إذا كان النقاش الفكري السياسي اللبناني يُختصر، تبسيطاً، بـ”الصيغة” و”التعايش” و”الديمقراطية التوافقية” من جهة، وضرورة تخطّي “الطائفية السياسية” من جهة أخرى، فإن النقاش الاقتصادي ما زال أكثر تبسيطاً واختصاراً: من هو مع اقتصاد السوق والنموذج الليبرالي اللبناني، ومن هو ضدّ النموذج الريعي التابع وغير العادل!
يكاد يكون البناء الفكري النظري والفلسفي أقرب إلى سردية مؤدلجة في الحالتين، وقد تكون الإقفالات على مستوى الحلول نابعة جزئياً من الإقفالات الناتجة عن ضيق النقاشات الاقتصادية.
من هنا، تبرز أهمّية تغيير المقاربات وضرورة الدفع باتجاه إيجاد أرضيّة لنقاش اقتصادي وطني قائم على حيوية الفكر الاقتصادي وغناه (اليميني واليساري، الأرتوذوكسي والإتيرودوكسي) كمقدّمة لتجديد الحياة السياسية والحزبية والدفع باتجاه “نموذج اقتصادي” جديد قادر على حجز دور لبلدنا في الإقليم على ضوء المُتغيّرات الجيوسياسية والجغرافية الاقتصادية.
مقدّمة الدستور اللبناني
(و) النظام الاقتصادي حرّ يكلفل المبادرة الفرديّة والملكيّة الخاصّة
(ز) الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام
من أين نبدأ؟
قد تكون مقدّمة الدستور اللبناني من أكثر المقدّمات الدستورية التباساً وتبسيطاً عند التطرّق إلى النظام الاقتصادي، فهي لا تذكر صراحة أن النظام الاقتصادي هو رأسمالي، بل تَصِفَه بالاقتصاد الحرّ. وهنا الالتباس الأوّل لأن الرأسمالية Capitalism شيء واقتصاد السوق Market economy شيء آخر، ولو جرت العادة على خلط المفاهيم النظرية. في حين عبارة “يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة” تحيلنا إلى فرادة أقرب إلى برنامج استثماري منه إلى مقدّمة دستور. فحقّ المبادرة الاقتصادية Entrepreneurship هو تحصيل حاصل في اقتصاد السوق، لكن من الناحية الدستورية فات المُشرِّع أن يوضح حدود Limitations هذه المبادرة ولماذا رُبِطت بالفرد فقط؟
صحيح أنّ أكثرية الدول لا تُعلِن صراحة في دستورها شكل النظام الاقتصادي، لكنّها تُدرِج في كثير من الأحيان مبادئ ضمن مواد الدستور توضح التوجّهات والقيم الناظمة (العدالة الاجتماعية، المساواة، حق العمل…). في الحالة اللبنانية جاءت الفقرة “ز” من مُقدّمة دستور الطائف في هذا الاتجاه، ولكنّها بقيت أسيرة اللعبة السياسية والتجربة الشهابية (أي توازن في الإنماء والخدمات العامة). الأمثلة كثيرة، لكنّي سأكتفي بدستور دولة الامارات حيث يُعطي المُشرِّع أهمّية أكبر للعدالة الاجتماعية، ويتحدّث عن القطاعين العام والخاص والتعاون بينهما للوصول إلى التنمية الاقتصادية.
دستور دولة الإمارات العربية المتّحدة
المادة 14: تنصّ على مقوّمات أساسيّة للاتحاد وهي: المساواة، والعدالة الاجتماعية، وتوفير الأمن والطمأنينة، وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين، والتعاضد والتراحم
المادة 21: تنصّ على حماية الدولة للملكيّات العامّة والقيود التي ترد عليها وعدم نزعها إلّا في الأحوال التي تستلزمها المنفعة العامة وفقاً لاحكام القانون ومقابل تعويض عادل
المادة 24: تنصّ على أن الاقتصاد الوطني لدولة الإمارات أساسه العدالة الاجتماعية، والتعاون الصادق بين النشاط العام والخاص، وهدفه التنمية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة والرخاء
وإذا اعتبرنا أنّ كلّ دستور له أعرافه غير المكتوبة، فإنّ للدستور اللبناني سرديّة مُكمّلة تستند إلى رؤية ميشال شيحا للبنان ودوره الاقتصادي في كتابه “Propos d’économie libanaise”، وتقوم على التجارة والخدمات بشكل أساسي ودور الوساطة المالية مع الإقليم. ما زالت هذه الرؤية حجر الزاوية عند الفكر الاقتصادي اليميني اللبناني بغض النظر عن جدواها، وقد كُرِّست في عهد الرئيس كميل شمعون والأحداث التي جرت في الإقليم بعد العام 1948. هذا الدور القائم على ما يُمكن تسميته بالاستفادة من الموقع والدور، أو Rente de Situation، توَّج لبنان وسيطاً مالياً وتجارياً منذ آواخر الخمسينيات، وكان يمهّد الطريق له ليصبح وسيطاً صناعياً في سبعينيّات القرن الماضي لولا انفجار الحرب اللبنانية، وقد قام على حساب بعض القطاعات المُنتجة في غياب التخطيط والإنماء، وعلى تفاوتات عدّة أدّت إلى وصمه، من قِبَل اليسار خصوصاً، بالاقتصاد الريعي والاحتكاري والمُعادي للقطاعات المُنتجة، وهو ما سيكون وراء خطاب حرب 1958 وما تلاها من إصلاحات في الحقبة الشهابيّة.
