بقلم عائدة خداج أبي فراج
حين نقلب صفحات تاريخ الحضارات القديمة، تتبدى لنا صورة المرأة بجلاء، ويتكشف أمامنا الدور الأساس الذي لعبته في تاريخ الحضارة البشرية. فكانت تتساوى والرجل في المجتمعات البدائية، ثم أصبحت الممسكة بزمام الأمور في المجتمعات الزراعية، بينما كان الرجل ينصرف للصيد . وهي التي أرست مداميك الحضارة عن طريق استرداد الرجل من ترحال البداوة وتجوال الصيد الى حضن العائلة في القرى القديمة الأولى ، النواة الأولى في تكون المجتمعات البشرية.
واذا عدنا بالزمان 2500 سنة قبل الميلاد، لوجدنا أن المرأة قد لعبت دور المحضر (civilizer) في “ملحمة جلجامش” السومرية، فهي التي حضرت أنكيدو رجل الغاب وصديق جلجامش ملك مدينة أوروك، فأنسنته وإنتشلته من صفاته الحيوانية الغرائزية ، ووضعته به في حضن المجتمع والإنسانية. وهذا ما أكد عليه فرويد قائلا” : “إن المرأة جعلت الرجل إنسانا” اجتماعيا” ودفعته إلى بناء العائلة والتخلي عن الحياة الهمجية”.
ولكن مع تحول المجتمع نحو التجارة وتراكم الثروة، أي الى المجتمع المركنتيلي، بدأ وضع المرأة يتقهقر، وميزان المساواة يميل لصالح الرجل صاحب المال، والسيد صاحب السلطة، لأن المال والسلطة توأمان. وأصبحت المرأة تحشر تدريجيا” في موقع دوني يقتصر على رعاية العائلة، والترفيه عن الرجل وإمتاعه، باعتبارها وسيلة لتجديد النسل ليس إلا.
وبعودة سريعة إلى الحضارات القديمة وإلى الميثولوجيا اليونانية، نجد أن الألوهية لم تكن حكرا” على الرجال فقط، فقد حفلت تلك الحضارات بأسماء الآلهة الإناث. فقد لمع إسم عشتروت في سوريا القديمة، و أفروديت عند الإغريق، وفينوس عند الرومان، وإيزيس عند المصريين، وأناهيتا عند الزرادشتيين، وعشتار عند السومريين، وفي الميثولوجيا الإغريقية كثرت أسماء الآلهة الإناث أمثال مينارفا وأثينا وهيرا وميرا وسيلين و بندورا، وريا المقدسة أم إله الآلهة زيوس وغيرهن الكثيرات.
أما القبائل العربية قبل الإسلام فقد عبدت الثالوث المكي المؤنث: “اللات والعزى ومناة” اللواتي عرفن بـ “بنات الله”. وكانت القبائل العربية تحج الى مكة وتطوف حول الكعبة وغيرها من الكعبات والمواقع المقدسة وتقدم لهن النذور. وشكل “الثالوث المكي المؤنث” مصدر الثروة والسلطة لقبيلة قريش، فاكتسبت موقعاً إجتماعياً رفيعاً.
وعلى الرغم مما قيل عن انتشار عادة وأد البنات الهمجية، وذلك لتجنب وقوع الفتيات غنائم حرب، وتحولهن الى سبايا، إلا أن الأبحاث التاريخية أكدت أن التضحية بالذكور كان معروفاً هو الآخر . وهناك حديث نبوي يقول “أنا ابن الذبيحين اسماعيل وعبد الله”. بعض القبائل العربية كانت تحمل أسماء نسوية مثل قبائل رلى وربيعة وكندة وغيرها الكثير. وبرزت أسماء سيدات كن يتمتعن بمواقع اجتماعية مرموقة. وعلى قبيل المثال لا الحصر خديجة زوجة الرسول و “أم ألمؤمنين”، التي كانت تلقب في الجاهلية بـ “الطاهرة”، وكانت تتعاطى التجارة وتملك القوافل التجارية التي يديرها لها الرجال، ومن بينهم محمد بن عبدالله قبل زواجه منها وقبل نزول الدعوة، وغيرها الكثير من النساء اللواتي كن من الأهمية بمكان.
وقبل أن نتناول موقف الأديان الإبراهيمية من المرأة، سنسلط الضوء على صورة المرأة وموقعها الاجتماعي في الأديان الحية غير الإبراهيمية.
