ياسر هلال*
أشرنا في الجزء الأول، إلى أن السبب الحقيقي لإحجام الشركات عن المشاركة في دورة التراخيص الثانية، هي وجود نزاعات حدودية على 6 من 8 بلوكات معروضة للتلزيم. وتعرضنا إلى الترسيم مع قبرص باعتباره معضلة سياسية بسبب النزاع القبرصي التركي على البلوكات المحاذية للبنان. ونتعرض في الجزء الثاني إلى الترسيم مع سوريا، باعتباره معضلة سياسية أيضاً.
حان الوقت لتسمية الأشياء بأسمائها: النزاع حول ترسيم الحدود البحرية مع سوريا سياسي، والحل سياسي. أما رسم الخرائط والخطوط استناداً إلى اتفاقية قانون البحار، أو اللجوء إلى القضاء الدولي، فهو مضيعة للوقت وذر للرماد في العيون. والمطلوب إما ابتداع حلول من «خارج الصندوق» كالتركيز على المكامن المشتركة والخروج من نغمة السيادة، فلا سيادة في المناطق الاقتصادية الخالصة. وإما انتظار التسوية الشاملة في شرق المتوسط.
لنضع الترسيم مع إسرائيل جانباً، فقد بات أسهل بعد توقيع الاتفاقية معها. وذلك على الرغم من أن الاتفاقية “تفك أسر” البلوك 9 فقط. وليبقى البلوك رقم 10، موضع نزاع لأن الاتفاقية لم تلحظ حلاً نهائياً للنقطة البرية، مع تمسك إسرائيل بما يعرف بخط الطفافات.
أما البلوك رقم 8، فهناك تساؤلات كثيرة بشأنه غير الخلاف المتوقع بين لبنان وإسرائيل وقبرص حول النقطة الثلاثية. ومن هذه التساؤلات؛ عدم امتلاك لبنان بيانات المسح الجيولوجي (الداتا). حيث يتردد أن شركتي “سبكتروم” و”بي.جي.أس” سلمتا البيانات إلى إسرائيل وليس إلى لبنان. وهناك تصريح شهير لمدير معهد المسح الجيولوجي الإسرائيلي يؤكد فيه احتواء منطقة الحدود القبرصية ـ الإسرائيلية ـ اللبنانية مخزونات كبيرة من الغاز، يقدرها بحوالي 300 – 400 مليار متر مكعّب. وإذا صح ذلك وتبين وجود مكامن مشتركة في هذا البلوك، فيتوقع أن يشهد الترسيم نزاعاً مريراً مع قبرص وإسرائيل.
سوريا: خرائط وعقود “ربط نزاع”
بعيداً عن تفاصيل الجانب القانوني للمنطقة المتنازع عليها بين لبنان وسوريا. وبعيداً عن سيل الخرائط والخطوط المتوقع تدفقه من قبل “خبراء الترسيم” ومصمي الغرافيك Graphic designers. فإن النزاع سياسي، والحل سياسي.
ويمكن اختصار الجانب القانوني ـ الفني، بكلمة واحدة وهي “ربط نزاع” إذ قام لبنان بترسيم حدود منطقته الاقتصادية الخالصة بشكل أحادي في 2007. وإيداع الترسيم لدى الأمم المتحدة في 2011. واعتمد هذا الترسيم القواعد والمعايير المنصوص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. وأبرزها قاعدة خط الوسط.
أما سوريا، التي سجلت في العام 2014 اعتراضها لدى الأمم المتحدة على الترسيم اللبناني، فقامت بدورها وبشكل أحادي أيضاً بترسيم حدودها البحرية مع لبنان، معتمدة مبدأ خط العرض. وبررت ذلك بأنها لم تنضم إلى اتفاقية قانون البحار. واختلاف المبدأ المعتمد خلق منطقة متنازع عليها تتراوح مساحتها بين 750 و 1000 كلم2.
وتعقدت الأزمة في آذار 2021 حين صادق البرلمان السوري على العقد الموقع في العام 2020، مع شركة “كابيتال” الروسية. ويمنحها العقد حقاً حصرياً للتنقيب عن النفط في البلوكات السورية الثلاثة، بما فيها البلوك 1 المتداخل مع البلوكات اللبنانية. علماً أن سوريا كانت قد أطلقت في العامين 2007 و2010، دورات تراخيص في البلوكات الثلاثة.
يمكن القول بالاستناد إلى التسلسل الزمني لتطورات الترسيم واطلاق دورات التراخيص وتوقيع العقود، ان سوريا ولبنان كما بقية دول شرق المتوسط يعتمدون سياسة “ربط النزاع” وتجميع أوراق القوة بانتظار موعد “حكي الجد” عن الترسيم والتسويات.
الحل ينتظر اصطفاف الكواكب
لا يستقيم أي حديث جدي عن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسوريا، أو بين دول شرق المتوسط عموماً، بدون حصول توافق سياسي وتقاطع مصالح ومعطيات متشابكة تؤدي إلى حصول تسوية شاملة. وهذه التسوية تتطلب اصطفافاً للكواكب أكثر انتظاماً وأطول مدة من الاصطفاف الذي أنتج اتفاقية الترسيم مع إسرائيل.
