بول طبر
من الأمور التي لا تزال في النظرية الماركسية مفيدة لدراسة المجتمعات بغرض تغييرها نحو الأفضل، تركيز هذه النظرية على دراسة العلاقات الإقتصادية، أو بصورة أدق، نمط الإنتاج لأنه يشكل مدخلاً أساسياً، وإن كان غير كافٍ، لدراسة المجتمع والمصالح الإقتصادية التي تتحكم فيه، أي المصالح التي تؤثر على العلاقات غير الإقتصادية (سياسة وثقافة وعلاقات إجتماعية، إلخ.)، وتسعى دائماً لتوظيف تلك العلاقات والمؤسسات التابعة لها لخدمة مصالح مالكي وسائل الإنتاج ومن يدير عملها.
ولكن قبل أن نتناول علاقة نمط الإنتاج، أي الإطار المنظم لعلاقات الإنتاج بقوى الإنتاج، بالممارسات والعلاقات والمؤسسات غير الإقتصادية، لنعرِّج قليلاً على مفهوم “نمط الإنتاج” الماركسي، وما طرأ عليه في الأساس من تطورات وتعديلات عديدة ومتنوعة كما تجلتْ في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. من الواضح أن ما حدث للرأسمالية في دول المنشأ، أي أولاً في إنكلترا وفرنسا، ومن ثم في الولايات المتحدة، قد أدى إلى تحويل نمط الإنتاج في هذه البلدان من نمط يعتمد على إنتاج السلع المصنَّعة وتنمية القطاع الصناعي، إلى نمط إنتاج يقوم أساساً على الإستثمار في القطاع المالي والإنتاج المعرفي. ترافق ذلك مع نقل تدريجي للإستثمار في القطاعات الصناعية إلى “بلدان الجنوب”، التي كانت في السابق مستعمرات للغرب الرأسمالي وخاضعة له إقتصادياً وسياسياً. وفي سياق هذا التحول، أصبحت الصين الشعبية بلداً صناعياً تقدر نسبة الأنتاج الصناعي فيه بِـ 32% من مجمل الإنتاج الصناعي في العالم (عندما كان ماركس يقوم بتأليف كتبه الرائدة، كانت نسبة انكلترا من الإنتاج الصناعي تساوي 90% من مجموع الإنتاج الصناعي في العالم. بالمقابل فإن نسبة الدول الآسيوية الآن، ومن ضمنها الصين بالطبع، تعادل 64% من الإنتاج الصناعي في العالم، وتساهم أوروبا بالكامل بنسبة 12 % فقط وما يقارب 24 % للولايات المتحدة) (أنظر مقال ” هل ماركس لا يزال مفيداً؟” لكاتبه
David Fasenfest, in Critical Sociology, 2018, Vol.44(6)851-855.
ويظهر تحليل ماركس أن العلاقة بين مكونيّ نمط الإنتاج، أي قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج هي علاقة ديناميكية (جدلية) تقوم على التناقض: فمن جهة تدفع خصائص اشتغال علاقات الانتاج الرأسمالية (مبدأ الربحية وتخفيض كلفة الإنتاج والتنافس على الأسواق) وسائل وقوى الإنتاج لمزيد من التطور، ويستدعي تطوير قوى الإنتاج تعديل علاقات الإنتاج وأحياناً تبديلها بصورة جذرية، كما يفترض أن يتم خلال الإنتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الإشتراكي – الشيوعي.
ومن مظاهر تأثير علاقات الإنتاج على قوى الإنتاج نشير إلى التصاعد في عملية إحلال المكننة والتكنولوجيا الرقمية بدل اليد العاملة، وصولاً إلى استخدام الرجل الآلي بالكامل أحياناً لإتمام انتاج السلع. نضيف إلى ذلك إختراع الفضاء السيبراني وشبكة الإنترنيت، وتداعيات كل ذلك ليس فقط على تسريع وتيرة الإنتاج والتواصل ونقل المعلومة، وخلق قطاعات جديدة من النشاط الإقتصادي (المعلوماتية وصناعة الهواتف الذكية والمحمولة والكومبيوتر وما إلى ذلك)، وإنما أيضاً التأثير على القوى العاملة في هذه القطاعات وعلى العلاقات فيما بينهم، ومن ضمنها تقليص فرص التضامن والنضال في وجه الشركات التي تشغلهم وتستغلهم.