في الهندوسية مثلا”، حددت “شريعة مانو” نهجاً صارماً لسلوك المرأة. ففي الطفولة تطيع الطفلة أباها، وفي الصبا زوجها، وبعد وفاته أبناءها، بحيث تبقى المرأة مرتهنة لإرادة الرجل وسلطته. وكان عليها اطاعة زوجها كأنه إلهاً. ولا يجوز أن تلفظ إسم رجل آخر بعد وفاته أو أن تتزوج مرة أخرى. وبذلك تكون “شريعة مانو” قد جعلت المرأة ملكية حصرية للرجل حتى بعد وفاته.
أما في الفلسفة الصينية القديمة ما قبل الكونفوشيوسية، وتحديداً في “الطاوية” التي أطلقها ألفيلسوف “لاوتسي” على قاعدة ” اليانغ” و “اليين” التي ترمز الى ” التضاد بين الطاقات المختلفة، والإزدواجية الثنائية في الكون التي تتقابل لتتكامل لاحقاً “.
فقد عرفت هذه الفلسفة “اليانغ” على أنه ” قوة ذكرية تتميز بالحركة والدفء والجفاف والإبداع والإيجابية، وتتجسد في الشمس، و كل ما هو مشرق”. اما “اليين” فهي “قوة أنثوية بطيئة الحركة و باردة ورطبة ومظلمة وملغزة و منفعلة، وهي تتجسد في الظلال والأشياء الكامنة”.
وهذه الثنائية تتبدى أيضاً في البشر. فالرجل يشكل الحركة والنور، والمرأة تمثل الانفعال والظلمة. وهي تتجلى كذلك في الأرواح، فالأرواح الخيرة هي ذكرية، والأرواح الشريرة أنثوية. وهكذا تكون “الطاوية” قد كرست المرأة رمزاً للظلمة والشر، وموضعتها في مرتبة دونية، اذا ما قورنت بالرجل مصدر النور والحركة.
اما “الكونفوشيوسية” التي اعترفت بقيمة الإنسان مهما كانت رتبته أو مركزه أو جنسه، والتي حددت العلاقات البشرية والإجتماعية بالفضائل،الا أن إحدى فضائلها كانت تفرض طاعة المرأة المطلقة لزوجها، وتفرض على الزوج السلوك الصالح. فصلاح الزوج يجب أن يقابل بالطاعة. وهكذا بقيت المرأة مرتهنة لسلطة الرجل ومشيئته.
ويقوم “الشينتو” وهو دين اليابان القومي، على مبدأ عملية الوجود التي أبدعها إلهان : إله ذكر وإسمه إيزاناغي، وإلهة أنثى وإسمها إيزانامي، اللذان نزلا عبر جسر السماء العائم من أجل خلق الجزر اليابانية المقدسة. شك إيزاناغي رمحه في الطين فأصبح الطين جزبرة، ثم خرجت جزر اليابان الثماني من رحم إيزانامي. ففي “الشينتو” يتساوى الإله الذكر والإلهة الأنثى في عملية الخلق، ويكتسب جسد المرأة (الرحم) أهمية كبيرة في عملية تكوين الجزر اليابانية. وقد نادت “الشينتو” بالمساواة بين الزوجين وبين الجميع.
وقد تمتعت المرأة في “الأفستا” (Avesta)، الكتاب المقدس للزرادشتيين في بلاد فارس، بالإحترام والتقدير، واحتلت مكانة عالية وفاعلة. ويحتفل أتباع “زرادشت”بـ “يوم المرأة” الذي يطلقون عليه إسم “يوم الملكة”، ولكن لا تقدم فيه الورود الحمراء تعبيراً عن الحب والمودة، بل يتولى فيه الرجال القيام بالأعباء المنزلية ورعاية الأطفال بدلاً عنها، حفاظا” على راحتها وتقديراً لأتعابها وأهتمامها بالعائلة.