ويمكن اختصار التقاطعات واصطفاف الكواكب المطلوب كما يلي:
ــ الكوكب الروسي: ستحدد كيفية انتهاء حرب أوكرانيا، مكانة روسيا كدولة كبرى أو مجرد دولة إقليمية. كما ستحدد دورها في مجال الغاز في سوريا ولبنان. وإمكانية تعزيز الدور الذي كانت تخطط له حين دخلت في كونسورتيوم البلوكين 4 و 9، عبر شركة “نوفاتك”. وحين وقعت عبر شركة “روسنفت” عقد تأهيل وتشغيل منشآت النفط في الشمال. وكذلك حين وقعت عبر شركة “كابيتال” عقد التنقيب في سوريا.
ــ الكوكب التركي: كيف سيكون شكل التسوية الموعودة بين اليونان وتركيا وقبرص. فهل تتنازل اليونان في بحر إيجه، عن مجموعة الجزر الثلاثة القريبة من تركيا خاصة مجموعة جزر دوديكانيسيا الجنوبية التي تضم الجزيرة السحرية كاستيلوريزو (مايس بالتركية). الأمر الذي يزيد تلقائيا مساحة المياه البحرية التركية بحوالي 150 ألف كلم2. مقابل تنازل تركيا في الملف القبرصي. ما يفتح المجال واسعاً لترسيم حدود قبرص مع سوريا ولبنان.
ــ الكوكب السوري: هل لسوريا مصلحة في الترسيم حالياً أم تفضل تركه كورقة مهمة في ملف التسوية الشاملة وإعادة الإعمار ودورها الإقليمي. وليصبح الترسيم «الحصان الرابح» إذا حصل ما هو متوقع، من توافق مصري تركي خليجي برعاية أميركية على تسوية النزاعات الحدودية في شرق المتوسط. وهل يسهم انتصار تركيا في “استعادة بحرها” بتشجيعها على الانسحاب من شمال سوريا وإبرام تسوية مع النظام السوري.
ــ الكوكب الإيراني: يتوقف تأثيره على جملة متغيرات غير واضحة. أهمها طبيعة التركيبة السياسية، بل طبيعة النظام ربما، في مرحلة ما بعد خامنئي. وطبيعة العلاقة مع سوريا، في مرحلة ما بعد التسوية.
ــ الكوكب الأوروبي: يلعب دوراً مهماً في عرقلة التسوية أو تسهيلها خاصة بين اليونان وتركيا. ولكنه يبقى دائما في الفلك الأميركي.
ــ كويكب النظام اللبناني: كيف ستنتهي أزمة الحكم والنظام في لبنان؟ فهل يبقى الترسيم في عهدة الدولة المركزية إذا تم اعتماد الفدرالية. أم ينتقل إلى “ولايات” طرابلس والبترون وصور. ما يستدعي ترسيم الحدود البحرية ليس مع الدول المجاورة فقط، بل بين “الولايات” والبلوكات البحرية التابعة لكل منها. ولا بد أن يأتي ذلك بالتوازي مع “ترسيم الحدود” بين بشري والضنية (بالمناسبة هل هي زلة لسان استخدام تعبير ترسيم حدود بدل إظهار حدود). ومن يستغرب هذا الكلام ليراجع كيف ولماذا تم الإصرار على اختيار البلوكين 4 مقابل البترون و 9 في الجنوب للتلزيم في دورة التراخيص الأولى. مع استبعاد السبب المعلن، وهو أن الشركات هي التي اختارت.
ويمكن إضافة ما شئنا من الكواكب والكويكبات ورسم العديد من السيناريوهات لحركتها وانتقالها بانتظار اللحظة المناسبة لاصطفافها وإبرام التسوية الموعودة. ولكن المؤكد، أن هذه اللحظة لم تكن عندما قرر لبنان إرسال وفد “رفيع المستوى” إلى سوريا في شهر أكتوبر الماضي لبحث ترسيم الحدود.
