ثقافة صحف وآراء

الحبيب الصادق

زهيرهواري

بيروت 4 تموز 2023 ـ بيروت الحرية

رحل حبيب صادق عنا وأدلج عميقاً في تراب الجنوب الذي أحب ونذر نفسه له. رحل بعيداً وتركنا وحيدين في مضارب التيه التي تعصف ببلادنا من أقصاها إلى أقصاها، وأورث لنا سرديته للحياة، وكيف يجب أن تكون صراعاً سلساً وسلمياً من أجل أن تزهرشتلة التبغ، وأن تعلو أصوات عصافير الشوك والتيان في حواكير القمح والدخان ، وأن يحصد المزارعون تعب عرقهم خبزاً وصبيّراً وعناقيد عنب.

لم يترك  حبيب صادق وراءه كماً من الاسرار، كما لم يخلف وراءه ثروة من المتاع التي تعني الناس في حياتهم. لكنه أورثنا تمائمه في دفاتر عمره من أجل أن تكون لهذه الارض حياة، وأن  تكون هي التي نستحق. لم يترك حبيب صادق ميداناً الا وأسرج نحوه حصانه. بدأ حياته في مقارعة الاقطاع القديم معتمداً صندوقة الاقتراع، يقيناً أن الناس لم تعد هي الناس التي تطأطيء رؤوسها وتصمت عندما يمر البيك ويوميء ويتفوه بالكلام. صحيح أنه لم ينجح بعض الاحيان، لكنه حقق الكثير وزعزع أركان ما هو راسخ من زعامات وعادات وتقاليد من أجل أن يكون للصغار مدرسة وبيت وملعب وحذاء وثياب جديدة يخبئونها للمواسم والاعياد التي ينتظرون بزوغها في صباحات باردة. ولأنه تصور يوماً أن زوال هذا الكابوس المطبق يعني التحرر أركن لصفائه، لكنه اكتشف بعد قصير وقت أن هذا الكائن يتلون بألف لون ولون، وإن بأسماء وسمات وممارسات مستجدة، تختلف عما ألفه الناس وتناقله الرواة من كبار السن في دكاكين القرى وسطيحات البيوت. لكنه لم يخرج عن سجيته بل خاض في المعترك يقيناً أن الناس تدرك الغث من السمين، وأنها قادرة على التمييز بين ضوء الصباح وقعقعة المصالح والمكاسب المسروقة من تعب المعذبين ودماء الشهداء وأنين الامهات وصلابة أعصاب الناس. وحبيب صادق دخل الوظيفة العامة معلماً السجناء في معتقلاتهم والمرضى في أوجاعهم عاش وظل مضمخاً بعطر النزاهة. وخرج منها كما كان أمثاله من العصاميين الذين وجدوا في المهمة أمانة يحملونها على مناكبهم بصبر الزهاد وأريحيتهم البسيطة. ولأنه لم يتعب من الصراع الذي كان واضحاً وصريحاً رافق الجنوب في محطات عذاباته يقيناً أن كل الجهات هو، وكل الصمود والمواجهة هم أهله، وأنه كي يؤدي رسالته لا بد له من أن يمد بصره إلى جنوب الجنوب حيث دولة الاستيطان والقهر والمنافي وآلة الحروب العاتية تهدد ماءه وسماءه وترابه وبيوت قراه. لكن فلسطين لا تبقى في حدودها الضيقة، بل تشرع له الابواب على الوطن وما بعد حدوده.

ولذا لم يقف يوماً عند حدود خرائطه الإدارية، بل حمله إلى كل المحافل التي استطاع الوصول إليها، وطنية وعربية. ولم يبخل في ارتياد المنابر والمنتديات التي نقل إليها همومه، وحملته إلى أوجاعها المقيمة، فكان جهده مع الهيئات الثقافية من شمال الشمال إلى البقاع الغربي وراشيا وبعلبك وانطلياس وكسروان وفي اتحاد الكتاب اللبنانيين والعرب، وفي سائر ما بلغه من مطارح ومستمعين ومتفاعلين ومتضامنين. حمل إليها ما جال في خاطره وما يجول في خواطر الناس العاديين من أحلام مؤودة حول شؤون أوطانهم وفلسطين ودنيا العرب ورفض لمنطق الحروب الاهلية العبثية والغنائم الموزعة على المحاسيب والازلام وقد ارتدوا الياقات والعمائم. وبالايدي العارية والاصابع اجتمع الناس على بوابة المتحف يفتحونها بأظافرهم مؤكدين أن هذه البلاد واحدة في زمن الانقسام والتقسيم، وأن من حق أهلها على أنفسهم أولا ً أن يخلعوا القيود التي تنتصب بينهم، وتقيم حواجزها على صدورهم وتحجز مدى أبصارهم. ومن الصراع رأباً لوحدة مفقودة إلى مشاركة العمال في نضالهم من أجل لقمة العيش وحبة الدواء شاركت الهيئات الثقافية في صياغة برامج التحرك مع تلك الكوكبة من المناضلين النقابيين التي تمردت على احكام الانقسام الاهلي ومقصلته.

ويبقى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي صوراً لرواد العطاء من أهله وكتباً ومعارض رسم وأغاني وحضوراً مكثفاً مختلفاً عما هو سائد ورائج. وفي ذلك كله وسواه لم يكن حبيب صادق مجرد إضافة، بل كان المحرك والمنشِّط والمبادر الذي لا يكل ولا يمل، وكأنه خلق كي يكون منذوراً للعب هذا الدور. نراه ناهضاً لهذه المسؤولية ناشراً مع كاسات الشاي عبق الوزال والاندول ورائحة شتلة التبغ على جدرانه وفي كل مساحة تتيسر. ولكن حبيب صادق لم يكن مزوداً بعزيمة أسطورية بقدر ما كان متقدماً الصفوف في زمن كانت فيه الحشود غامرة بالغاضبين من أصحاب الوفاء والعزيمة. منذ سنوات انكفأ حبيب صادق على ضعف الجسد، لكنه ظل حاضراً بطيفه يملي على “أعزائه” دروس الحياة التي خاض. ومنذ أيام قبيل رحيله كنا نساهم في البحث في معقل عمره في نقاش معمق كيف لنا أن نواصل الدور ونملأ الفراغ الذي أخلاه لنا، ونستعيد نبض وجوهر الجنوب في ميدان الثقافة والفكر الديمقراطي العلماني في اطار الوطن، ومن أجله في مواجهة هذا الخراب العميم الذي يلف الوطن بمؤسساته وقطاعاته والنفوس والتفاصيل الصغيرة والبسيطة من عيش أبنائه.

رحل حبيب صادق بعد معارك ديمقراطية في مختلف الساحات، وكأنه شق بسيف من كرم المعشر ودماثة الخلق وعصامية الموقف هذا الليل وأودعنا أمانته دفاعاً عن  الحنوب، ودفاعاً عن وطن أراده معافى لا فضل فيه للبناني على آخر الا بالوفاء لتلك الارض التي احتضنت مئات وألوف الشهداء والمفقودين والمخفيين قسراً، والتي لا يليق بها وبالأحياء على وجهها أن تسقط أسيرة الفريسيين ولصوص الهيكل وقاتلي الاحلام الملونة لاجيال تتلاحق مضمخة بالحكايا وصور الدفاتر المدرسية.

Leave a Comment