وتوالى فيما بعد نزول الدعوات السماوية التي سميت بالأديان الإبراهيمية نسبة لـ “إبراهيم الخليل”، وانحسرت معها تعددية الآلهة، وكذلك ألوهية المرأة التي كانت شائعة في التاريخ القديم. لقد حصرت الأديان السماوية القدسية بالرجال فقط. فإبراهيم هو “الخليل” أي “حبيب الله”، و موسى هو “كليم الله”، وعيسى هو المسيح المخلص “إبن الله”، و محمد هو “رسول الله” وخاتمة الأنبياء، والمهدي هو المخلص المنتظر. ومن هنا نرى أن الأديان السماوية كافة كانت حصرية ذكورية، ألغت دور المرأة الإلهة التي قدستها المجتمعات القديمة. وبناءً عليه، ميزت المجتمعات كافة بين الرجل والمرأة، وموضعت الرجل على كرسي السيادة، بينما حظيت المرأة بمرتبة دونية وتبعية تكبل حريتها.
شكل موقف “الديانة اليهودية” من المرأة انعكاساً للنمط التقليدي السائد في المجتمعات القديمة، وهو موروث السلطة البطريركية، حيث الأب هو رأس الهرم ورب العائلة، الذي تتماهى سلطته وسلطة شبخ القبيلة أو ألعشيرة. ومن الناحية الدينية، يرتبط موقف اليهودية من المرأة بقصة آدم و حواء منذ بدء الخليقة. فحواء هي التي أغوت آدم للأكل من شجرة المعرفة المحرمة. وهي المسؤولة عن الشرور التي حلت بالبشرية بعد طردهما من الجنة بسبب معصية وصية الله، بعد ما غررت بها الحية التي ترمز الى الشيطان والشر في التراثين اليهودي والمسيحي. بينما اعتبرها الغنوسيون (Gnostics) رمزاً للحكمة والتجرد. فهي الوحيدة بين مخلوقات الله التي تخلع جلدها وتجدده، رامزة بذلك الى إستمرارية الوجود. وهي الوحيدة بين مخلوقات الله التي تدخل ذيلها في فمها لتشكل دائرة الحياة الكونية.
وفي الحضارة السومرية، كما في اليهودية والمسيحية، إن الحية هي من أغوت “أنكي” إله الماء والحكمة السومري للأكل من الثمار المحرمة. وهي من سرقت نبتة الخلود من جلجامش. لذلك يقول الرب الإله في سفر التكوين للحية بعدما اعترفت حواء بالقول : “الحية أغوتني فأكلت” : “ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع الوحوش البرية. على بطنك تسعين و تراباً تأكلين كل أيام حياتك”. وتوجه لحواء بالقول : “تكثيراً أكثر أتعاب حبلك. بالوجع تلدين أولاداً. وإلى رجلك يكون إشتياقك ويسود عليك”. (سفر التكوين الإصحاح الثاني)، مكرساً بذلك سيادة الرجل على المرأة، خاصاً المرأة بالعذاب والألم.
وفي (الإصحاح 12)، يقول الرب الإله : “فريضة المرأة التي تلد ذكراً تكون نجسه 7 أيام. أما البنت فتكون نجسة أسبوعين “. وفي (الإصحاح 22) يقول : “الزانية يرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت”. وفي (الإصحاح 23) يقول : “الزانية والكلب نجسان عند الرب”.
وهكذا أصبحت المرأة التي ساواها بالكلب رمزاً للنجاسة، وأصبح قتل المرأة الزانية منوطاً بالرجال لأنهم هم أصحاب السيادة.
أما المتزمت اليهودي المغالي بتطرفه، فيبدأ نهاره بتلاوة دعاء : “الحمد لله الذي لم يخلقني امرأة”، ما يذكرنا بقول لأفلاطون الذي حمد ربه على ثلاث : “لأنك خلقتني حراً وليس عبداً، يونانياً وليس بربرياً، رجلاً وليس امرأة “.
وقد فرض معتقد الوحدة القبلي- الديني الحصري في اليهودية تشريعاً يلزم المرأة بالزواج من يهودي، وحرَّم عليها الزواج بمن تختار من الأغيار إسوة بالرجل، باعتبار أن الأبناء يتبعون دين الأب وليس دين الأم,
ولكن للمفارقة، فإن لآدم كلام آخر عن المرأة، فحين أحضر الرب الإله حواء لآدم بعدما خلقها من ضلعه، قال : “هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي …لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته، ويكونان جسداً واحداً، ثم “دعا إمرأته حواء لأنها رمز كل شيء حي” (سفر التكوين). وبهذا يكون آدم قد ساوى حواء بنفسه بعدما شكلا جسداً واحداً، وجعلها مصدر كل شيء حي.
