لم يكن صمود اللبنانيّين في ثمانينات القرن الماضي مجرّد سيرة شعبٍ يبتكر وسائل بديلة للكهرباء والمياه والاتّصالات وسط جحيم القلاقل الأمنيّة والشقاق الأهليّ، بلّ كان يرفع هذا “التدبير” إلى سويّة “فنّ العيش على حافّة الهاوية”. فبين خطوط التماس المشتعلة نشطت تجارة لا تهدأ، واستمرّ التعليم في المدارس والجامعات بجودة لافتة، وظلّ النظام الماليّ متماسكًا إلى حدّ مقبول، فيما ضخّت الصناعات الثقافيّة – مسرحًا وسينما وصحافةً ونشرًا – جرعاتٍ من الأوكسيجين في جسد مدينةٍ محاصَرة. هكذا تعلّم اللبنانيّون باكرًا كيف يطوّعون الأزمات، ويقفزون من ذاكرة الدم إلى ورشة الإعمار، مؤسِّسين لغةً سياسيّة جديدة أقلَّ تزمّتًا وأبعد عن الأيديولوجيا الصلبة.
من تلك الذاكرة الجماعيّة يطلّ حاضر بيروت المثقل بسنواتٍ من الانهيار الماليّ والسّياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. حيث تبدو العاصمة كمن يجرّ قدميه فوق ركام الحلم، لكنّها تكدّس في المقابل خبرة العيش مع الكارثة. ويتكرّر التناقض المزمن الذي حَيَّر الزائرين قديمًا: شعبٌ شغوف بالحريّات الفرديّة والليبراليّة الاجتماعيّة، وأسيرٌ في الوقت نفسه لغرائزه الطائفيّة العنيفة؛ تناقضٌ تغذّيه منظومةٌ لا يضيرها تشظّي البلاد ما دام صندوق الاقتراع يعيد تدوير الزعامات.
الانتخابات كاختبارٍ مصيريّ
وسط هذا المشهد يُطلّ استحقاق الانتخابات البلديّة في العاصمة بيروت كاختبارٍ جوهريّ لإرادة التغيير. فالمدينة الّتي كانت يومًا صورةً مصغّرةً عن احتمالات الدولة الوطنيّة باتت اليوم أوّل ضحاياها. من هنا حمّل المجتمع المدنيّ نفسه، مرّةً جديدة، مهمّةَ “فكّ لعنة المحاصصة والطائفيّة” عبر خوض المعركة بلغةٍ تعيد السّياسة إلى جوهرها: خدمة الناس. وعلى الرغم من ضراوة الخصوم – تحالف المال والسّلاح والطوائف – برزت لائحة مدنيّة تضع نفسها في مواجهة المنظومة، بموازاة أربعة لوائحٍٍ أخرى، لإعادة بيروت إلى سكّانها.
يتنافس اليوم، على مقاعد المجلس البلديّ الأربعةِ والعشرين خمسُ لوائح تتوزّع بين ائتلافٍ سُميّ بـ”بيروت تجمعنا” يضمّ معظمَ أحزاب السّلطة المتناحرة بقيادة رجل الأعمال إبراهيم زيدان؛ ولائحةٍ يقودها العقيد محمود الجمل مدعومةً من النائب نبيل بدر و”الجماعة الإسلاميّة” باسم “بيروت بتحبّك” (لسدّ فجوة غياب تيار المستقبل)؛ و”ائتلاف بيروت مدينتي 2025″ بقيادة المهندس فادي درويش والمدعومةِ من نوّابٍ تغييريين؛ ولائحة “مواطنون ومواطنات في بيروت، عاصمةً لدولة” غير المكتملة وهي الإبنة الصريحة لحركة “مواطنون ومواطنات في دولة” المنبثقةِ عن مشروع شربل نحّاس؛ وأخيرًا لائحة “أولاد البلد” برئاسة رُلى العجوز والّتي تستند إلى رصيدِ عائلاتٍ بيروتيةٍ تقليدية مطعَّمٍ بكفاءاتٍ شابة.