هذا باختصار شديد للإشارة إلى أنّه لم يكن هناك يوماً نقاش فكري استراتيجي حول الدور الاقتصادي اللبناني والسياسات الضرورية لتعظيمه وتفعيل نموّه، إلّا بعض الاستثناءات يميناً ويساراً، مثل موريس الجميّل عند حزب الكتائب، وخبراء الرئيس شهاب الذين كانوا مسيحيين ديمقراطيين مهتمين بالتنمية والتخطيط.
الطروحات الاقتصاديّة، النخب وانقساماتها
لم يكن مفاجئاً صعود طرح يساري راديكالي في وجه لبنان الرسمي خلال الحرب الباردة، من وجهة نظر اليمين اللبناني الذي يستند إلى سياسة السوق الحرّة أو الـ laisser faire, laisser passer، ودولة الحدّ الأدنى Minimal State التي تمتنع عن التدخّل في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. وهذا الانقسام ساري المفعول حتى يومنا هذا على الرغم من انهيار التجربة السوفياتية وتضخّم حجم الدولة إلى حدود استثنائية.
هذا الانقسام الذي تأسّس وتطوّر مع الوقت هو الذي أفقر النقاش الاقتصادي، فبدل أنّ تتركّز نقاشات اليمين حول شكل الليبراليّة المفيدة للبلد، تركّز النقاش حول حماية الدور والقطاعات المُسيطرة. وعند اليسار جرى، خلف ستار أيديولوجي، إحراج النظام والسعي إلى توسيع قاعدة المستفيدين من النموّ الاقتصادي من خلال التصويب على الاحتكارات وتكبير القطاع العام، لكن لم يكن لليسار، بمعظمه، أي رؤية اقتصاديّة جديّة للبلد إلّا مع البرنامج المرحلي للحركة الوطنيّة الذي كانت تحدّياته سياسية أكثر من اقتصادية، وساهمت في النهاية في تفجير الوضع عشية حرب 1975.
والحقيقة أنّ هذا الانقسام استند إلى نخبٍ وآليّات لإعادة انتاجه واستدامته في الحيّز السياسي بعيداً من تطوّر الفكر الاقتصادي المعاصر.
بدأ النموذج الاقتصادي اللبناني بالتغيّر في العقود الثلاث الأخيرة والذهاب أكثر نحو رأسمالية المحاسيب.
من جهة اليمين، ومنذ ميشال شيحا، كان للمصرفيين والتجّار ورجال الأعمال النصيب الأكبر في نحت الخطاب الاقتصادي على اليمين. وحتى يومنا، هناك طغيان للمصرفيين والماليين ورجال الأعمال ونهج الشركة المالية لديهم (Business-Financial approach)، على علم الاقتصاد الذي في جانبٍ منه هو فلسفة سياسية ورؤية لتنظيم المجتمع. لسنا بحاجة إلى كثير من العناء لمعرفة مسارات هذه النخب الأكاديميّة. يكفي دراسة مناهج كلّيات الاقتصاد في الجامعات الكبرى في البلد، لنجد أنّها ليست مُهيّئة لإنتاج فكر اقتصادي بل لإنتاج نخب مصرفية ومالية ورجال أعمال وخبراء محاسبة وتأمين. فمواد مثل التاريخ الاقتصادي، وتاريخ الأفكار الاقتصادية، والاقتصاد السياسي، والعلوم الاجتماعية وارتباطها بالاقتصاد والتنمية، والبيئة، والجغرافيا الاقتصادية، تغيب عن كثير من المناهج. من هنا، نجد قصور نخب اليمين في توقّع الأزمة الحالية، وقصور اقتراحاتهم التي لا ترتقي إلى مستوى التحدّي. الاستثناءات محدودة للأسف (يشوعي وكسبار).