وإذا عدنا الى الميثولوجيا اليونانية، نجد أن بندورا لم تكن إلهة الشر، بل إلهة الجمال، وصندوقها الذي يحتوي كل شرور العالم، كان هدية زفافها من إله الآلهة زيوس الذي أوصاها بعدم فتحه. وصندوق الشرور هذا كان للإنتقام من البشرية بعدما سرق برومثيوس سر النار من الآلهة. وهكذا تتشارك بندورا و حواء في المعصية.
وقد جعلت المسيحية، كما اليهودية من قبل، المرأة- حواء نموذجاً للجنس النسائي الذي استغله الشيطان لإغواء آدم والتغرير به، كما جاء في قصة آدم و حواء التوراتية. وقد جاء المسيح المخلص كي يفتدي البشر من تبعات هذه الخطيئة، وصُلب ليخلصهم من هذه المعصية – اللعنة. وعلى الرغم من أن المسيحية هي دين المحبة والتسامح والخلاص التي دعا إليها المسيح في خطبة الجبل قائلا” : “أحبو أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وأحسنوا الى مبغضيكم، وصلوا للذين يسيؤن اليكم … لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات “، إلا أن النص الديني في الأناجيل جاء ليميز بين الرجل والمرأة ويخضعها لسلطته,
يقول بولس الرسول في إحدى رسائله : “أيتها الزوجات إخضعن لأزواجكن كما للرب. فإن الزوج هو رأس الزوجة، كما أن المسيح هو رأس الكنيسة، فكما أن الكنيسة قد أخضعت للمسيح فكذلك الزوجات أيضاً لأزواجهن في كل شيء”. وفي رسالة أخرى يقول : “على المرأة أن تتلقى التعليم بسكوت وكل خضوع. ولا أسمح للمرأة بأن تعلم، ولا أن تتسلط على الرجل … ذلك لأن آدم كُوِّن أولاً، ثم حواء. ولم يكن آدم هو من خُدع بمكر الشيطان، بل المرأة التي إنخدعت فأوقعته في المعصية”.
وهكذا يكون بولس الرسول قد كرس مقولة “الرجل رأس المرأة “، يسودها كما يسود المسيح الكنيسة، وبالمقابل يكون قد اجتث رأس المرأة ليجعلها جسداً بلا عقل أو روح.
ولكن هناك الكثير من النصوص الإنجيلية التي تعلي من شأن المرأة مرمزة بمريم العذراء، وتدعو الى احترامها والإخلاص لها. ويحضرنا هنا قول للسيد المسيح حين رأى الحشد يرجم المرأة الزانية : “من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”. وبهذا القول بكون المسيح قد برَّأ المرأة من حصرية الخطيئة، لأننا كلنا عرضة لها. ولكن بقيت النصوص التي طوبت الرجل سيداً والمرأة تابعة له، هي السائدة شعبياً ودينياً.
ونزلت الدعوة الإسلامية وحياً على محمد رسول الله.ومن أروع ما أنزل في القرآن : “ومن آياته أن خلق لكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة”. فهذه الآية تعكس عمق العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة، الزوج والزوجة.
ومع أن الدين الإسلامي لم يحمل حواء وحدها تبعة الخطيئة والمعصية، لكن النظرة الدونية الى المرأة بقيت مرتبطة ببعض الآيات والأحاديث النبوية التي تجعل الرجل سيداً والمرأة مسودة، وباجتهادات وفتاوى الفقهاء ورجال الدين المُجحفة بحقها، وبالموروث الإجتماعي والثقافي للعصر الجاهلي، فوُظف الدين لخدمة التقاليد والأعراف السائدة، ولمصلحة من هم في موقع السلطة. فإن التفاوت بالنصوص المتعلقة بالمرأة، يتصل بزمان انتشار الدعوة ومكانها.
ومن الآيات التي تمسك بها الفقهاء ورجال الدين المتزمتون قوله تعالى : ” الرجال قوَّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من أموالهم. فالحافظات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن وأهجروهن في المضاجع وأضربوهن، فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، أن الله كان علياً كبيراً “. (النساء 34)
وقد ميز القرآن بين الذكر والأنثى في الميراث، ونزلت الآية : ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”.