المدنيون بوجّه أحزاب السّلطة
عمليًّا تتركّز المعركة الانتخابيّة بين قطبين أساسيين، وهي لائحة المدنيين ولائحة أحزاب السّلطة. فمن جهة، تراهن اللائحةُ الائتلافية على “التوازن الطوائفيّ” لاستعادة مجلسٍ عطّلته بنفسها منذ 2016، حين فشلت في إقرار خطةٍ للنقل العام أو معالجةِ النفايات، وتغلّف خطابَها بوعودٍ خدماتيةٍ سريعة؛ غير أنّ سجلّها المثقلَ بانهيار الجباية وفضائح التلزيمات يجعل مهمّةَ تسويقها أشبه بجرّ خطةٍ في الوحل. لائحةُ بدر–الجماعة تستحضر خطابَ “التنوّع والإنماء المناطقيّ” لاستمالةِ جمهورٍ يبحث عن وسَطيةٍ لا تصطدم مباشرةً بالمنظومة، “مواطنون ومواطنات في بيروت” غير المكتملة، تُعلن المعركةَ على “شرعية النظام” وتطرح إعادةَ تعريف دور البلدية كحاضنةٍ للسكن الميسَّر وشبكةِ نقلٍ عامّ تربط المدينة بضواحيها، إلّا أنّها تصطدم بالطموحات الموصوفة بغير الواقعيّة. أمّا لائحةُ رُلى العجوز فتستند إلى رصيدٍ اجتماعي لعائلاتٍ بيروتيةٍ تقليدية، وتَعِد بتطعيمه بكفاءاتٍ شابة من أجل إدارةٍ أكثرَ رشاقة.
في مقابل ذلك، تسعى لائحة “ائتلاف بيروت مدينتي 2025″، الّتي انبثقت من صدمة 2016 حين هزّت “بيروت مدينتي” استرخاء الأحزاب إلى تكرار التجربة مع خبرات جديدة. يقود الائتلافَ راهنًا جيلٌ حافظ على شغفه بالمدينة وشؤونها رغم انسحاقه اليوميّ بالأزمات. تحدّد اللائحةُ خمس ثغراتٍ كبرى أوصلت العاصمة إلى انهيارها: غياب رؤيةٍ علميّةٍ تجعل الإنسان محور التخطيط، انعدام التخطيط الشامل منذ 2012، ضمور الإرادة السياسيّة وانكفاء التنسيق البينيّ، فسادٌ متجذّر يأكل ماليّة البلديّة، وقراراتٌ تنظيميّةٌ تُقصي السكّان وتُفرغ الأحياء من تنوّعها. يردّ الائتلاف على ذلك بخريطة طريقٍ تبدأ في السّنة الأولى بتأمين الخدمات الأساسيّة – كهرباء، مياه، نقل، إدارة نفايات – وتتحوّل تدريجًا إلى تحديث الحوكمة الماليّة والتقنيّة، وربط الوسط التجاريّ بمحيطه، وإطلاق خطّة نهوضٍ اقتصاديٍّ وثقافيّ. منهجيّة العمل هنا تقوم على قياسٍ دوريّ للإنجازات ونشر البيانات، بما يحوّل البلدية إلى مختبر شفافيّة يتيح لكل مواطن معرفة “أين صُرف المال ومَن حوسِب”. في جوهر هذا الطرح يكمن رهانٌ أخلاقيّ: مصالحة بيروت مع بحرها وتراثها، وجعلها مدينةً للعيش والعمل والترفيه معًا، لا مجرد منصةٍ لتراكم الريعيّة.
من معركة ولاءات إلى إدارة حياةٍ يوميّة
رهانُ المجتمع المدنيّ إذن لا يقتصر على اقتناص مقعدٍ هنا أو هناك؛ بل هو محاولةٌ لتفكيك ماكينةِ الزبائنيّة الّتي حوّلت البلدية إلى محفظةِ تمويلٍ للولاءات. فالمجلس البلديّ، دستوريًّا، هو المستوى الإداريّ الأقرب إلى حياة الناس اليوميّة: الأرصفة، شبكات الصرف، حدائق الأطفال، النقل، إدارة النفايات. حين انهارت تلك الخدمات عام 2015 وطفحت الشوارع بالقمامة، تحوّلت الأزمةُ إلى انتفاضةٍ شعبية أجبرت السّلطةَ على التراجع خطوةً إلى الخلف وأطلقت شرارةَ “بيروت مدينتي”. ثم جاء انفجارُ الرابع من آب 2020 ليخرق قلبَ المدينة بانفجارٍ يعادل زلزالًا ويترك 218 قتيلًا و7000 جريح و300 ألف مشرَّد في ليلةٍ واحدة؛ عندها أدرك السكّان أنّ إدارة المدينة ليست ترفًا بل شرطَ بقاء. وفي خلفية المشهد يقف وسطُ بيروت، حيث أعادت شركة “سوليدير” رسمَ الخرائط بشهيةٍ ريعية حوّلت المركزَ التاريخي إلى “جزيرةٍ للفرجة” أرادتها مرآةً لرساميل ما بعد الحرب.