علاقات العمل التي تستوجبها هذه القطاعات الجديدة (قطاعات إنتاج واستهلاك المعلومة وانتاج المال من المال) تختلف كثيراً عن علاقات العمل في القطاع الصناعي الكلاسيكي الذي كان سائداً في الغرب الأوروبي والأمريكي. وفي هذا السياق يبرز التساؤل ما إذا كان تحليل ماركس للسلعة في كتاب “رأس المال” يصح على السلعة عندما تكون معلومة؟ والأهم ما هي العلاقات الطبقية وأشكال التضامن الطبقي الذي يمكن أن تستوجبه هذه العلاقات بعد ظهور قطاع المال وقطاع السايبر؟
هذه أسئلة تفرضها النظرية الماركسية عن طريق الكشف عما حدث من تطورات لنمط الإنتاج الرأسمالي منذ لا يقل عن نصف قرن، أكان على مستوى البلد الواحد أم على المستوى العالمي (نمط إنتاج رأسمالي معوْلم). ويبدو على هذا المستوى الأخير، أن مهمة تشغيل القطاع الصناعي قد انتقلت بمعظمها إلى بلدان العالم الثالث وإلى الصين بصورة رئيسية.
من الواضح أن مفهوم ماركس لنمط الإنتاج عموماً والرأسمالي خصوصاً، لا يزال مفهوماً يساعد على فهم المجتمعات القديمة والمعاصرة لجهة تطورها الإقتصادي، وتداعيات هذا التطور الدائمة على أشكال التضامن الطبقي والصراعات المتنوعة بين الفئات الطبقية التي تتشكل منه. أما المهم بالنسبة لهذا المفهوم فهو الحل الذي يقترحه ماركس للعلاقة المتناقضة التي تتحكم بنمط الإنتاج الرأسمالي بالإنتقال إلى نمط إنتاج إشتراكي- شيوعي يتم بموجبه إعتاق قوى الإنتاج من قيود علاقات الإنتاج الرأسمالية، وعلى رأسها القيود التي تفرضها الملكية الخاصة لوسائل انتاج والعمل المأجور.
أسارع للقول إن الحل الماركسي المقترح منطقي وعقلاني من دون أدنى شك. هذا إلى جانب كونه يطمح إلى بناء نظام إقتصادي ينتفي فيه إستغلال الإنسان للإنسان، ويضع حداً لاستلاب الإنسان رغم نشاطه الإقتصادي وما تنتجه يداه لتلبية حاجاته وطلباته. لكن التحدي الأكبر أمام هذا النمط الإشتراكي يبقى متمثلاً بكيفية توفير الشروط الإدارية والأطر السياسية الكفيلة ببناء هذا النمط دون الإنحراف به عن طبيعته الإشتراكية المعلنة، أي عن إحقاق هدف ملكية المنتجين لوسائل الإنتاج وما ينتجونه؟!
أمامنا تجارب عديدة تؤكد أن المهمة التاريخية لبناء إقتصاد إشتراكي-شيوعي، هي مهمة مليئة بالمطبات والمشاكل، وما فشل وسقوط الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي الملحق به في هذا المجال، إلا دليل قاطع على ما نسوقه من كلام. وماذا عن النموذج الصيني، هل هو فعلاً اشتراكياً- شيوعياً، وما بالك بالنظام السياسي القائم على حكم الحزب الطليعي الواحد الأحد وعدم خضوع السلطة للإرادة الحرة لـ”المنتجين المباشرين” للثروة؟
ربما تخلف وسائل الإنتاج والقوى المنتجة بما يفوق نسبته في البلدان الرأسمالية يعود بدرجة كبيرة ليس فقط لعدم النجاح في تطبيق مبدأ ملكية المنتجين لوسائل الإنتاج، وإيجاد الصيغة التطبيقية الملائمة لهذا المبدأ الشيوعي الأساسي، وإنما يعود أيضاً للنظام السياسي الممعن في تركيبته البيروقراطية والمتحكم بالمجتمع بجميع مفاصله (بالطبع هذا لا يقلل أبداً من أهمية القفزة الإقتصادية التي حققتها الصين في العقود الأخيرة، وإنما عن طريق إعتماد إقتصاد السوق إلى حد كبير).
عليه فإن التحدي أمام اليسار الماركسي مزدوج: فمن جهة، كيف يمكن تشغيل الأقتصاد وفق مبدأ نمط الإنتاج الإشتراكي- الشيوعي دون التفريط بصفته الإشتراكية – الشيوعية؟ ومن جهة ثانية، ضرورة بناء إطار سياسي ملائم مع مبدأ نمط الإنتاج الإشتراكي-الشيوعي، أي الإطار الذي يمتلك بموجبه الفرد والمجتمع لحريته ولثمار هذه الحرية، إذْ إن المجتمع الإشتراكي- الشيوعي هو مجتمع يقوم على نفي استغلال عمل الآخرين والسيطرة السياسية (والإجتماعية والثقافية) على المجتمع.