وقد تمسك المتزمتون من الفقهاء ببعض الأحاديث النبوية التي تحط من قدر المرأة كي يبقى الحل والربط بيد الرجل. ومن أحاديث النبي قوله : “لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”. وجاء في حديث آخر : “يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الإستغفار، أني رأيتكن أكثر أهل النار. أطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، وأطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها من النساء، ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء”.
ومن هنا جاءت النظرة الدونية الى المرأة على أنها فتنة، فاجتهد المتزمتون والمتمسكون بحرفية النص الديني، وأصدروا الفتاوى واعتبروا المرأة مصدراً للفساد والإغراء والإغواء والشرور والفتنة والخطيئة. ونظروا إلى جسدها على أنه عورة و”أداة متعة وإنجاب وخدمة”. ووضعوا الشرف والأحلاق في جسدها وجنسها، متمسكين بمقولة “الرجل رأس المرأة”.
وقد إستغل من هم في مواقع السلطة من خلفاء وأمراء وسلاطين هذه الفتاوى، فأقاموا نظام الحريم، وسدوا على نسائهم نوافذ وأبواب المنازل، وأسدلوا على وجوههن الحجاب. ويلاحظ أن الخلفاء الذين كانوا يتسرون بمئات الجواري، كانوا الأكثر تشدداً على المرأة والأكثر تسلطاً وحرصاً على الشرف والأعراض.
وقد عبر الإمام الغزالي خير تعبير عن هذا الموقف المتزمت بالقول : “أن المرأة هي مخلوق ناقص بالفطرة، مقره البيت، قليل الكلام، لا يخون الزوج، فأن خرجت بإذنه متخفية في هيئة رثة، محذرة ان يسمع غريب صوتها أو بعرفها بشخصها” .
وهذا الكلام ان دل على شيء فأنه يدل على تسلط الرجل – الزوج المطلق، فالمرأة مرتهنة لإرادته، يطلق سراحها متى يشاء، شرط ألا يرى أحد جسدها أو يسمع صوتها، لأن جسدها عورة وكذلك صوتها وشعرها.
وقد عبر عباس محمود العقاد عن الموقف الدوني من المرأة بالقول : “المرأة لا يمكن أن تكون شمساً، وإنما قمر، يعكس معرفة تشرق من عقل الرجل”، مكرساً بذلك معادلة رجل – عقل، و أمرأة – جسد بلا روح، تستمد قوتها من طاقة ذكورية تتحكم بها وتسن القوانين لحماية مصالحها وسيادتها.
وكان رد إبن رشد على هذا الكلام التسلطي والمجحف بحق المرأة بالقول : “إن المرأة عقل معطل، وقدرة مستلبة، وقوة حضارية كامنة”. أي أنها انسان كامل كالرجل تماماً، لكن الأعراف والتقاليد حاصرت قدرتها العقلية، وسلبتها جوهرها الإنساني والحضاري.
وباسم الأخلاق والشرف وستر العورات كان التشدد على وضع الحجاب والنقاب .. والحجاب تقليد قديم عرفته شعوب ما قبل الإسلام .. ومع أن الحجاب كان زياً حصرياً في المعابد ولدى نساء النبي، الا أن القوى المتزمتة، فرضته على المرأة كي تبقى ملكية خاصة للرجل – الذكر.
وقد عبرت غادة السمان عن هذا الواقع الإلغائي لكيان المرأة في قصة “الساعتان والغراب” حين شبهت النساء العربيات المحجبات بأكياس من الفحم المتحركة.
وليس الجسد فقط هو المستهدف، فان إلغاء المرأة كطاقة نضالية ووطنية وإنسانية هو المفهوم الشائع والسائد الذي تتوارثه الأجيال أباً عن جد. وقد عبرت الكاتبة العراقية ديزي الأمير عن هذا الموقف الإلغائي من المرأة في قصة “عمة رفيق”، حين جعلت الكاتبة بطلة القصة المناضلة الفلسطينية تبحث عن إسمها بين الأسماء فلا تجده. فهي منذ إلتحاقها بالعمل الفدائي وهي تعرف بإبنة فلان. وبعد إستشهاد والدها إنتقل صك الملكية الى أخيها، الذي كان أقل شأناً منها، فأصبحت تعرف بأخت فلان. وحين إستشهد الأخ ظنت أنها ستسترجع هويتها السليب، وتسمع إسمها بين الأسماء. ولكن ما لم يكن بالحسبان أنها باتت تعرف بـ “عمة رفيق”، الذي لم يكن قد تجاوز السنتين من العمر.