أمّا من جهة اليسار فمن الصعب إيجاد اقتصاديين رفيعي المستوى قبل السبعينيّات. كان يجب انتظار حقبة شهاب والأفواج الأولى من خرِّيجي الجامعة اللبنانيّة أو أوروبا الذين حصلوا على منح جامعيّة وعايشوا ثورة 1968 في فرنسا. فالخطاب الاقتصادي اليساري اللبناني له ثلاثة ركائز نظريّة: الأولى متأتية من المدرسة السوفياتية واستطراداً العالمثالثية (نظم الرأسماليّة التابعة والمشوّهة وتجارب الاشتراكية العديدة التي كانت قائمة على التأميم)، والثانية منبثقة من تجربة شهاب التنمويّة، والثالثة متماهية مع النموذج المركزي الفرنسي وأفكار اليسار الفرنسي وثورة 68. وكلّها نماذج يشكِّل نقلها للنموذج للبناني استعصاءً وتحدّياً نظرياً ليس ببسيط. وما يزيد من راديكاليّة النخب التي تحمل هذا الخطاب هي حقيقة أن معظمها من الوسط السياسي والأكاديمي، ولا تستند بالتالي إلى قاعدة من المصالح الاقتصادية في الواقع اللبناني تجعلها أكثر براغماتيّة.
مع الحرب، وخصوصاً في العقود الثلاث الأخيرة، بدأ النموذج الاقتصادي اللبناني Economic Model بالتغيّر والذهاب أكثر نحو رأسماليّة المحاسيب (أو ما سمّاها البعض الدولة الغنائميّة) Crony Capitalism. وعلى الرغم من ذلك، بقي الانقسام نفسه في الخطاب الاقتصادي السائد، يميناً ويساراً، غير قادر على الارتقاء نظرياً نحو آفاق جديدة.
17 تشرين: بين إعادة الترميم أو الذهاب الى نموذج اقتصادي جديد؟
مع انفجار الأزمة، استمرّ الانقسام السائد. اعتبر اليسار أن النمو ونموذجه Régime de croissance انتهى وانفجر من الداخل، فيما رأى اليمين أنّ الازمة هي نتاج عناصر خارجيّة وتشوّهات في بنية الدولة بسبب هذه العناصر الخارجيّة ذاتها. للأسف، زادت الأزمة الاستقطاب الأيديولوجي، ولم تستطع تحويل الصراع إلى صراع عقلاني حول الحلول والرؤى والمقاربات. من هنا ضرورة الدفع باتجاه تضمين الصراع الفكري والنظري الموضوعات والإشكاليّات التالية:
- قسمة اليمين-اليسار على أساس اقتصادي علمي. أي حول شكل ومكانة الأسواق من جهة، وحجم الدولة وشكلها وأدوارها من جهة أخرى. كلّما توجّهنا نحو الأسواق وآليّاتها للحلّ نكون نذهب يميناً، وكلّما ذهبنا نحو الدولة والأطر التعاونيّة نكون أكثر يساريّة في توجّهاتنا. وقد يحمل أي مشروع مزيجاً من الاثنين. وهنا تطرح مسألة الاحتكارات والتنافسيّة وآليّات تشكّل الأسعار والأجور.
- نحو تضمين المقاربات بُعداً تاريخياً وجيوسياسياً-اقتصادياً لكي نستطيع إعادة صياغة تموضعات وميزات تمكّننا من إعادة صياغة دور اقتصادي في الإقليم، وربطاً بذلك إعادة صياغة علاقاتنا التجاريّة.
- شكل الرأسماليّة التي نريد وأبعادها الحضاريّة وتحدّياتها البيئيّة والاجتماعيّة والمؤسّساتيّة. ليس صحيحاً أنّ هناك شكل أوحد وأمثل للنظام الرأسمالي. وبالتالي علاقة واندماج لبنان بالنظام الاقتصادي العالمي.
- أي دولة نريد لأي اقتصاد ومجتمع؟ وما هي أدوار الدولة ومستوى تدخّلاتها في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي. وبالتالي، تداخل كلّ ذلك مع المستوى السياسي والدستوري والعلاقات بين المؤسّسات الاقتصاديّة والسياسيّة.
- النقد والعملة الوطنيّة والسياسات الماليّة والنقديّة وطريقة تمويل الاقتصاد وسيادة الدولة على كلّ هذا القطاع.
- وأخيراً وليس آخراً، إعادة تنظيم أسواق العمل بالمعنى الواسع للكلمة، لتطال الأجور، والأطر الناظمة، والعمل النقابي، وعلاقات الأجراء وأرباب العمل Rapport salarial، والنظام الضرائبي والضمانات الاجتماعيّة وآليّات تمويلها.
وهنا فقط، سنجد أنفسنا أمام خيارات وتيّارات اقتصاديّة عديدة من اليمين واليسار ووسط اليمين ووسط اليسار. وحده توجّه مماثل يسمح لنا بالارتقاء بالصراع الاقتصادي والسياسي، وتخطّي انقسامات الماضي العقيمة للذهاب نحو نموذج اقتصادي جديد، قد يكون أكثر ميلاً إلى الرؤية الليبراليّة أو اليساريّة، أو قائمٌ على تسوية بين الاثنين. لكن من الضروري الخروج من كمّاشة فساد المليشياوي وتفلّت الأوليغارشيّات وتحالف الاثنين المميت.
Leave a Comment