القضاء الدولي: “اشتكي.. وسليًني”
في ظل الاحتدام السياسي حالياً وبانتظار الاصطفاف الموعود للكواكب، هل يمكن اللجوء إلى القضاء والتحكيم الدوليين؟
الحقيقة ان هذا الطرح قد ينفع في “ترسيم حدود” المكاسب الحزبية والطائفية والانتخابية، ولكن ليس لترسيم الحدود البحرية. والسبب ببساطة، هو أن سوريا وتركيا لم تنضما إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. ومعروف ان محكمة العدل الدولية ومحكمة إتفاقية قانون البحار، لهما ولاية اختيارية. وإذا وافق الطرفان على الاحتكام لأي منهما، تصبح الولاية جبرية. وتصبح القرارات والأحكام الصادرة ملزمة وغير قابلة للطعن.ولكن هل يعني عدم انضمام أي دولة إلى الاتفاقية، تعطيل مفاعيل القانون الدولي؟
ولكن هل يعني عدم انضمام أي دولة إلى الاتفاقية، تعطيل مفاعيل القانون الدولي؟
توجهنا بهذا السؤال لأحد المراجع في القانون الدولي. وكان الجواب “صادماً في طرافته”، إذ أكد أن عدم انضمام أي دولة للاتفاقية لا يلغى أبداً إمكانية مقاضاتها لحل أي نزاع بحري معها. ويتم ذلك عادة بالاستناد إلى ما يعرف “بالقانون الدولي العرفي” أو بالعربي الدارج “اشتكي وسليني”…
ويشرح معتذراً عن استخدام هذا التعبير، بالقول. المشكلة ان نصوص اتفاقية قانون البحار التي تستند إليها المحكمة، مطاطة وحمالة أوجه. إذ تنص مثلا في المادتين 75 و 83 على أنه “يجب رسم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة بين الدول المتجاورة أو المتقابلة بالاتفاق… من أجل تحقيق حل عادل”. أما معايير العدالة فهي غير واضحة وتخضع لمتغيرات لا تحصى.
وبالنسبة لسوريا ولبنان، وبمعزل عن قوة الموقف اللبناني باعتماد مبدأ خط الوسط وليس خط العرض، فهناك عشرات القضايا الخلافية في القانون والتي لا يمكن حلها إلا بالتوافق “والنوايا الحسنة”.
ويسوق محدثنا، مثالاً على ذلك هو مسألة الجزر (أرواد والأرانب وغيرهما). فهل تعطى تأثير كامل أم نصف تأثير أم لا تعط أي تأثير. وهي المشكلة التي واجهت الترسيم مع إسرائيل والمتعلقة بصخرة تاكيلت (تخيلت). وكذلك، مسألة النقطة البرية، فهل تكون في وسط النهر الكبير الجنوبي إذا اعتبر غير صالح للملاحة. وهل يتم الاعتراف بتغيير عرض النهر عند المصب بسبب عمليات الردم التي حصلت على مدى سنوات.
ويختم بالقول؛ ليراجع المطالبين باللجوء الى القانون الدولي مصير عشرات القضايا العالقة أمام المحاكم الدولية منذ سنوات طويلة. وغالبية هذه القضايا بين دول موقعة على اتفاقية البحار. وليخبرونا عن مصير قضية ضد دولة غير عضو بالاتفاقية وذلك ما أقصده بـ “اشتكي.. وسليني”.
حلول من “خارج الصندوق”
هل يعني ذلك ان الحل هو انتظار لحظة الاصطفاف الموعودة. أم أن هناك إمكانية لابتداع حلول من “خارج الصندوق” في مقاربة ترسيم الحدود مع سوريا وقبرص.
يجيب محدثنا، الإمكانية موجودة بالطبع، ولكنها تتطلب توافر شرطين؛ الأول إخراج ترسيم الحدود البحرية من خانة السيادة الوطنية وشعار لن ننتازل عن “نقطة ماء”. فالسيادة تقتصر على المياه الإقليمية ولا تطال أبداً المناطق الاقتصادية الخالصة.
والشرط الثاني، التركيز بدلاً من “رسم خطوط على سطح الماء”، على كيفية استغلال موارد المكامن المشتركة في حال وجودها. وتشكل مقاربة مصر للمناطق المتنازع عليه مع قبرص واليونان وإسرائيل، تجربة جديرة بالدرس والمحاكاة. كما تشكل مقاربة لبنان لقضية المكمن المشترك مع إسرائيل في البلوك رقم 9، نموذجاً يمكن تعميمه، لناحية تكليف الشركات المعنية مهمة وضع صيغ لتقاسم العوائد. خاصة وان قانون الموارد البترولية اللبناني ينص صراحة على ذلك.
ماذا يحدث في شرق المتوسط؟
لما كان توافر الإرادة السياسية هو العامل الحاسم. فيجدر مراقبة التوجهات الأميركية في شرق المتوسط. وقراءة الدراسات المتتالية الصادرة عن مراكز البحث. وكان آخرها دراسة نشرها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. تضمنت دعوة صريحة لدول المنطقة إلى”عدم إضاعة الوقت بالنواحي الفنية والقانونية لترسيم الحدود، التي يتم توظيفها عادة لإخفاء الصراعات والخصومات. والتركيز بدلاً من ذلك على الجوانب السياسية والاقتصادية والمصالح المشتركة”.
كما يجدر مراقبة تطور التقارب الخليجي المصري التركي السوري بموافقة أوروبية، ومباركة أميركية لإيجاد حلول لنزاعات شرق المتوسط. وكذلك المساعي السعودية لإشراك إيران في هذه الجهود.
قيل: عاقل يقرأ .. وعاقل يفهم.. وعاقل يقرر.
نشر على موقع “طاقة الشرق” https://taqamena.com/
Leave a Comment