وجاءت الثورات الكبرى الثلاث : الأميركية والفرنسية والبلشيفية، وسارت المجتمعات نحو التغيير والتقدم على قاعدة الحرية والمساواة وإنسانية الإنسان، فطالت نتائجها الرجال الذين لم تسلم أعناقهم يوماً من المقاصل وحبال المشانق، وأنعكست كذلك ايجاباً على وضع المرأة التي بدأت تتلمس طريقها نحو الإنسانية.
وخطت المرأة خطوات واسعة ووازنة نحو الحرية والمساواة بعد فصل الدين عن الدولة في البلدان المتقدمة، وبفضل شرعة حقوق الإنسان، ونضال أجيال من النساء وصلت الى ما وصلت اليه اليوم. ولكن بقيت معاناة المرأة ماثلة بين التعارض القائم بين تحقيق المرأة لإنسانيتها من جهة، وبين ما تتطلبه منها الجماعة من جهة أخرى.
وبقيت المرأة رهينة نوعين من الإضطهاد :
الأول، هو إضطهاد التقاليد والأعراف التي فرضتها الأنظمة البطريركية الذكورية، المتسلحة بالنصوص الدينية، فأغتالت عقلها وصادرت حريتها باسم الأخلاق والشرف، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً.
والإضطهاد الثاني هو المفهوم البورجوازي الملتبس للحرية والتحرر، فعادت صورة حواء الغاوية القديمة الجديدة الى الواجهة، وتحول جسد المرأة الى سلعة تروِّج لسلعة أخرى. وبذلك يكون قد تم نقلها من خانة الملكية الخاصة، والحصرية للرجل، الى خانة السلعة الإستهلاكية والمستهلكة. وجعل الإعلام جسدها مصدراً للفتنة والإثارة والإغراء، فبهتت صورتها كإنسان عاقل، له أبعاده الفكرية والإنسانية، وتحولت الى إنسان ذي بعد جسدي واحد، طغى على إمكاناتها وقدراتها، التي حاولت إثباتها وناضلت من أجلها . وهكذا أصبحت المرأة التي أطلقت مسار الحضارة ضحية لهذه الحضارة.
ولا تخلو دعاية إستهلاكية من صورة للمرأة، وهي تتعرى وتتلوى مثل الحية الصماء، التي تتلوى ليس على أنغام مزمار الحاوي، بل استجابة لحركته وهو يراقصها. وحولت الموضة وجوه النساء إلى وجوه مستنسخة على غرار النعجة دوللي، يقررها مبضع أطباء التجميل. واستبدل الحجاب بطبقات من المساحيق تحاكي مساحيق المرأة “الغيشا” اليابانية لتعيدها الى عصر الجواري. فماذا بقي من الطبيعي والإنساني، وأين هو الصوت الذي يناديها لتلتحق بركاب الحضارة؟؟
ولكن على الرغم من هذه الثقافة البورجوازية الإستهلاكية، سيتغلب صوت النساء المناضلات على الصعد كافة، وفي شتى الميادين لتغيير المفاهيم والتقاليد المعيقة لتطورها، وفرض قوانين مدنية توحد بين جميع الفئات بمشاركة الرجل وكل قوى التغيير، وصولاً الى فصل الدين عن الدولة، الذي يشكل الإنطلاقة نحو كل أنواع التغيير خصوصاً في عالمنا المتخلف.
ونختم بقول لأحد المفكرين الغربيين الذي حدد إنسانية الرجل بالموقف الذي يتخذه من المرأة ، والذي جاء فيه :
“إن الإنسان الذي يستعبد إنساناً آخر لا يمكن أن يكون إنساناً حراً، بل عبد للخوف والشك والغيرة التملكية ، والحرص على إحتياز البشر كأشياء، وإقتنائهم كأدوات و وسائل”.
ونضيف إن المرأة ليست الجسد الطبيعي فقط ، بل هي الحضاري أيضاً بما هو الفكر. فالطبيعي هو واهب الحياة، وهل من يهب الحياة يبخل بالفكر ؟؟