يدفعنا هذا الإستنتاج إلى المزيد من نقاش النظرية الماركسية، وكيفية فهمها للعلاقة بين البناء التحتي (نمط الإنتاج) والبنى الفوقية (البناء السياسي وكل ما هو غير إقتصادي من ثقافة وعلاقات إجتماعية ومعرفة، إلخ.). باختصار تقول الماركسية إن العلاقة بين البناء التحتي (الإقتصاد) والبنى الفوقية، هي علاقة جدلية. ويضيف أنجلز، زميل وصديق ماركس، إن البنى التحتية هي المحدد للبنى الفوفية ” في التحليل النهائي” أو في نهاية المطاف. ولقد تم استخدام هذا التوصيف لتسويغ وتشريع التباطؤ في النمو الإقتصادي (حالة الاتحاد السوفياتي مثلاً) وحالة القمع والإستبداد السياسي عبر نظام حكم الحزب الواحد، وإسقاط مبدأ تداول السلطة والإنتخابات الحرة وتأمين الرقابة والمحاسبة الفعلية للجهات الحاكمة (حالة الصين وغيرها من الدول الشيوعية). ويكمل هذا الطرح بالقول إنه ما دام نمط الإنتاج إشتراكي- شيوعي، فإن السلطة والدولة وما إلى ذلك يعكسون الأهداف الإشتراكية مباشرة أو مداورة عبر استخدام مقولة “إن البنية التحتية تعيِّن البنى الفوقية في نهاية التحليل”.
ووفق هذه النزعة الإختزالية في فهم وتوصيف المجتمع بمختلف مستوياته، يتم تجهيل القوى والعلاقات غير الإقتصادية (النظام السياسي وحكم الحزب الواحد الطليعي، إلخ) التي لديها مصالح متنوعة، وقد تكون متضاربة أحياناً مع مصالح القوى والفئات الطبقية المنخرطة في النشاط الإقتصادي.
وإذا كان نمط الإنتاج كما تقدمه الماركسية يفرز المنخرطين في تشغيله إلى فئات ومصالح (أي إلى طبقتين رئيسيتين، طبقة مالكي وسائل الإنتاج وطبقة من لا يملكون سوى قوة عملهم)، فإن القوى والأحزاب السياسية يمكن توزيعها إلى أصحاب مصالح يتصارعون فيما بينهم للوصول إلى الحكم والإحتفاظ بالسيطرة والسلطة المؤمنتين عبر مختلف أجهزة الدولة (الأجهزة التشريعية والتنفيذية وما إلى ذلك). كذلك تنخرط القوى والمؤسسات الإجتماعية والثقافية في الصراع فيما بينها لاكتساب المكانة الرفيعة في هذا المجال والنفوذ الإجتماعي الملازم لتلك المكانة. ويتسع الصراع ليطال في بعض الأحيان المعايير المعتمدة في تحديد “السيطرة السياسية الشرعية والمكانة الرفيعة” في المجالين الثقافي والإجتماعي. وفي جميع هذه المؤسسات والمجالات المخصصة للسياسة وإنتاج الثقافة والمراتب الإجتماعية، ينقسم الفاعلون فيها إلى فئات عديدة ومتصارعة بسبب الأحجام المتفاوتة من “الرأسمال” السياسي والثقافي والإجتماعي الذي يمتلكونه.
إن الإقرار بخصوصية هذه المجالات غير الإقتصادية في الأساس واستقلالها النسبي عن بعضها البعض وعن المجال الإقتصادي، والإقرار بالمصالح والممارسات الخاصة بكل مجال وبطابعها النزاعي (وهذا ما نجده في بعض كتابات ماركس السياسية، ولكن دون أن يرتقي بها إلى مستوى التخلي عن مقولة “تعيين البنية الإقتصادية للبنى الفوقية في نهاية التحليل)، قد أدى إلى الوقوع في النزعة الإقتصادوية – الإختزالية وإلى المضاعفات السياسية (والنظرية) المدمرة لتجربة بناء المجتمع الإشتراكي.
في الختام، أجد نفسي في الوقت الذي استعين فيه بالمفاهيم الماركسية وأنا أكتب عن القراءة الضرورية للتطورات التي حدثت لنمط الإنتاج الرأسمالي وتداعياتها السياسية والإجتماعية في المجتمعات المعاصرة، أقوم بإظهار قصور بعض تلك المفاهيم (العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية) للإحاطة الكافية بطبيعة المجتمعات والعمل على تغييرها نحو الهدف الإشتراكي.
Leave a Comment