم الشاعر كسر الحروف ليصرفها كلمات وأبيات، وكما يلاعب الموسيقي الاوتار لتصدح الموسيقى وتلامس شغاف القلب، هكذا تحيك عايدة سلوم نتف الألوان وترصفها على القماش، تكثفها طبقة فوق طبقة في عملية خلق ابداعي لنسيج لوني متماسك البنيان شكلاً وإيحاءً.
وتكثر الوشوشات بين الفنانة ولوحاتها، وبين اللوحات أنفسها فتتحلق في مجموعات حسب تآلف ألوانها. ففي الثلاثية الاولى من اللوحات تتلامح للرائي “ظلال الضوء ” حيث يطغى اللون الاسود، لون القتامة والمعاناة والحزن على حبيب وزوج وصديق ورفيق، وعلى وطن اقعده الانفجار، وتراكمت فيه المآسي، وتلبدت في سمائه الغيوم المكفهرة المنذرة بالأعاصير، التي تحجب الرؤية وتبدد الأمل. تغمس الفنانة ريشتها في مداد أسود، ثم تتدرج الالوان والظلال المكحلة بالنور صعوداً من رحم المعاناة. تحاول الفنانة خرق جدار الذاكرة؛ تحمل فرشاتها ولفافة من الشاش الابيض تضمد بها جراح القلب وجراح الوطن في محاولة فنية ذات تقنيات عالية وفرادة جمالية. وفي الذاكرة شعاع أمل غائر في الأعماق تحاول الفنانة انتشاله والصعود به الى فسحة الضوء.
وتزول الغيمة المكفهرة تدريجياً بعدما تمطر لوحات تعكس مرحلة التصالح مع الذات واعادة ترميمها. ففي المجموعة الثانية تشكل لوحة ” نسيج الجذور ” مناجاة صوفية بين الارض والسماء. وفي لوحة” نسيج الضوء” يتزاوج اللون الاحمر واللون الازرق، أي نار هيرقليطس وماء طاليس في جدلية عنصري الطبيعة الاساسيين. وتلاحق الفنانة مسار الضوء فتتخذ الخطوط العامودية والأفقية أشكال أدراج تتسلقها لتتحرر من رواسب الماضي، وأوشام الذكريات في مسار تصالحي مع الذات. ثم تتابع الفنانة غزل الالوان في “مسارات” التي يتواجه فيها خطان: واحد صاعد من الارض واخر هابط من السماء يرمزان الى وحدة الوجود واندماج الذات في الروح الكونية.
لوحة من بينها وفيما يتبقى من اللوحات، يغلب اللون الرمادي المطرز بتلوينات خفية ولكن لافتة ورائعة، تشدك “وحيداً يمضي، وحيداً يضيء”، وهي لسان حال الفنانة التي وعلى الرغم من محاولتها الافلات من ذاتها ومن تراكمات الذاكرة والامساك بطرف الخيط للوصول الى فسحة الضوء، بقيت وحيدة انما برفقة شعاع أمل يؤنسها، يختلج في عميق الذات، يبحث عن امتداده الكوني الأزلي الابدي.
وهكذا عادت الفنانة عايدة سلوم بعد غياب طويل الى الساحة الفنية، لتتألق من جديد بإضافاتها الرائعة الى الفن التشكيلي وبنسيجها اللوني المنمنم الأخاذ.
Leave a Comment