نافذةٌ للامركزية وعقدٌ اجتماعيّ جديد
على الرغم من قتامة الصورة، تفتح هذه الانتخابات نافذةً أمام فكرة اللامركزيّة الّتي توصي بها تقاريرُ التنمية الدوليّة كأداةٍ لكبح الفساد وتعزيزِ المساءلة. فإذا نجحت اللائحة المدنيّة في انتزاعِ الأكثريّة، يمكن لعقدٍ اجتماعيٍّ جديد أن يتشكّل من الأسفل إلى الأعلى: تدقيقٌ جنائيّ في مالية البلديّة، موازنةٌ تشاركية تُقصي الوسطاء، وخريطةُ نقلٍ عامّ تربط الضواحي بالمرفأ الذي لا يزال ينتظر إعادةَ الإعمار، وعيشٌ مشتركٌ حقيقيّ بعيدًا عن الهواجس الطائفيّة الّتي تستثمرها الأحزاب في علاقتها مع المواطنين. عندئذٍ يصبح التغييرُ على مستوى المدينة مختبرًا لخلخلة التسويّة الطائفيّة الوطنيّة الّتي أثبتت التجاربُ أنّها تنهار عند كلّ اهتزازٍ إقليميّ ثمّ تُرمَّم على عجل.
تبقى المعضلةُ الكبرى في إقناع الناخبِ البيروتيّ بأنّ صوتَه قادرٌ على كسر الدائرة الجهنميّة. فالمدينة المنهكة، لا تبحث عن خطابٍ “حداثي” مُفرَغٍ من المضمون، بل عن مؤشراتٍ ملموسة: متى تُستبدَل شبكةُ المياه المتقادِمة؟ كم كيلومترًا من الأرصفة ستُرمَّم؟ مَن يراقب تلزيماتِ النفايات؟ كيف يُحاسَب الموظفُ الفاسد؟ هنا تتقدّم اللائحة المدنية متسلّحةً بمقاربة “المشاريع القابلة للقياس”، مستندةً إلى دروس 2016 التي أثبتت أنّ الفجوة ليست في الأفكار بل في التنظيم والتمويل.
وإذا كان الخصومُ يملكون المالَ والسلاحَ وحمولةَ الطائفة، فإنّ المجتمعَ المدنيّ يراهن على رياضيةِ “الماراثون” لا “مئة متر”: سلسلةُ انتخاباتٍ تراكُمية تخلخل الهيكلَ شيئًا فشيئًا. وهو ما يقلق تحالفَ المال والسلاح لأنّه ينتزع منه امتيازَ توزيعِ الغنائم. ولهذا السبب تتكتّل الأحزابُ التقليديّة -على تناقضاتها الاستراتيجيّة- في لائحةٍ واحدةٍ أو أكثر كلما لاح شبحُ تغيّر موازين القوى على مستوى العاصمة.
لحظةٌ مفصلية تقترب
هكذا تتقدّم بيروت نحو موعدِها البلدي حاملةً خريطةً مدنيّةً في وجه منظومةٍ تُتقن فنَّ تدوير الزعامات. سيراقب الداخل والخارج في آنٍ معًا، ما إذا كانت العاصمةُ الّتي شكّلت يومًا نموذجَ تعايشٍ فعليّ ستنجح في صياغة نموذجِ إدارةٍ مدني يتجاوز خطوطَ 1975 وتوزيعاتِ 1990 القابلةِ للانفجار. ثمة لحظةٌ مفصليةٌ تقترب: إمّا أن يكسر صندوقُ الاقتراع منطقَ “المحاصّصة” وينقل الناسَ من صفة “الزبائن” إلى صفة “المواطنين”، أو تُغلق الدورةُ على خيبةٍ إضافية.
* نشرت بتاريخ 14 ايار 2025 على موقع المدن