مجتمع

الخلاص الوطني الذي نريده

حسين صلح

 بعلبك 23 أيار 2024 ـ بيروت الحرية

كان للعامليْن الديني والثقافي أثرهما الكبير على الحياة العامة في لبنان منذ تشكل الكيان والصيغة،  وقد عرف لبنان سنوات من الهدوء والاستقرار، وسنوات من الصراعات والحروب تتفجر بفعل العوامل الداخلية والخارجية. وبدا المجتمع اللبناني عبارة عن مجموعات طائفية مذهبية التصقت باصطناع إلى بعضها البعض منذ نشوء نظام المتصرفية ١٨٦١- ١٨٦٤ إلى إعلان دولة لبنان الكبير،  وبالتالي تحقيق الاستقلال عام ١٩٤٣،  وبدا لبنان من الخارج كيانا موحدا يسوده الأمن والازدهار ويعيش شعبه حياة ديمقراطية تفتقدها دول المشرق العربي، كما تمتع أهله بأسلوب حياة مميز في العاصمة بيروت، لكن هذا الواقع المريح الذي عاشه اللبنانيون سرعان ما تعرض للإهتزاز باندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٧٥، وانهارت شرعية الدولة الواحدة وحلّ الانقسام بين الطوائف، وظهر لبنان عن بعد وعن قرب ، مناطق تتصارع وطوائف تتناحر  وضحايا للصراع بعشرات ألآلاف، إضافة إلى هجرة مئات الآلاف من اللبنانيين إلى عالم الاغتراب طلبا للأمن والعمل. وبانتهاء الحرب الأهلية عاد اللبنانيون إلى الإجتماع والإلتصاق في ما بينهم بعد إتفاق الطائف الذي عكس تصورات اللبنانيين أنفسهم كجماعات مختلفة لذواتهم وهوياتهم وطموحاتهم وأحلامهم ومستقبل بلدهم الصغير، ومنذ نشوء دولة لبنان الكبير ١٩٢٠ – ١٩٢٧، وهم يحملون هذه التصورات المختلفة عن أنفسهم كجماعات لا كشعب واحد، وسواء فُرض عليهم لبنان الكبير من قبل الإنتداب الفرنسي، أم إن اللبنانيين آنذاك كجماعات توافقوا عليه وارتضوه لأنفسهم، وعاشت الجماعات اللبنانية مع بعضها البعض وتفاعلت وطنيا سنين طويلة في ظل الكيان الكبير، وكانت تختلف أيضا من حين إلى آخر، ثم تتوافق وتقبل واقعها راضية مرضية فترات أطول. إن العيش المشترك طبع الحياة اللبنانية بخصائص معينة خاصة به ضمن عالم عربي واسع تربطه روابط مختلفة، وكان للعيش المشترك مشكلاته الإقتصادية والإجتماعية والسياسية نتيجة تطوره وعامل الزمن الذي يفعل فيه، وكانت هذه المشكلات تتطلب التفتيش عن حلول واقعية والتوافق عليها وليس بالاختلاف والانقسام، لكن تصور اللبنانيين عن ذواتهم كجماعات مختلفة وأوهامهم كطوائف ومذاهب وأيديولوجياتهم الراسخة أفقدتهم صوابهم السياسي والعملي ورؤيتهم للمخاطر التي تحيط بمصيرهم الوطني المشترك.

وكان للعامل الديني والثقافي الأثر البليغ في إنقسام اللبنانيين عند كل منعطف سياسي يتعرض له لبنان ، ولكي يتجاوز اللبنانيون هذا الإنقسام لابد من إعادة النظر بالتصورات الذاتية للطوائف والمذاهب، وأن نمعن التفكير في أوضاع لبنان كيانا وصيغة،  وأن يغادر الجميع فرضية أن كل واحد من الجماعات اللبنانية قادر على أن يفرض تصوره ومشاريعه وأفكاره على الآخر. هذا التوجه يشكل الأساس القوي لبناء صرح الوفاق الوطني والديمقراطي في لبنان. ويتبع ذلك البحث عن حل المشاكل السياسية وغيرها من منظار جديد، لا سيما وأن اللبنانيين يعيشون في إطار كيان واحد منذ العام ۱۹۲۰، وأنهم مهما اختلفوا وتباعدوا وتصارعوا فمفروض عليهم أن يعيشوا في دولة واحدة، وأن يفتشوا عن أفضل السبل لصيغة عيشهم المشترك مع إستخلاص العبر والحقائق من حروبهم التي لا نهاية لها، والقابلة للتجدد بين حين وآخر، وأن يعتبروا وفاقهم الوطني أبدي لا مؤقت، وأن يكفوا عن اصطناع الحروب التي لا تجلب إلا الخراب والدمار للوطن أرضا وشعبا، وأن يستفيدوا من تجارب الشعوب، وكيف تمكنت من بناء سلمها ونظامها السياسي: كسويسرا وإسبانيا وغيرها

ولكي لا نستمر في عقد التسويات الطائفية الظرفية التي يعقدها زعماء الطوائف، وتبقى هذه عرضة للإهتزاز وللإختلال، حيث تسنح ظروف جديدة أو تطرأ مستجدات جديدة بدلا من أن تصوغ نخبتهم المثقفة وقياداتهم وأجيالهم الجديدة نوعا آخر لوفاقهم الوطني، وأن ينسجوا علاقات سياسية وديمقراطية جديدة. تقيم ركائز قوية لمجتمع مدني تتعزز فيه الممارسة الديمقراطية، ويصبح الصراع السياسي ديمقراطي بامتياز، وتتداول السلطة بالطرق الديمقراطية وبما تأتي به من نتائج الإنتخابات.

إن خلاصنا الوطني الذي نبحث عنه ونعمل من أجله يتجسد في بناء وطن حر ديمقراطي يعتز فيه المواطن بإنتمائه وإنتسابه إلى وطن وليس إلى طائفة، هكذا ننجح في جعل العامل الديني والثقافي رسالة إنسانية وحضارية تدفع بالأوضاع المماثلة لمجتمعنا من اعتماد النموذج الذي إرتضيناه لكياننا وعيشنا المشترك .

Leave a Comment